ثقافةرأي

لا نفايات في القرية..

This post is also available in: English (الإنجليزية)

هل شربت الماء يوما في قنينة مبيد حشري؟

هل شربت الحليب في قارورة سائل غسيل كلوركس؟

هل تعتقد أن الأمر ضرب من المبالغة!

ليس الأمر كذلك، فقد فعلتُ ذلك كثيرا خلال سنواتي ال 18 التي قضيتها في قريتي في تعز.

الصورة بإذن من نصر ياسين

كان الأمر اعتيادياً أن نعيد استخدام كل شيء، من الأواني والملابس المستعملة وبقايا قطع غيار السيارات أو أي شيء مُصَنع.

الشعور الذي لا تدركه في القرية إلا حين تغادرها هو ذلك الاعتياد على الفقر، والذي يجعلك مخدراً عما حولك بدون الإحساس بالظلم، رغم صور الظلم التي تشاهدها في عيون الناس طوال عقود.

 لديك شيء من اللبن أو ما يطلق عليه “الحقين”، ذلك كفيل بأن يكون أساس الوجبة، سواء كان لمصاحبة الخبز الجاف، أو العصيدة المكونة من الطحين والماء الساخن والملح، وهذا الأمر سائد على مدى عقود أو قرون.

تصبح علبة الفاصوليا مثلا ضرباً من ضروب البذخ، وعلبة الأناناس أو الخوخ هي أفضل هدية لعيادة المرضى، وفي المقابل، فتلك العلب لا يمكن ببساطة أن تكون مجرد قمامة إلا في منازل ميسوري الحال، أما العامة فسيستخدمونها حتما لشيء ما.

ذلك الاعتياد على الفقر جعل الناس لا يفرقون بين هذه الحكومة أو تلك، أو هذا النظام وغيره، يقاس مدى أفضلية الحكومة في سعر كيس القمح وتنكة الزيت أو السمن والسكر، وهذا الأمر لم يحدث فيه أي تحسن منذ قيام الوحدة اليمنية في العام 1990، فقط ظل سعر هذه الأشياء يتصاعد كل عام.

الصورة بإذن من نصر ياسين

تلك الضروريات نستخدمها حتى بقاياها، فـ “تنكات” السمن لن نرميها، فسنصنع منها أبراجا للحمام، أو لزراعة الزهور والأشجار العطرية، أو لصناعة سيارة كلعبة أطفال، وتكون إطاراتها من بقايا الأحذية، وتكون دائرية بفعل تسخين علبة البقوليات ثم وضعها في منتصف الحذاء والضغط فيتم قطع الحذاء بشكل دائري مضبوط.

لم يعرف كثير من الناس في الريف مثلا لفة الخيوط، فمعظم الخيوط التي تستخدم في خياط وترقيع الملابس هي الخيوط التي تستخدم في إغلاق أكياس القمح أو السكر أو الملح، وهي خيوط قوية تصمد أمام قساوة الريف وطرقاته الوعرة.

الطرقات؟

الطرقات بحاجة لأحذية بلاستيكية يستخدمها كثير من الناس في العالم للحمامات أو التنزه في الشواطئ، ولكن ذلك لم يمنع الشركات المحلية من ابتكار أحذية بلاستيكية خاصة بسكان الريف، ومع ذلك لا أحد يرمي الحذاء من أول قطع يباغت الشخص، فمصير الحذاء الترقيع بالسكين المحماة على النار، وكأنك في مشهد من حروب ما قبل البارود حين كانوا ينتزعون السهام ويتم كي المصاب بالسيف المحمّى على النار.

لم تنته حكاية الحذاء عند هذا الحد، فهناك أشخاص سيمرون القرية لجمع الأحذية البلاستيكية المستهلكة ونقلها إلى مصنع البلاستيك في المدينة لإعادة تذويبه وإعادة استخدامه مجدداً.. ولا ضير أن تضحي بحذاءك القديم مقابل قطعة حلوى صغيرة، وأيضا يمكن للجدات تجميع التالف منها لحين مرور جامع الأحذية الممزقة لتبيعه مقابل قطعة شوكولاتة رخيصة.

الصورة بإذن من نصر ياسين

ليس الحذاء هو الشيء الوحيد الذي يمر شخص ما لجمعه إلى مصانع إعادة التدوير، لكن هناك أيضا جامعي العلب المعدنية، أو علب المشروبات الغازية، وكذلك جامعي المواد النحاسية، فهؤلاء زوار دائمين للأرياف، ويحظون بكرم ضيافة على الدوام فلا مطاعم في الأساس في الريف، لكن يكفي أن يمر هؤلاء بشوارع قرية ما وسيحظون بدعوة للطعام، أو أن يدخل أحدهم ليصلي في أحد المساجد ليلقى الضيافة اللازمة، وبمقدوره أن ينام في المسجد وسيحصل على الفرش اللازم.

أما زجاجات العصائر فلها كثير من الاستخدامات، منها ما نستخدمه لصناعة سراج للإضاءة، يثقب في الأعلى ونضع ماسورة معدنية نمرر فيها خيطاً من القطن أو من خيوط خشنة يلف بها التمباك فتكون فتيلا للإضاءة الدائمة.

أيضا يمكن أن نضع في تلك القوارير شيء من السمن البلدي، أو حليب بقر أو غنم، وذلك لقلة الحليب، فأبقار القرية وغنمها ليست كريمة بتلك الطريقة التي يتوقعها البعض، ومعظم الناس يجمعون الحليب ليومين أو ثلاثة لصناعة الحقين (اللبن) الذي يفيد أكثر من عائلتين أو ثلاث أو أكثر في القرية الواحدة، أما القوارير البلاستيكية فيتم صناعة أزهار الزينة منها.

كنت أشعر بالزهو حين أحصل على ربع ليتر من الحليب في علبة سائل غسيل الثياب “كلوركس”، وذلك مكافأة لي أثناء حراسة أشجار القات ليلاً.. كنت أشعر بإنني محظوظ للغاية.

كل شيء سيجد له طريقا للاستخدام، فعلب الأناناس مثلا تعتبر مكيالاً أو مقياسا متعارفا عليه لدى تجار وسكان القرية، وبه يتم شراء المواد التموينية مثل السكر والأرز والحبوب والطحين والسماد الصناعي وغيره، البعض يستخدم الميزان، لكن الكثيرين يكيلون بالعلبة تحت مسمى “النفَر”.

الصورة بإذن من نصر ياسين

علب البقوليات فستذهب لاستخدامات شتى، منها أن تستخدم كمكيال يشير إلى أنه نصف “نفر”، وسيئة الحظ بينهن ستذهب كحاوية لحرارة “البوري” التمباك على رأس المداعة* التي يكاد لا يخلو منها بيت في القرية.

أكثر الزجاجات طلباً في الأرياف هي زجاجات مشروب (فيمتو)، إنها الأكثر رواجا، وتستخدم لتعبئة السمن البلدي، لكنها تحظى أيضا بحلاوة العسل، فهي المفضلة لدى مالكي العسل، ويتم بيعه بالقارورة وليس بالكيلو، وقارورة العسل قد يزيد وزنها على الكيلو أو توازيه تماماًـ

حتى الرماد الذي تخلفه المواقد قابل لإعادة الاستخدام، فالبعض يستخدمونه كصابون لغسيل بعض القطع القماشية، ولكنه أيضا يكون مطلوباً في المناسبات حين يتم الاحتفال بالمناسبات الوطنية مثل عيد الثورة أو اليوم الوطني، حيث يتم عجنه بالكيروسين وتوزيعه بشكل كرات صغيرة على حافة أسطح البيوت وإشعاله في مساء المناسبة، ويطلق عليها “التنصير”.

أما مخلفات الغذاء فهي شيء من النوادر، فيكاد لا يكون هناك قمامة غذاء في القرية، فالخبز الذي يتبقى يتم الاحتفاظ به للوجبات التالية ولأيام، وإن صعُب استهلاكه فهو سيذهب كهدية لأقرب بقرة، سواء بقرة البيت أو الجيران أو للأغنام، أو حتى للكلاب والقطط، وحتى الماء في غسيل الأواني وهو يحوي على مخلفات غذائية فسيكون شرابا للأبقار، كونه يحوي على مخلفات طعام.

في “كدافة” القرية لن تجد شيئا، يمكن فقط بطاريات الكشافات اليدوية، وهذه لا تُرمى حتى يتم عضها والتأكد من أنها لن تنتعش مرة أخرى، ولو وجدوا وسيلة لتعبئتها لفعلوا ذلك.

الصورة بإذن من نصر ياسين

قليل من الرماد، وبعض المغلفات البلاستيكية للشوكولاته المحلية أو البسكويت أو بعض الأكياس التي لم تعد صالحة للاستخدام.

إنها صورة بهية للبيئة كما يتراءى للقارئ البعيد، وبذات الوقت خلفها الكثير من الحاجة لشيء مما يستمتع به أولئك الذين يغرقون قمامات المدن بالمخلفات.

ماذا عن القماش؟

إنها حكاية أخرى..

يُستخدم اللباس حتى يهلك تمزيقا أو اهتراءً، فيعاد خياطه وترقيعه حتى إذا بلغ مرحلة لم يعد فيها صالحاً للارتداء، تبدأ عملية تفريق دمه بين الأفكار والاحتياجات العديدة، فـ “المعاوز”* مثلا يبدأ مرحلة استخدامه إما لتلبيس وسائد مهترئة أو فُرُش، أو لصناعة حقيبة مدرسية، وكان هذا هو الجزء الأسوأ لطفل في المدرسة، فسيجد من السخرية ما يجعله قوي الاحتمال أو مضروباً من تجمع طلاب، أو في حالة رفضه مضروباً في البيت.

لا بأس إن رأيت نافذة أيضا مغلقة ببقايا معوز أو شماغ أو ملاءة مهترئة، إنه أمر اعتيادي، وإذا جاءك طعام في الوادي ملفوفاً ببقايا معوز أو “مقرمة”* قديمة فذلك مدعاة لأن تطمئن على الحماية الفائقة للأكل.

ربما عاش معظم اليمنيين هذه التفاصيل، لكن لا تشعر بقيمة الأشياء إلا حين تجدها أشياء غريبة في عيون الآخرين، فحين تحدث شخصا من خارج بلادك عن نقل المياه من غيل في أعلى الجبل لمدة 15 عاما وأن المشوار يستغرق نصف ساعة أو قد يصل لساعتين أو ثلاث في الشتاء لتوصل 10 ليترات من الماء فهذا بالنسبة له من أغرب ما سمع.

الصورة بإذن من نصر ياسين

مازال الريف على حاله، قد يكون هناك تغير بسبب تدفق المنتجات الأرخص إلى البلاد بشكل عام، لكن الحرب أنهكت الريفي البسيط بشكل أسوأ بأضعاف مما كان عليه، فقد عاد عشرات الآلاف من المغتربين في السعودية بسبب الإجراءات الاقتصادية في المملكة، وهذا عزز حجم الفقر، إضافة إلى توقف رواتب قطاعات كثيرة كانوا يستفيدون منها، وتضاءلت التحويلات المالية إلى الريف سواء من العمال في المدن لاسيما منهم العمال في المحافظات الجنوبية، أو خارجيا في السعودية.

مايكتسبه كثير من أبناء الريف هو ذلك الحرص الذي يلازمهم حين يغادرون إلى المدن أو الخارج، حيث يتعاملون مع الأشياء -لا إرادياً- بأكبر قدر من الحرص الذي يصبح حكايات للأطفال الذين لم يعرفوا تفاصيل القرية، ومع ذلك تبقى في أعينهم كحكايات قادمة من زمن آخر.

إنه الريف، مازال المدرسة الأولى لاحتمال الظروف القاسية، والذي يصبح السند الذي يتكئ عليه الكثيرين لاحتمال قساوة القادم من الأيام، حين تحين لحظة الرحيل عنه.

 

غمدان اليوسفي، صحفي، حاصل على البكالوريوس من كلية الإعلام جامعة صنعاء، وعمل مراسلا لعدد من وسائل الإعلام العربية، بينها عكاظ وإيلاف، ورأس تحرير صحيفة (رأي)، وأدار موقع مؤتمر الحوار الوطني، تحدث في الشؤون اليمنية في القنوات التلفزيونية وعدد من المؤتمرات، وكتب في عدد من الصحف المحلية والعربية.

 

 

المقال خاص ب”مجلة المدنية“.


[wonderplugin_slider id=3]

جميع الصور بإذن من نصر ياسين

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى