أضواء
أخر الأخبار

 حوار مع الكاتب حسين الوادعي

This post is also available in: English (الإنجليزية)

من نتائج الحراك التاريخي الذي شهدته اليمن في العقد الأخير، بآثاره الإيجابية والسلبية، بروز أصواتٍ فكرية نقدية تنادي بمراجعة المفاهيم المكرّسة وما رسِّم اجتماعيا وسياسيا من قناعاتٍ وتصوراتٍ بوصفه من المسلمات التي لا ينبغي أن تمس. ينشر المثقفون اليمنيون من ذوي التوجه النقدي أفكارهم في مواقع الكترونية محلية وعربية وعبر صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي التي تربطهم بمتابعين من خلفيات متعددة، ولهم قناعات مختلفة. وهو الأمر الذي يجعل تلك الصفحات، بميزاتها التفاعلية، ساحاتٍ لمعارك خطابية وفكرية.

في هذه المساحة تحاور المدنية حسين الوادعي وهو أحد الأصوات النقدية البارزة في الساحة الفكرية اليمنية. الوادعي كاتب وحقوقي يمني مهتم بقضايا الديمقراطية والعلمانية في العالم العربي. ينشر أبحاثه ومقالاته في مراكز بحثية ومنصات إعلامية عربية مختلفة.

يتميّز الأسلوب النقدي لدى الوادعي بكونه محددا ولاذعا. ومع أن ما يكتبه لا يخلو من السخرية، فإنه يتوسل ببعض مخرجات النظريات العلمية الحديثة في مناقشة الحجج واقتراح البدائل. ولوضوح أسلوبه وسهولته، وربما لخلوه مما سّماه الراحل محمد أركون ” ترضيات ضمنية”، فإنه قد يجلب له، بين حين وآخر، ردات فعل غاضبة من متلقين يرون في تلك الأطروحات تعديا على التراث أو المسلمات الاجتماعية والدينية، وفقا لذلك الفهم.

 

المدنية: مرحبا بك، أستاذ حسين، في هذا الحوار مع المدنية. ما هي مصادر تكوينك الثقافي والمعرفي الأولى؟ ماذا تتذكر من زمن الطفولة بهذا الخصوص؟

مرحبا بكم.. وشكرا جزيلا لفتح ابواب مجلتكم المدنية للحديث حول بعض المواضيع الشائكة التي قد تتردد الكثير من المواقع في الحديث عنها.

سؤال التكوين الثقافي صعب لأنه عملية مستمرة لا نقطة نهاية لها. لكن هناك عشر سنوات محورية في تكويني الثقافي، وهي السنوات الممتدة من منتصف الثمانينيات حتى منتصف التسعينات أو بعدها بقليل، هذه السنوات أستطيع القول إنها كونت عندي أغلب التوجهات الدينية والفكرية التي لا زلت مهتما بها حتى اليوم.

ولعله من سخرية القدر أنني اهتممت بالقراءة في الفكر الماركسي واليساري في نهاية الثمانينات وهي نفس اللحظة التي انهار فيها المعسكر الاشتراكي وانهارت فيها آخر تجليات الماركسية والاشتراكية في الحكم والسياسة. ولعل هذا الانهيار قد ساعدني على عدم التقوقع داخل تيار سياسي معين له جاذبية فكرية وسياسية عالية مثل التيار اليساري رغم أني تعرفت عليه من خلال أبرز رموزه كمحمود العالم وحسين مروه ومهدي عامل وغيرهما.

كانت تلك الفترة أيضا فترة صعود الإسلام السياسي او ما يسمى الصحوة الاسلامية. وانكببت على قراءة الأعمال الأساسية لمنظري الاسلام السياسي من سيد قطب إلى محمد قطب سعيد حوى،  بالإضافة طبعا الى المدرسة التي عرفت بتيار الاسلاميين المستنيرين مثل محمد عماره وفهمي هويدي وطارق البشري.

لقد سببت لي كتابات سيد قطب و سعيد حوى ازمه نفسية وفكرية خطيرة. ولو لم أنجح في الخروج من إطار كتابات الاسلام السياسي لربما كنت قد انضممت لواحدة من المجموعات الجهادية التي كانت تنشط هنا وهناك ضد الدولة او ضد من يختلف معها من المفكرين والمثقفين.

ولعل لممانعتي الشخصية ذات النزوع الفردي و لقراءاتي المتعددة والمتناقضة دور في الحيلولة دون الانجرار إلى أي تيار سياسي أو فكري معين. ففي نفس الوقت الذي كنت أقرأ فيه لسيد قطب وحسن البنا كنت اقرأ، أيضا، لسلامة موسى وفؤاد زكريا وشبلي شميل وطه حسين وإسماعيل أدهم وعلي عبدالرازق، وكانت عقليتي ونفسيتي تتوتر بين العالمين: عالم الفكر النقدي العلماني وعالم الفكر الشمولي الديني.

ثم كانت اللبنة الأهم بتعرفي على فكر التنوير الأوروبي عبر الترجمات المتوفرة لرموزه الكبرى  وتياراته المتصارعة المختلفة.

في فترة الجامعة بالذات استطعت ان احسم أمري وأحدد اتجاهي باعتباري مواطنا علمانيا يؤمن بالقيم الكونية للتنوير، ويحلم بعالم تسوده الديمقراطية والتنافس الحر وصيانة حقوق الانسان والحريات المدنية والاجتماعية.

لقد وجدت أن  التيار النقدي أهم تيارات الفكر العربي. ابتداء من طه حسين الذي نقد الدين والتاريخ في كتاب “في الشعر الجاهلي” ثم عاد فنقد الثقافة العربية في كتابه “مستقبل الثقافة في مصر”، وصولا إلى صادق جلال العظم الذي نقد الفكر الديني الاسلامي والمسيحي معا في “قد الفكر الديني” ثم نقد الفكر السياسي العربي من الجذور في “النقد الذاتي بعد الهزيمة”. أتى بعد ذلك فؤاد زكيا الذي نقد اليسار المصري في “عبد الناصر واليسار المصري” ونقد حسنين هيكل ومركزيته الصحافية والسياسية في “كم عمر الغضب” ونقد الإسلام السياسي في “الصحوة الاسلامية في ميزان العقل”. أما محمد عابد الجابري، فقد كان عصرا جديدا وأفقا استثنائيا. نقد الفكر السائد وتحويله إلى الهامش وصياغة فكر نقدي جديد، ثم التمرد على الفكر النقدي الجديد نفسه ونقد مركزيته وتحويله إلى هامش جديد. وهكذا في عملية لا تنتهي.  وكذلك أفكار نصر حامد ابو زيد الذي ساعدنا على تكوين فكر نقدي حول الخطاب الديني السائد وفقا لمنهجية صارمة، وجورج طرابيشي الذي حاول ان ينتقل من النقد إلى نقد النقد وهي خطوة جبارة، و إن كانت خطوة مستعجله في توقيتها. 

 

المدنية: لماذا تكتب في موضوعات شائكة قد تسبب لك متاعب شخصية؟ وماهي استراتيجياتك لإقناع القارئ؟

الحقيقة أنني لا اختار الموضوعات التي اكتب فيها لأنها شائكة.. إنني اختارها لأنها الموضوعات الاكثر حاجة للنقاش؛ أي أنني دائما أتوجه وانجذب جذب المغناطيس للكتابة حول المواضيع والأفكار الشائعة التي يتم التسليم بها على أنها من البديهيات ثم أتناول هذه القضايا بشكل عقلاني نقدي يهتم بتوظيف آليات التفكير العلمي البسيطة من أجل تفكيكها وبيان عدم صحتها.

وأهمية النقد الجذري لما يؤطر، تاريخيا، بأنه أصول الإسلام في العصر الحالي تأتي من واقع أن الإسلام نفسه صار دينا معولما. ولم يعد يمارس في الدول الاسلامية فقط؛ بل صار الذين يمارسونه يقطنون داخل الدول الاوروبية والغربية نفسها ويشتبكون في معارك دامية حول قيم العلمانية والحرية والمساواة.

لهذا لم يعد سؤال الاجتهاد هو السؤال المركزي بالنسبة للإسلام اليوم؛ لأن الاجتهاد في الجزئيات سخيف مثل الانتقال من تحريم الغناء إلى تحليل الغناء والموسيقى، أو الانتقال من تحريم السينما إلى تحليلها بشرط ان لا يكون هناك مشاهد جنسية وغيرها من الاجتهادات الشكلية والفرعية.

إلى جانب ذلك، أهتم بنقد الأفكار الشائعة في الإطار اليمني. مثل الافكار التي تشكل ” الجرح النرجسي اليمني” كالفكرة الشائعة عن اليمن باعتبارها أصل العرب وأصل الحضارة ومركز الحضارة الشرقية كما هو شائع في كتابات بعض النخبة ولدى العامة. ويلحق بذلك الاعتقاد الشائع الساذج بأفضلية العادات اليمنية على غيرها، وتمجيد تناول القات مع أنه إدمان جماعي له نتائج كارثية.

المدنية: يرى الفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري أن العلمانية ليست سؤالا عربيا؛ فليس لدينا كنيسة تحكم. وهو يقترح العقلانية والديمقراطية بديلا لهذا المفهوم الإشكالي. هل العلمانية بمفهومها الراديكالي صالحة للتطبيق في الفضاء الإسلامي أم أن الإسلام نفسه – كما يذهب المفكر الإيراني عبدالكريم سروش- هو نفسه ذو طبيعة علمانية؟

محمد عابد الجابري مثقف محوري، لكنه في نفس الوقت كان سياسيا وكان عضوا في حزب سياسي. ومن الواضح أن التوجه القومي كان التوجه السياسي للجابري.

أنا اؤيد رأي طرابيشي في أن الجابري قد خان نفسه وخان منهجه في موقفه من العلمانية. الحقيقة أن الجابري كان علمانيا، وأن مركب “الديمقراطية والعقلانية” الذي طرحه كبديل عن العلمانية هو في جوهره ما نعنيه بالعلمانية في السياسة والمجتمع.  العلمانية تعني عدم خضوع السياسة والاجتماع البشري العام للدين. وبالتالي، بدلا من الخضوع لسلطة رجال الدين أو الحكم بالحق الإلهي يبنى الاجتماع السياسي على أساس الديمقراطية وحاكمية الشعب، وأيضا، بدلا من اللجوء إلى النص الديني يُلجأ إلى العلم والعقل لحل المشكلات العامة.

الجابري، أيضا، رفض “لفظ” العلمانية لكنه لم يرفض “مضمون” العلمانية. لكنه ناقش العلمانية كسياسي لا كفيلسوف. والسياسي يتحدث مع الجمهور العام محاولا كسبهم وباستخدام خطاب مزدوج ومراوغ يستطيع من خلاله إيصال أفكاره الخاصة، لكن بعد تغليفها بألفاظ توحي بغير ما يريد الوصول إليه.

ورغم أن الجابري رفض لفظ العلمانية ولم يرفض مضمونها، فإن مقاربته التي يطرحها لرفض العلمانية، في السياق العربي، كانت مقاربة خاطئة جدا وغير صحيحة لا دينيا ولا تاريخيا. وللأسف، فقد نقل الآخرون عن الجابري  مقاربته الخاطئة للعلمانية في فترة التسعينات وهو في اوج نجوميته الفكرية.

لقد أسس الجابري رفضه للعلمانية على فكرة أنه لا يوجد كنيسه في الاسلام، وتبعا لذلك لم يوجد في الاسلام ذلك الصراع بين السلطة الدينية والسلطة السياسية، وبالتالي فلا حاجه للعلمانية ما دامت السلطة الدينية والسلطة السياسية مندمجتين في الاسلام.

وهذا منطق معكوس؛ فهو يحول المشكلة إلى حل. ويتعامل مع الخطأ باعتباره هو الصحيح. فإذا كان صحيحا أن السلطة السياسية والسلطة الدينية مندمجتان في الإسلام فهذا بحد ذاته هو المشكلة. إنها المشكلة الرئيسية في التاريخ الاسلامي التي حولته إلى تاريخ حروب وغزوات وجهاد وسبي ومذابح. وهذا الاندماج نفسه هو سبب الصراعات الطائفية اليوم.

ولم يكن الصراع في التاريخ الإسلامي صراعا بين الدين والسياسة؛ بل إنه كان توظيفا للدين في خدمة السياسة وتحكما كليا للسياسة في الدين. كانت سلطة دينية-سياسية تتصارع مع سلطة دينية – سياسية أيضا. لكن كان العذر الظاهر دائما هو الدين والهدف الخفي دائما هو السياسة.

ولا حل من أجل ضمان الاستقرار والسلم الاجتماعي إلا بفصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية في الإسلام. وهذا لا يمكن أن يكون إلا بالعلمانية: تأسيس العلمانية في السياسة، وتأسيسها في المجتمع، وتأسيسها في الفكر.

ثم إن القول أنه لا وجود لكنيسة في الإسلام هو نوع من التلاعب بالألفاظ. الكنيسة كانت رمزا للسلطة الدينية التي تحاول أن تتحكم في الأمور. وفي الإسلام، مثل بقية الأديان السماوية، هناك سلطه دينية تريد التحكم في أمور الدنيا. لذا فلا بد من وجود العلمانية كقوة تقف في وجه السلطة الدينية أو تضعها في مكانها الخاص المتعلق بالروحي والشخصي، وتمنعه من التحكم في الشؤون العامة.

من هذا المنطلق تبدو العلمانية ضرورية أكثر من ضرورتها في المسيحية. وإذا لم تكن هناك علمانية أو فصل بين الديني والسياسي في الإسلام، فلابد من إيجاد هذا الفصل سواء من داخل الإسلام أو من خارجه من أجل الخلاص من موجات الحروب والمذابح والانتهاكات.

الحديث عن أن الإسلام دين علماني شبيه بالحديث عن النيران الصديقة أو القتل الرحيم وهو حديث تائه يجمع بينهما مصطلحين متميزين معرفيا وعمليا.

لا يوجد دين علماني. لكن يوجد أديان معلمنة بعد تفريغها من سلطتها العامة. والدين المعلمن هو الدين الذي تمت إعادة صياغته ليصبح دينا شخصيا وفرديا يهتم فقط بالأمور الروحية و يتخلى عن أية سيطرة في المجال العام. إضافة إلى أن الدين المعلمن هو دين يهتم بالدنيا أكثر من الآخرة وهدفه مساعدة الفرد على أن يعيش حياة فاضلة. هذا هو مفهوم الدين المعلمن. وأعتقد أنّ المسيحية، إلى حد كبير، قد أصبحت دينا معلمنا عكس الإسلام الذي لا يعترف (حتى الآن) باستقلال الدنيا عنه ولا يعترف بأية سلطة أخرى غير سلطته.

المدنية: يتهم العلمانيون العرب خصومهم بأنهم متزمتون وأنهم وثوقيون في طروحاتهم. لكن البعض يجادل بأن العلمانيين العرب أنفسهم، في الغالب، يتصفون بالتعالي على مجتمعاتهم وبأن لهم قناعات إيديولوجية جامدة لا تختلف كثيرا عن ما لدى المتدينين المتشددين. لماذا يوضع الناس بين طرفين متناقضين ألا توجد صيغة أخرى تحترم الجميع وترجع بفوائد عملية فيما يخص التعايش السلمي وتشجع الكل على أن يقدموا أفضل ما عندهم؟ 

لنتفق أولا أن العلمانية ليست ايديولوجيا. ليس للعلمانية نصوص مقدسة ولا زعماء ملهمون ولا يوجد لديها أفكار شمولية لحل مشكلات الاقتصاد والاجتماع والسياسة. العلمانية أقرب ما تكون إلى الديمقراطية باعتبارها مفهوما إجرائيا لحل النزاعات داخل المجتمع بطريقة سلمية.

والعلمانية ظهرت من أجل مجتمع تتعايش فيه الديانات المختلفة بأمان، وسلام، ومساواة. وبعد ظهور الالحاد الاوروبي أصبحت العلمانية تعني، أيضا، أن يتعايش المؤمنون والملحدون داخل نفس المجتمع سلميا وبدون صراع.

العمل الفني لرشا شرهان

ولست أدري ما هي القناعات الجامدة التي يؤمن بها العلمانيون العرب… سأكون سعيدا جدا لو ضُرِبَتْ أمثلة عن هذه القناعات الجامدة. على العكس من ذلك، العلمانية العربية اعتذارية ومرنة وخائفة. بمعنى أنها تتخفى وراء الشعارات الدينية، والشعارات الإصلاحية؛ خوفا من غضب العامة ومن سيف قوانين الردة ومن رفع سيف التكفير على رقابهم. إنها علمانية مرعوبة عكس العلمانية الغربية الشجاعة والمهيمنة.

العلماني العربي ليس دوغمائيا.. إنه مرن بحكم دقة الواقع الذي يقف ضده بالقلم والسيف. وهو يحسب ألف حساب قبل ان يتحدث بأي مطالبات تتعلق بالفصل بين الدين والحياة العامة، ويتعمد ان يحصر العلمانية في جانب واحد، فقط، من جوانبها، وهو الفصل بين الدين والسياسة. هذا في حين أن العلمانية تعني، أيضا، الفصل بين الدين والعلم، وتعني الفصل بين الدين والأخلاق. هذا الفصل لا يعني أن الدين لم يعد مصدرا للأخلاق؛ بل يعني أنه لم يعد المصدر الوحيد ولا المصدر المهيمن، و إنما هو مصدر من بين عدة مصادر للأخلاق.

 الفصل بين الدين والسياسة لا يعني أنه لا يمكن استخدام المبادئ الدينية الكبرى في توجيه المبادئ السياسية؛ بل يعني أنه لا يمكن إنشاء أحزاب على أساس ديني، ولا يمكن خوض الصراعات الانتخابية على أساس شعارات دينية تتعلق بالإيمان والكفر وبادعاء أن حزبا معينا يمثل الإسلام وبقية الأحزاب تمثل الشيطان.

أما الصيغة التي تحترم الجميع فهي في العلمانية. إذا كنا مخيرين بين الدولة الدينية والدولة العلمانية فهذا يعني التالي: في الدولة الدينية لن يكون هناك حضور ولا حريات ولا حقوق إلا للمتدينين من أتباع الدين المسيطر فقط. وتضيق الدائرة، فلن يكون هناك حريات وحقوق إلا لأتباع المذهب المسيطر. الدولة الدينية لا يمكن أن تكون دولة لجميع المواطنين.

في الدولة العلمانية يتعايش المؤمنون من جميع الديانات، ويتعايش المسلمون من جميع الطوائف ويتعايش المؤمنون والملحدون معا دون أن يعتدي أحد على الآخر أو أن يلغي حقوقه.

نعم؛ هناك بعض الخطابات العلمانية المتطرفة التي تنادي بإلغاء حق الإسلاميين في العمل السياسي و منع الأحزاب الإسلامية من العمل و تدعو إلى مصادرة الخطاب الديني بشكل كلي. غير أن هذا الخطاب لا يشكل جوهر الخطاب العلماني العربي. الخطاب العلماني خطاب متعلق بالحريات العامة ضمن إطار دولة مدنية تضمن حق الجميع في التعبير والعمل والتغيير.

 

المدنية: ما وضع الجدل العام في اليمن حول مفاهيم مركزية في الجدل الفلسفي والسياسي الكوني: كالديمقراطية، والعلمانية، والتواصل عبر الثقافي، وكرامة الإنسان؟ وهل قدمت النخبة المثقفة منذ ثورتي اليمن في ستينيات القرن الماضي ما يفيد المجتمع؟

الملاحظ في الخطاب الفكري اليمني أنه لا يوجد حضور كبير للمفاهيم الكونية الكبرى كالديمقراطية، والعلمانية، وحقوق الانسان. تمحور الخطاب الفكري والسياسي اليمني حول مفاهيم يمنية أو “ميمننة”. على سبيل المثال أهدرنا آلاف الصفحات منذ الستينات حتى اليوم في الحديث عن الثورة (أعني ثورتي سبتمبر وأكتوبر)، وآلافا أخرى من الصفحات في الحديث عن الوحدة وفي الحديث عن الجمهورية.

انحصر الفكر اليمني داخل هذه المفاهيم المركزية الثلاثة الآنفة الذكر. ولأن هذه المفاهيم مفاهيم عامة جدا، وغير إجرائية فقد عزلت النقاش اليمني وحرمته من فرصة الدخول في النقاشات التي شهدها العالم كله حول مفاهيم الديمقراطية والعلمانية وحقوق الانسان. وهذا من ناحيته حرم مفاهيم الوحدة والثورة والديمقراطية من الوضوح الفكري والوضوح الاجرائي.

ظل مفهوم الثورة محصورا في الثورة السياسية التي تمثلت في انقلاب  1962 أو حرب التحرير التي انتهت باستقلال اليمن في عام 67. لكن لم يتم التوسع في مفهوم الثورة بحيث يتحول إلى مفهوم شامل يتضمن الثورة الاجتماعية بمعنى تغيير العلاقات الاجتماعية السائدة سواء علاقة الرجل بالمرأة أو العلاقة بين أفراد القبيلة والشيخ أو العلاقة بين الريف والمدينة او انتقال اليمن بشكل كامل من التقليدية إلى الحداثة. فضلا عن أن التنظير للثورة اليمنية قد ظل معزولا عن مبادئ العلمانية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والحرية والمساواة ومبادئ الكرامة وحقوق الإنسان.. وانحصرت الثورة في جانب واحد هو الخلاص من الامامة او الخلاص من الاستعمار.

وظل الحديث عن الجمهورية عامّا وعائما وكأن الجمهورية هي “عكس الإمامة” .. ومكن هذا المفهوم المفرغ للجمهورية من سهولة الانقلاب عليها والسيطرة عليها من قبل قوى متناقضة دينية وقومية وعسكرية.

ونفس الشيء حصل للوحدة. فقد تم تحقيق الوحدة في نفس فترة دخول العالم عصر العولمة والديمقراطية والرأسمالية ومركزية حقوق الانسان.  وظل النقاش اليمني حول الوحدة يتعامل معها ببعدها الجغرافي بعيدا عن المفاهيم الكونية الكبرى، المشار إليها آنفا.

هناك غياب تام لكلمة العلمانية في الفكر السياسي اليمني منذ ثلاثينات القرن الماضي حتى عام 2012 وهو أول عام أصبحت فيه العلمانية جزءا من النقاش السياسي الرسمي. ولم تظهر الديمقراطية بشكلها التداولي إلا في عام 1990 لكنها ظهرت بمعنى ” الانتخابات” دون أن يكون هناك تأصيل يمني للديمقراطية اليمنية ( هل هي ديمقراطية توافقية مثل سويسرا او ديمقراطية تنافسية مثل بريطانيا أم ديمقراطية من نوع جديد؟). ظهرت الممارسة الديمقراطية في اليمن وانتهت (1990 -2014) قبل أن يظهر فكر ديمقراطي يمني!

المدنية: لماذا لا توجد لدينا في اليمن ثقافة “الاعتراف”؛ فالقوى اليمنية المختلفة – وحتى قواعدها الشعبية – لا تعترف، بصورة حقيقية متبوعة بالعمل، بالتنوع الهوياتي في اليمن؛ ولا بتعدد السرديات حول التاريخ؛ ولا تعترف بالخطأ، ولا بالفشل، ولا بأن نموذجا آخر للتعايش ولحياة أفضل مما نحن فيه ممكن وفي حدود المستطاع؟

كلما كان المجتمع محافظا، ظهرت الصعوبة في الاعتراف بالآخر. والمجتمع اليمني لازال واحدا من أكثر المجتمعات المحافظة على مستوى العالم. وليس الجماهير وحدهم محافظون بل إن النخبة اليمنية المتعلمة محافظة. وهذه النخب محافظة على المستوى الفكري، وعلى المستوى الاجتماعي، وعلى المستوى السياسي.

لاحظت إحدى الباحثات في بداية التسعينات أن العباءة السوداء والنقاب الأسود هو اللبس المشترك لدى بنات الأسر المعروفة بتدينها وتلك المعروفة بتوجهاتها الليبرالية والاشتراكية. المحافظة الفكرية والاجتماعية هي الجوهر المختبئ خلف الثورية السياسية الظاهرة على السطح.

وحتى النخب الثورية الراديكالية (على مستوى الشعارات على الأقل) هي في حقيقتها نخبة محافظة بطريقتها الخاصة.  أخذت الفكرة الثورية الراديكالية كما هي من المصدر الخارجي وحاولت تطبيقها في اليمن بطريقة حرفية، وهذا التطبيق الحرفي ينفي ثوريتها ويضعها في خانة المحافظة والتقليد والسلفية.

الاعتراف بالآخر لا يأتي إلا بعد الاعتراف بالتعدد وبأن الآخر المختلف عني هو مساوٍ لي وبأن ما يقوله أو ما يمتلكه من أفكار له نفس المصداقية التي أرى أن افكاري تتمتع بها.

غير أن أسباب عدم الاعتراف بالآخر ليست ثقافية فقط. فهناك، أيضا، الجانب الاقتصادي.  اليمن من بلدان الندرة. بمعنى أن الثروات التي فيها محدودة؛ وبالتالي يتم الصراع بين النخب السياسية على ثروات وموارد محدودة . محدودية الثروات لا تترك مجالا لتقاسمها بين مجموعات كبيرة؛ لأنها ستتبدد وتفقد قوتها. من هنا، يصبح عدم الاعتراف بالآخر ضرورة اقتصادية ضمن ثقافة الريع والصراع على المغانم ( انتفاضة 2011 مثالا). علاوة على وجود رواسب عقلية ثقافية ضمن إطار ثقافة محافظة ما قبل حديثة ترى أن الطائفة او العشيرة هي كل العالم.

 

المدنية: كلمة أخيرة تودّ أنْ تقولها حول مستقبل الفكر النقدي في اليمن؟

لا أريد أن أكون متشائما. الحركة الثقافية اليمنية تمارس نشاطها حاليا عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي. لكن، للأسف الشديد، فإن وسائل التواصل الاجتماعي تغري المثقف الذي يستخدمها بوهم النجومية عبر عدد الإعجابات، ومديح المتابعين في التعليقات. لقد ساهمت هذه  النجومية الزائفة في إعادة تخليق نموذج (المثقف- شاعر القبيلة).  المثقف الذي لا يتحدى المسلمات بل يؤكدها، ويعيد كتابتها، ويعيد ترويجها من أجل كسب المتابعين.

لهذا بدأ يسود في النقاش الثقافي اليمني على وسائل التواصل الاجتماعي نوع جديد من الشعبوية الرخيصة .. الشعبوية التي تلتقط كل الممارسات الشعبية، سواء كانت سلبية أو إيجابية، لتدافع عنها، وتقدسها، وتحولها إلى نماذج ثقافية راقية وسامية.

على سبيل المثال يتم إعادة تصدير العشوائية الشعبية باعتبارها بساطة. ويتم إعادة موضعة القات كممارسة اجتماعية إيجابية. كما يعاد ترويج ثقافه السلاح والانجاب العشوائي باعتبارها من  الممارسات الشعبية التي تمثل روح الشعب، في نفس الوقت يهاجم أي نوع من الثقافة أو النقد بحجة أنه نخبوي ومتعالٍ على الجمهور.

تحدي الجمهور تحدٍ صعب جدا. وهو أكبر خطر يواجه التفكير النقدي. بالإضافة، طبعا، إلى الخوف من ردَّة فعل السلطات الدينية والسلطة السياسية. وأتذكر أن اسمي، في عام 2002، كان من بين أربعين اسما وضعتْ على قائمة مخطط الاغتيالات، الذي أعدته الجماعة الإرهابية بقيادة علي جار الله السعواني، ونفذت اغتيال جار الله عمر.

الثقافة عبر وسائل التواصل الاجتماعي هشّة. وهشاشتها تأتي من نفس مصدر قوتها؛ أي القدرة على الاتصال الفوري بجمهور واسع وكبير. 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى