ثقافةفن

فنّ الجرافيتي .. الابداع والتأثير

This post is also available in: English (الإنجليزية)

الجرافيتي هو واحد من الفنون البصرية المعاصرة، فمعه بدأ الفنّ يلتفت إلى الناس العاديين و الشارع بعد أن كان حبيس المعارض و رهين جدران صامتة في غرف مغلقة، وهذا ما جعله مع الزمن فناً مؤثراً وفاعلاً يساهم في
.تشكيل الوعي الإجتماعي للأفراد و في إعادة التفكير في قناعاتهم السابق

 ورغم أنّ هذا الفنّ لم يظهر في اليمن  إلا في فترة متأخرة لا تتعدى الخمس سنوات،  فإنَّه قد رسّخ أقدامه في الشارع اليمني وأصبحت الجداريات تملأ الشوارع وتقدّم رسائل متنوعة وقضايا مختلفة. وقد كانت تجربة مراد سبيع،  الحائز سنة 2016 على جائزة “حرية التعبير” في المملكة المتحدة، وعلى جائزة “الفنّ من أجل السلام” التي حصل عليها قبل ذلك في ايطاليا خلال العام 2014، من التجارب الرائدة في هذا المجال.  وانطلقت حملات سبيع الفنية مع ثورات الربيع العربي وصاحبتها، و ربما كانت نتيجة لها وتفاعلا مع مطالبها في الحرية والعدالة. و نفّذ سبيع عدّة حملات فنية متتابعة، كل حملة تتخذ لها عنواناً خاصاً يعكس الهدف الرئيسي منها. و الجدير ذكره في هذا السياق أنّ  حملات “مراد سبيع  قد تخطى صيتها حدود البلد إلى آفاق أرحب، فهي تُدرَّس في جامعة “جون هوبكنز بـ” قسم العلوم الإنسانية والإجتماعية ” جنباً الى جنب مع أهم رسامي الجرافيتي في العالم (أيْ: بانكسي، شيبرد فيري، انفادر،
.”ومراد سبيع) تحت موضوع “العلاقة بين فنّ الشارع و الفضاءات  العامة والقانون

حملات مراد سبيع وتأثيرها

كانت “لوّن جدار شارعك” حملته الأولى، إذ ظهرت بهدفٍ نبيل ورسالة جميلة تتمثل في التوجه إلى محو آثار الرصاص والقذائف بالألوان والرسوم الجمالية، لتنبّه الناس إلى ضرورة التخلي عن السلاح وأسباب القتل والدمار والالتفات إلى القيم الجمالية في ذواتنا أو المنعكسة في الفضاء المكاني أمام أعيننا. ظل “سبيع” يقود ثورته بالألوان ليمثّل ربيعاً فنياً غنياً بالرسائل الفنية التي عالجت قضايا سياسية واجتماعية مهمة، وحاولتْ الوصول إلى الأوساط الاجتماعية والسياسية. و كان للجرافيتي  بالفعل دور بارز في  وصول هذه الرسائل  إلى مسامع بعض الجهات الدولية. ثمّ جاءت حملته الأهم  “الجدران تتذكر وجوههم” لترسم وجوه الأشخاص الذين أخفوا بشكل قسري من قِبَل الأجهزة الأمنية في زمن اضطرابات سياسية وعسكرية مختلفة منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى الآن. تميَّزت هذه الحملة بأنها كسرت حاجز الخوف لدى أهالي المخفيين، حيث كان يعدّ مجرّد الحديث عن المخفيين قسرياً كفيلا بتغييب المرء في السجون لسنوات، والآن هاهم أهالي المخفيين يشاركون وبشكل أساسي في تقديم المعلومات وفي رسم هذهِ الوجوه في شوارع المدن اليمنية( صنعاء وإب وتعز والحديدة). لهذا فقد سبّبت هذهِ الحملة قلقاً كبيراً لأجهزة النظام، والتي كانت هي نفسها المسؤول الرئيسي عن تلك الإخفاءات. فخلال فترة الحملة كانت الوجوه تُرسم نهاراً، وتُمسح من قبل الأجهزة الأمنية ليلاً.  نجحت الحملة في التذكير بما كان منسيّاً، وأثارت جدلاً واسعاً مما دعا  الأمم المتحدة إلى التدخل والضغط على الحكومة اليمنية من أجل حماية المواطن اليمني من الإختفاءات القسرية، واستجابت الحكومة لتلك الضغوطات، ونوقش الموضوع لأول مرة في  مجلس النواب الذي صادق على قانون يحمي الناس من الإختفاء القسري. ولأنّ العالم أصبح قرية واحدة، كما يُقال،  فقد كان لحملة “الجدران تتذكر وجوههم” صدى في مناطق بعيدة من العالم حيث امتدّ تأثيرها إلى أمريكا اللاتينية فخرجت حملة جرافيتي تالية زمنياً لحملة “الجدران تتذكر وجوههم”  لترسم وجوه المختفيين منذ الحكم العسكري في الارجنتين بين العامين 1976 –  1981

 الصورة بإذن ذي يزن العلوي الصورة بإذن ذي يزن العلوي

:جسور فنية

ينظِّم “مراد سبيع” كل سنة يوماً مفتوحاً للفنّ بالشارع، يشارك فيه الناس من كل الفئات؛ الأطفال والنساء والرجال والفتيان. ولكنَّ الجديد في هذا اليوم الاحتفائي هذه السنة أن العاصمة البريطانية لندن قد شهدت في مارس الماضي حملة تزامنت مع اليوم المفتوح للفنّ بنفس التوقيت ونفس العنوان والشعار في مدينة (ريدنغ)
“.البريطانية بمشاركة العديد منالبريطانيين. وقد صاغت “بي بي سي” الخبر بأنه “حدث فني بين اليمن وبريطانيا

يقول “مراد سبيع” في تصريح لمجلة “المدنيَّة” بشأن الحدث ” في الوقت الذي تفرقنا فيه الحدود، يأتي الفنّ ليعيد علاقة الناس بعضهم ببعض” ويقول أيضاً: إنّ الحدث كان بمثابة “جسر فني” وإنّه يعمل على إقامة مثل هذه الجسور
“.الفنية مع فنانين من أماكن أخرى في العالم

إشراك المجتمع وفتح أفق جديد

قدمت الباحثة ” اناهي مارينو” في جامعة “بنسلفانيا” بتاريخ ( 9/10 ابريل 2014) محاضرة عن “الجرافيتي في اليمن”، ركزت فيها على دور الفنان “مراد سبيع” في نقل احتكار الفنّ من المعارض والمتاحف إلى الشارع، حيث أصبح الفنّ متاحاً للجميع و عن الكيفية التي استطاع  بها أن يُشرِك العامة في قضايا سياسية واجتماعية بطريقة بسيطة وبأدوات متواضعة. كما ركزت في محاضرتها على تأثير الجرافيتي و على كيفية تلقي المجتمع اليمني له بوصفه فنّا جديداً في البلد. وتطرقت الباحثة أيضا إلى تأثير حملات سبيع التي فتحت الطريق واسعا أمام حملات لاحقة قام بها
.شباب موهوبون آخرون

 الصورة بإذن ذي يزن العلوي الصورة بإذن ذي يزن العلوي

:تجرية ذويزن العلوي

فنان آخر رسم له طريقاً خاصاً في هذا المجال، وهو ذويزن العلوي، الذي أصبح فناناً جرافيتياً مهمّاً في الساحة اليمنية، وله حملة خاصة أسماها “كاريكاتير الشارع ” تناولت القضايا والأحداث السياسية والاقتصادية بشكل كاريكاتوري ساخر. وتعدّ تجربته تجربة فريدة وإبداعية؛  فالكاريكاتير في اليمن لم يكن له مكان سوى الجرائد والمجلات، أمّا الآن فقد أضحى مرسوما على الجدران يشاهده كل الناس من مختلف الفئات الاجتماعية وبمختلف الأذواق؛ حتى الأمّي الذي لا يعرف القراءة والكتابة سيجد فرصة لاكتشاف هذا الفنّ في جداريات “ذي يزن”. فحين تنزل للشارع ترى
.الناس وقوفاً أمام جدارياته الكاريكاتورية يحلّلون النكتة فيها فيما بينهم، ويمضون والضحكة مرتسمة على وجوههم

:التقيناه وحدّثنا عن تأثير الفنّ بشكل عام والجرافيتي بشكل خاص، فقال

 “إن فنّ الجرافيتي في اليمن هو نشاط وفنّ اجتماعي، يتميز أنّه فنّ ذو أسلوب حواري مع المجتمع، ويرجع ذلك إلى طبيعة القضايا التي يحملها على عاتقه، فهو، بذلك، يعبِّر عن آهات الناس وعن القضايا الحساسة التي يمرّ بها البلد. إنّ الحملات الفنية التي انطلقت منذ 2012م قد ساهمت في إعداد المجتمع وتفاعله مع الحملات الفنية الأخرى، فقد انخرط معنا أفراد من عامة الناس في كل حملات الجرافيتي للتعبير عن المشاكل والقضايا المطروحة. وقد كانت
.”تلك الحملات محفزّة لتشغيل الأحداث والتغيير على مستوى الواقع

 الصورة بإذن ذي يزن العلوي الصورة بإذن ذي يزن العلوي

وفي خاتمة هذه الإطلالة على فن الجرافيتي في اليمن أحب أن أشير إلى أن الساحة الفنية اليمنية تبشر بميلاد أسماء جديدة في هذا المجال سيكون لها الأثر الكبير محليا وخارجيا. و ما من شك في أن الفن يتطلب مدنا آمنة و فضاءات عامة غير مهددة بالحملات الأمنية والاعتقالات التعسفية فيها يستطيع الفنان أن يعبر عن ذاته ومجتمعه بحرية وباقتدار. إنّ ارتباط هذا الفنّ بالفضاءات العامة هو ما يجعله عرضة للمخاطر والانحسار في ظل حالة استثنائية كحالة اليمن التي تشهد اقتتالا وحصارا وانسدادا سياسيا. ولعلَّ المستقبل القريب يحمل في طياته بشرى انفتاح مدننا للتعبير الحر وخروج مواهب جديدة
.عن صمتها و سكونها

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى