This post is also available in: English (الإنجليزية)
في ظل الحرب القائمة، لم يعد بإمكان اليمنيين التعويل على دور الدولة أو “شبه الدولة” في تحقيق حلمهم بإنشاء الدولة المدنية وبداهة أن “الدولة المدنية” يمسك بزمامها رجال ونساء مدنيون، ويمكث العسكريون والأمنيون في الهامش لحراستها وهذا هو الحد الأدنى لإرهاصات “الدولة المدنية” في أية أمة من الأمم لكن ما نراه اليوم هو أن المسلحين يتصدرون المشهد، ويفرضون رؤيتهم للدولة.. التي هي بطبيعة تكوينها دولة عسكرتارية، وتستعين بالمدنيين كأدوات فقط لتمكينها من السلطة وتسيير الأمور ما هو دورنا إذن، نحن كمثقفين، لخلق التوازن؟ أحد الحلول المطروحة هو أن يوحد المثقفون صفوفهم لخلق “المجتمع المدني”. يمكن لـ”المجتمع المدني” أن يقلب المعادلة، وأن يشكل سلطة موازية لسلطة الأمر الواقع، وذلك إذا ما أظهر تماسكاً فعالاً واتحاداً في الرأي والكلمة. حالياً قوى المجتمع مشتتة، وتحتاج أن يقوم المثقفون بدورهم في تنظيم هذه القوى وربطها ببعضها، بوصفهم طليعة المجتمع المدني” المنشود”.
المثقفون هم النواة الصلبة للمجتمع المدني، والقوة الضاربة التي بإمكانها إخراج اليمن من الدوران في فلك النزاعات والحروب اللانهائية، إلى السير في دروب السلام والخير والتنمية وكما أن قوى المجتمع مشتتة، ولا يهتدي بعضها إلى بعض، فكذلك هو حال المثقفين اليمنيين الذين وقعوا في فخ التشرذم والتخندق حول .قضايا لا تعنيهم ولأن القضايا السياسية خلافية، فينبغي على المثقفين طرحها جانباً، التركيز على الفعل الثقافي: الآداب والفنون والعلوم حصراً. إذ لا يليق بالمثقف أن يكون غوغائياً ويجري خلف الحشود التي لا تحكم على الأمور بعقولها وإنما بعواطفها وإذا اتفق المثقفون على توحيد جهودهم حول “الفعل الثقافي” وحده، فإن هذه هي البداية الصحيحة.. واتخاذ وجهة النظر هذه من قبل المثقفين – أيّ الفعل الثقافي حصراً- تعتبر بحد ذاتها موقفاً سياسياً، وخطوة أولية باتجاه .تكريس مفهوم السلام الاجتماعي
لدى السياسيين ألعاب معينة يخوضون فيها، وهم بارعون في إبهار العوام بألعابهم هذه، وأما المثقف فليس جديراً به أن ينخدع هو الآخر ويصفق مع المصفقين. لدينا – بحمد الله- أعداد وفيرة من المشتغلين بالفعل السياسي.. لذلك أيها المثقف هم ليسوا بحاجة إليك، وإذا سعيت إليهم فإنك لن تضيف شيئاً، ومكانك الطبيعي هو حيث تشتد الحاجة إليك: إنشاء وتكوين “المجتمع المدني” وهذا “المجتمع المدني” لن يتكون من تلقاء نفسه، ولكنه يحتاج إلى مؤسسات ثقافية يربو عددها على الآلاف، تتوزع على جغرافيا الوطن من أقصاه إلى أقصاه.
أحدهم سيرفع صوته قائلاً: “مؤسسات ثقافية بالآلاف.. هذه مبالغة!”. والرد عليه هو أن اليمن تحتاج إلى عشرات الآلاف من المؤسسات الثقافية، لكي تتحول إلى “مجتمع مدني” ينشد السلام ويحترم القانون ويقدس العمل وهذه المؤسسات ينبغي أن تنتشر في المدن والأرياف وفي سائر المحافظات وتشمل: المكتبات، الأندية الثقافية، بيوت الفن، دور السينما والمسرح. وكل ما يرتبط بها من إنتاج وتدريب وورش وندوات وفعاليات، وما يتصل بها من مجلات وصحف وحركة نشر واسعة سواءً كانت ورقية أو على شبكات التواصل الاجتماعي. وبما أن الدولة غائبة، فإن على قوى المجتمع “الحية” التكاتف فيما بينها لإيجاد هذه المؤسسات الثقافية، الواحدة تلو الأخرى، بصبر وعزيمة لا تكل، ولو استغرق الأمر سنوات طويلة لكي يحدث التغيير المأمول، ويتغير المزاج الشعبي ويسمو باتجاه الفضائل الروحية.
وبما أن اليد الواحدة لا تصفق، فإن المطلوب من أصحاب رؤوس الأموال المساهمة الجادة في عملية نشر بذور المجتمع المدني” في عموم الأرض اليمنية، ورد الجميل إلى الأرض التي منحتهم ثرواتهم وأسباب وجودهم”.
ولدينا أسوة حسنة تتمثل بالمرحوم أحمد جابر عفيف – وزير التربية والتعليم في سبعينيات القرن الماضي- الذي أوقف جزءً من ثروته لصالح “مؤسسة العفيف الثقافية”. وهي مؤسسة رائدة في التوعية بأضرار القات، وأصدرت الموسوعة الوحيدة عن اليمن أرضاً وإنساناً، وأقامت نشاطاً ثقافياً على مدار العام، ونشرت عشرات الكتب الهامة، وشجعت البحث العلمي، وساهمت في صدور دوريات عديدة منها صحيفة “يمن بلا قات”. وكذلك أسرة المرحوم هائل سعيد أنعم التي أنشأت “مؤسسة السعيد للعلوم والثقافة” وكان من إنجازاتها رفد الحياة الثقافية في اليمن بجوائز مالية سخية، كما نجد ضمن أهداف المؤسسة فقرة مثيرة للاهتمام وتصب في صلب آمالنا وتطلعاتنا:”دعم عملية تطوير المؤسسات العلمية القائمة أو المساهمة في تأسيس مؤسسات علمية جديدة والتمويل الكلي أو الجزئي لكل ما يقع ضمن اهتمامات المؤسسة والمراكز العلمية.
ومؤخراً اتخذ الناشر نبيل عبداللطيف عبادي خطوة شجاعة – رغم تواضع إمكانياته- وأنشأ “وقفية عبادي الثقافية” لتمويل أنشطة مؤسسة عبادي للثقافة والعلوم. وهي مؤسسة تهدف إلى تشجيع القراءة، ودعم المؤلف اليمني بإصدار مخطوطاته، ومكافأة أفضل الأعمال الأدبية الصادرة عن دور نشر محلية. وإذا افترضنا أن في اليمن – في الداخل فقط- حوالي مائة ألف شخص تفوق ثروة الواحد منهم المليون دولار، فلنا أن نتخيل في حال انضمامهم إلى مشروع “الوقفيات الثقافية” العدد الهائل من المؤسسات الثقافية التي ستوجد في اليمن، والدور العظيم الذي ستقوم به لتنوير الأجيال الشابة، وتعمير نفوسها بالفن والجمال والأخلاق الرفيعة وآداب السلوك المتحضرة.
ما الذي يمكن مثلاً أن يقنع شبيبة القبائل بالتخلي عن حمل السلاح؟ من السخف التصور أن بإمكان منشور من وزارة الداخلية أن يفعل ذلك! ولكن إذا وجدت المؤسسات الثقافية وقامت بدورها التنويري على أكمل وجه، فإن هذا الشاب الفخور بنفسه سوف يتخلى عن سلاحه طوعاً، وقد نراه يحمل قلم رصاص ودفتراً ليرسم اسكتشات، أو قلماً ومفكرة ليكتب أشعاراً وقصصاً، ولعله يدمن القراءة، فلا يُرى في الشارع إلا وبيده كتاب أو مجلة أو صحيفة، ولا يعود يتحدث بحديث السياسة والحرب، وإنما يُكلمك بحماس عن طاغور وتولستوي، وقد يبدي إعجابه دون تحفظ بكتاب ألف ليلة وليلة.