This post is also available in: English (الإنجليزية)
يعتبر مفهوم المجتمع المدني من أكثر المفاهيم تداولاً لدى المثقفين والسياسيين و علماء الاجتماع في الوقت الراهن. و قد دخل المصطلح في خطاب الدولة والأحزاب. كما وجد طريقه إلى الأدبيات الدولية وخصوصا في مجال برامج الدعم التي تخصصها الهيئات والمنظمات الاقليمية والدولية لدول معينة؛ وذلك باعتبار أن مؤسسات المجتمع المدني في تلك البلدان المستهدفة تمثل شكلا متقدما من المشاركة الديمقراطية للمجتمع. ومن هنا، فقد ظهرت تعريفات عدة لهذا .المفهوم تعكس زوايا النظر المختلفة تجاه طبيعته وموقعة من المجتمع العام والدولة وعلاقته بالفاعلين الخارجي
و المجتمع المدني بمفهومه الكلاسيكي يحيل على جماعة منظمة تهدف إلى المطالبة بقضية، وبمعنى آخر كل جماعة تتأسس من أجل تحقيق نوع من الخير العام بدافع التغيير و الرغبة في تحسين الواقع. وهذا المفهوم للمجتمع المدني ضبابي ومطاط؛ وهو بذلك غير دقيق، فليس كافياً وصفه بأنه ميدان وسيط للاتحادات الطوعية ذات الفعل الجماعي؛ ذلك لأن العديد من المنظمات مدمرة للسلوك المدني. ففي حال تبني هذه المنظمات المدنية بعض القيم المحلية التقليدية فإن في ذلك تقويض لقيم الديمقراطية. وبذلك فإن المفهوم العام للمجتمع المدني اليوم يحيل بهذه الصورة العامة الضبابية على الاتحادات الطوعية ومجموعات .المصالح التي تكافح دائما من أجل حفظ قدر من الاستقلال عن الدولة وعن الفاعلين الاجتماعيين الآخرين
الصور بإذن من أحمد شهاب القاضي
وبما إن المجتمع المدني في الدول ما بعد الاستعمارية ودول العالم الثالث قد نشأ في ظروف خاصة وبعيدة عن النشأة الطبيعية للدولة القومية كما هي الحال في أوروبا، فإنّ المجتمع المدني في هذه الدول ومنها اليمن لا يزال رهينا لارتباطاته مع الفاعلين الاجتماعيين الأقوياء كالدولة والقبيلة والحزب والمنطقة والطائفة. هذا بالإضافة إلى ما تعانيه هذه المنظمات من شحة الموارد ومن اعتمادها على المانحين الخارجيين. وفي ذلك مخاطرة في قدرتها على تحقيق الأهداف المرجوة .في ظل هذا الوضع المضطرب في بلدان في حالة انتقال سياسي وحروب كاليمن
الحقبة الكولونيالية و الاشتراكية
ترجع بدايات الجمعيات الأهلية في اليمن إلى عشرينيات و ثلاثينيات القرن العشرين و لا سيما في مدينة عدن الكزموبوليتية في ذلك الوقت. وقد اشتد عود هذه الجمعيات استجابة للتطورات التي شهدها العالم إبان الحرب العالمية الثانية وما تلى ذلك من تأسيس المؤسسة الدولية- مؤسسة الأمم المتحدة وظهور قوى عالمية .جديدة. هذا إلى جانب تبلور الوعي القومي في المجتمعات الخاضعة للاحتلال الغربي
وتمثلت أهم أنشطة منظمات غير الحكومية في مدينة عدن ومناطق جنوب اليمن في الثاني والثالث من القرن العشرين في بناء المدارس وتأمين الخدمات التعليمية. وفي الأربعينات توسع نشاط منظمات المجتمع المدني ليشمل رعاية الأحداث والتنمية الثقافية ورعاية الشباب والتنمية المحلية. وفي الخمسينات ازداد هذا النشاط توسّعا ليشمل الحقوق النقابية والسياسية. أما الاهتمام بقضايا المرأة فلم يبدأ قبل عام 1960 عندما تأسست أول جمعية تعنى بالمرأة في مدينة عدن، .وهي جمعية المرأة العربية
وخلال ذلك الزمن الكولونيالي نلاحظ أن عدن قد شهدت نشؤ عدة نوادي ذات طابع ثقافي منها (نادي الأدب العربي) عام 1924م ومخيم (أبو الطيب المتنبي) عام 1939م و (نادي الإصلاح العربي الإسلامي) عام 1929م والتي كانت بمثابة منابر لنشر العلم والمعرفة في وقت انعدمت فيه وسائل الاعلام المقروءة والمسموعة. وفيها كان الأدباء والمثقفين من أبناء مدينة عدن والمناطق المجاورة لها يتناقشون ويتجادلون في أمور الفكر والسياسة والأدب. ومن هؤلاء الرواد محمد عبده غانم ولطفي جعفر أمان وعلي محمد لقمان وآل الاصنج ومحمد سعيد جراده وحامد خليفة وعبدالرحمن جرجره وفدعق والزبيري والنعمان والحكيمي والأديب الحضرمي علي احمد باكثير. في ذلك الوقت استطاعت الجمعية العدنية (عدن للعدنيين) من انتزاع حق التوظيف للعدنيين في الوظائف الكبيرة كمدراء في أقسام الشرط وفي الميناء والمصافي وغيرها. وكان لهذه الجمعيات والروابط والنوادي في خمسينيات القرن الماضي دور بارز في نشؤ الوعي الوطني وفكرة مقارعة الاحتلال. (يمكن الرجوع في هذا الصدد إلى شيلا كرابيكو، المجتمع المدني في اليمن: الاقتصاد السياسي للنشاط المجتمعي الحديث في الجزيرة العربية 1998 م).
أما في سبعينات وثمانينات القرن العشرين، فكانت عملية تأسيس الجمعيات الأهلية أو ما يسمى بمنظمات المجتمع المدني ليست متاحة بشكل كبير في كل من جنوب اليمن وشماله بالرغم من اختلاف التوجهات السياسية والفكرية للنظامين القائمين آنذاك. ففي الجنوب غلب على تلك المنظمات ارتباطها بالحزب الاشتراكي اليمني وايديولوجيته. وفي الشمال لم تساعد الظروف السياسية المتقلبة التعاونيات التي نشأت زمن حكم الرئيس الراحل إبراهيم الحمدي في النماء و الاستمرار. وانحصر عمل تلك المنظمات في المجال الخيري أو في المجال الثقافي كاتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين الذي أسس في عدن من طرف قيادات ثقافية من شطري البلد في بداية سبعينيات القرن العشرين. (يمكن الرجوع في هذا الصدد إلىكتاب المنظمات والهيئات الشعبية اليمنية ودورها في الحياة الثقافية ونشر (الوعي الوحدوي 2009 م.
الصور بإذن من أحمد شهاب القاضي
ما بعد الوحدة
وبعد تأسيس الجمهورية اليمنية في العام 1990 الذي كفل دستورها حق النشاط السياسي وتأسيس الجمعيات اتاحت التوجهات الديمقراطية التي اعتمدتها الدولة الجديدة لمنظمات المجتمع المدني هامشاً واسعاً من الحرية والاستقلالية في الممارسة العملية. ونتيجة لهذه الحرية، حققت المنظمات غير الحكومية نموا سريعا في عدن، فتأسست الاتحادات الأكاديمية ومنظمات حقوق الإنسان والنوادي المهنية وجمعيات حماية البيئة، وتنامى عدد منظمات المجتمع المدني ليصل إلى نحو (780) جمعية ومؤسسة أهلية في عدن بحسب عصام عمر وادي مدير عام إدارة الجمعيات بمكتب الشؤون الاجتماعية والعمل عدن.
المجتمع المدني في عدن: الانجازات والاخفاقات
تفاوت النظر إلى دور منظمات المجتمع المدني بعد حرب 2015 في عملية التنمية والبناء بين مؤيد يرى فيها شريكاً يساهم في توعية المجتمع بشأن أغلب القضايا المجتمعية وبين معارض يرى أنها خطر على الاستقرار الاجتماعي وعلى الثقافة المحلية لكونها نموذجاً غريباً له ارتباطات عابرة للحدود. ويذهب البعض إلى اتهام معظم المنظمات باستغلال صفتها الجمعية لتحقيق مكاسب شخصية لمن يديرونها. ويرى هؤلاء أنها لا تقدم أي استشارة حقيقية للدولة ولا مساعدة للمجتمع. و يرى أكاديميون ومتخصصون يمنيون أنّ منظمات المجتمع المدني المحلية اليمنية لا تقوم بالدور المطلوب منها في التخفيف من النشاط المُتصاعد للتطرّف والإرهاب الذي بلغ ذروته في عدد من محافظات البلاد، فهي بذلك لا تقوم بدورها كسلطة خامسة تساعد الحكومة المعترف بها دوليا في مواجهة التحديات الراهنة. وقد يكون هذا الاختلاف حول هذه المنظمات ناتجاً عن المشاكل البنيوية والادارية التي تعانيها المنظمات من جهة و عن طبيعة فهم المواطنين لدور منظمات المجتمع المدني الحقوقي الإنساني والتنموي. و بعيدا عن هذا الجدل فإن هنالك قصص نجاحات كما أن هناك قصص اخفاقات ترجع في .المحصلة إلى عوامل متعددة
ومن القصص الناجحة في هذا السياق الدعوة التي وجهتها منظمات المجتمع المدني وأبناء عدن في مارس 2012 تحت شعار “معاً لوقف الاستيلاء على آخر متنفسات مدينة عدن” و” معاً لحماية معالم مدينة عدن الطبيعية والتاريخية والأثرية”. وقد استطاعت هذه الحملة وقف أي تصرف في “متنفس الخليج الأمامي وهو الواقع ما بين فندق ميركيور ومركز عدن مول للتسوق “. وتم إعلانه متنفساً عاماً بحسب المخطط التوجيهي وبحسب التصاميم المعدة للموقع منذ العام 2005م. وتم كل ذلك من أجل تحقيق الاستخدام المستدام والطبيعي للموقع كونه آخر متنفس مفتوح يتبع مدينة عدن التاريخية والذي يتوجب توظيفه كمتنفس عام لخدمة .مدينة عدن وأبنائها
في يناير 2017 أثارت واقعة هدم وإعادة بناء مسجد الحامد العتيق في مدينة عدن القديمة جدلاً واسعاً في أوساط ناشطي منظمات المجتمع المدني الذين طالبوا بوقف عملية هدمه كونه لا يحتاج أي ترميم ولا يمثل تهديداً للمصلين. لكن ووعلى الرغم من توجيهات وزارة الأوقاف وهيئة الآثار و مطالبات منظمات المجتمع المدني فقد ضرب إمام مسجد الحامد تلك التوجيهات والمطالبات عرض الحائط وبدأ بعملية هدم المسجد التاريخي وسط حراسة مسلحة مشددة منعت حتى .المصورين من دخول المكان
الصور بإذن من أحمد شهاب القاضي
ورفض هذه المنظمات ( وعلى رأسها منظمة سواسية برئاسة المحامية هبة عيدروس والدكتورة أسمهان العلس رئيسة الجمعية اليمنية للتاريخ والآثار بعدن) لهذا السلوك يأتي في إطار حملة ضد البناء المستحدث الذي يتم في مساجد المدينة منذ سنوات. فالمعلوم أن بعض فاعلي الخير يعمدون إلى هدم مساجد عتيقة بطرازها الآثري الفريد ويستحداثون بدلا عنها مساجد ذات طراز معمارية اسمنتية جديدة دون نظر إلى تاريخ تلك المباني و أهميتها الآثرية. ويبرر ذلك بمبررات كالتوسعة وإعادة التأهيل. حدث ذلك لمسجد أبان ابن عثمان بن عفان العتيق الذي أعادت بناءه جمعية هائل سعيد أنعم. لقد فقد ذلك المسجد هويته إلى الأبد. ومثل .ذلك ما حدث للزاوية الصوفية التابعة لمسجد الشيخ الهاشمي في الشيخ عثمان التي دمرت بعد العام 1994 و تحولت إلى محلات تجارية
وبهذا الشان تحدثت المحامية هدى الصراري وقالت: “إنَّ هناك جهودا حثيثة من قبل منظمات نشطة تعمل على رفع الوعي وكف العبث بمعالم عدن القديمة ومنها مسجد الحامد. وفي وجه استغال بعض الأفراد والمجموعات لحالة الفوضى في البلد تقدمت هذه المنظمات بمذكرات تخاطب فيها السلطة المحلية في عدن التي أصدرت بدورها توجيهات صريحة بعدم التصرف بالمعالم والآثار دون الرجوع للهيئة العامة للآثار. لكن، ويا للأسف، هناك تجاوز من بعض الجهات .”والأشخاص لهذه الاوامر
و في عريضة احتجاج صرحت الدكتورة اسمهان العلس أن “احتجاج منظمات المجتمع المدني المعنية لن تقف طالما أن هناك قرارات على طاولات السلطة الرسمية بهدم سوق الشيخ عثمان وبيع مستشفى البلدية والمملاح ومسجد الهتاري وعدد من المدارس والمواقع الحكومية التي يعود تاريخها إلى فترة الإدارة البريطانية. لقد طالت يد العبث مسجد البهرة ومعبد الفرس ومعبد اليهود ومنزل مدير سجن عدن الذي تحول إلى مغسلة وبوابة سجن عدن ومدارس
.”عدن ومركز البس للنساء وجزيرة صيرة والصهاريج والدروب السبعة وهضبة عدن وكثير من المعالم الأخرى
أوجه قصور بنيوية وتوصيات لتطوير العمل
إن عودة السلطة القضائية للعمل في عدن سوف يخفف من هذه التجاوزات والانتهاكات التي تتعرض لها المدينة ومواطنوها يوميا . والمعلوم أن منظمات المجتمع المدني لا تزال تعاني من أوجه قصور كبيرة تكمن في الآتي: أولا: غياب التواصل مع سلطة قضائية قوية. ثانيا: القصور في تبادل المعلومات بين منظمات المجتمع المدني وخاصة في ظل غياب شبكة نشطة. ثالثا: سوء الفهم لدور الشبكات في التنسيق وكذا نقص الخبرة وضعف الإدارة المالية والمهارات الإدارية وعدم القدرة على الاحتفاظ بالموظفين المؤهلين . رابعا: تدني الرواتب وعدم انتظام الحصول على الأموال الممنوحة. خامسا: ضعف تقييم عملها وقياس تأثيرها وضعف الحوكمة الداخلية وهو ما تعترف به أغلب منظمات المجتمع المدني في عدن وخصوصا تلك التي برزت بشكل ملحوظ بعد حرب 2015م . سادسا: الفهم المغلوط والخلط للأدوار والمجالات التخصصية بالنسبة لمنظمات المجتمع المدني، فقلة قليلة منها تعي دورها وتخصصها، فالعمل المدني فضاء واسع للعمل يحتاج إلى التعدد. سابعا: ضعف تركيز هذه المنظمات على الوضع الإنساني الذي تعيشه عدن، في ظل وجود العديد من انتهاكات حقوق الإنسان أثناء الحرب .وبعدها
الصور بإذن من أحمد شهاب القاضي
إن تطوير بنية تحتية قوية لمنظمات المجتمع المدني في عدن بات ضروريا؛ فالمدينة تشهد ترديا في جميع نواحي الحياة سواء منها جانب الخدمات العامة أوالصحة أوالاقتصاد و غير ذلك. وبهذا فتدخل هذه المنظمات وتأدية دورها وهو مالم تشهده عدن بشكل ملموس حتى اللحظة الراهنة. وعليه نقترح عدد من التوصيات التي من شانها أن تسهم في تطوير
:رؤية منظمات المجتمع المدني بخصوص دورها ومهمتها في مدينة عدن
.التأهيل المؤسساتي لجمعيات المجتمع المدني على قاعدة الأهلية والاستقلالية والكفاءة الإدارية-
.تنويع تمويل مشاريع مؤسسات المجتمع المدني وفق ضوابط وآليات تضمن الشفافية والمصداقية في التدبير-
.تعميق التواصل بين كافة الشركاء المؤسساتيين والمنتخبين والمجتمع المدني-
.التحفيز على العمل التطوعي عبر الدعاية والتنوير الاعلامي بالموازاة مع تكوين الشباب وتأهيلهم لتحمل المسؤولية-
.ضرورة التشبيك بين مؤسسات المجتمع المدني بما فيه خدمة معرفة ادوارها وتطوير فاعليتها وتعاونها في الميدان-