فن

فن الغناء الصنعاني.. بخورٌ تجاوز الانطفاء

بدايات أم افتراضات؟

ليس للفن بداية، ولا يؤرَّخ أو يرتبط بشخص أو منطقة.. فحين يشدو أحدٌ هنا، لا بد أن يظهر شادٍ آخر في مكان آخر، في نفس التوقيت، أو قبل ذلك.. ومن غير المعقول أن يرتبط الفن الصنعاني بالشعر الحميني، نسبة إلى منطقة “حُمن” بمدينة “حَيْسْ”، ويُنسب أول ظهور له إلى الشاعر ابن فليتة المتوفَّى عام 713هــ الذي كتب قصيدة (لي في ربا حاجر غزيِّل اغيد… ساجي الرنا).. فحين نعرف أن ابن فليتة كان رجل سُلطة في العصر الرسولي فلن نستغرب هذه الريادة. ويبقى كل ما قيل عن تحديد ظهور الشعر الحميني مجرد افتراضات من باحثين لم يجهدوا أنفسهم لإثبات ما يدَّعونه بتأكيد ظهور الشعر الحميني في القرن السابع هجري.

يُعرف الشعر الحميني برقة ألفاظه ومقاصده المتعددة التي تبدأ بالدعاء والتوسل في بداية القصيدة، ثم الانتقال إلى التغزُّل، لتنتهي القصيدة بالصلاة على النبي، كما هو السائد في معظم قصائد الغناء الصنعانية.. ولم يخرج عن هذا النسق سوى الشاعر إبراهيم الحضراني الذي ختم قصيدته الغنائية (لا عتب لا عتب)، بقوله: (واختم القول بك، لأن قلبي يحبك، وانت ما يعجبك، وكل واحد له اشعَبْ).

انبثق الغناء الصنعاني من الموشحات وفن الإنشاد.. وحين اندمج هذا اللون الشعري مع الموسيقى عُرف بـ(فن الغناء الصنعاني)، وارتبط بوجدان الكثير من الناس ليصبح طقساً من طقوسهم اليومية، وضرورة من ضرورات المقيل الصنعاني الذي لا يطيب إلا به.

العمل الفني لمارية العجيلي

الطُّربي أو القنبوس

كان “الطُّربي”، أو ما يسمَّى “القنبوس” هو الآلة الموسيقية المستخدمة في الغناء الصنعاني، متميزاً بأوتاره الأربعة، إضافة إلى الصحن النحاسي الذي يتم نقره بالأصابع كإيقاع موسيقي إلى جانب صوت الوتر. وكان الفنان محمد حمود الحارثي هو المتفرد بحضور هذا الصحن في معظم أغانيه.. ومن الفنانين المعاصرين ينفرد باستخدامه الفنان عبدالله الصعدي.

تقول سارة البردوني في مقالها “قراءة في الشعر الحميني” المنشور بـ”مجلة صنعاء الالكترونية”: (ارتبطت هذه الآلات الموسيقية بالغناء الصنعاني منذ نشأته على بلاط الدولة الرسولية قبل حوالي خمسة قرون، لكفاءتها في أداء الأغاني الصنعانية بتناغم إلى وقت قريب، حتى تم استبدالها بالعود والآلات الحديثة.. ومن خلال نقوش ورسوم سبئيّة قديمة يُرجع بعض الباحثين أن عمر هذه الآلة يعود إلى الألف الأول قبل الميلاد).

إلى ذلك، (يعتبر رئيس البيت اليمني للموسيقى، فؤاد الشرجبي أن آلة العود الصنعانية مهددة بالانقراض، فقد هجرها المطربون اليمنيون واستبدلوها بالعود العربي، ولم نعد نراها إلا في المتحف الوطني، أو عند بعض المطربين والمهتمين بالتراث الموسيقي اليمني). “رصيف – عبدالرحمن شكري”.

رغم ذلك نجد أصواتاً أخرى تقول إن “القنبوس” كان عائقاً أمام تطور الموسيقى اليمنية؛ لأن أوتاره الأربعة لا تتيح للعازف التنقل في كل المقامات كالعود الشرقي الذي ظهر في مطلع القرن العشرين، محتوياً ثمانية أوتار أو أكثر.

لم يعد هناك من يعزف على آلة “القنبوس” سوى أشخاص لا يتجاوزون عدد أصابع اليد، منهم الفنان حسن عوني العجمي، والمهندس المعماري الفنان أحمد الطشي، الذي ما زال مستمراً حتى الآن في تسجيل معزوفاته على قناته في يوتيوب، لاهتمامه المتواصل بإعادة إحياء العزف على القنبوس، وقد تحدث في فعالية فنية أقامها البيت اليمني للموسيقى، في يوليو الماضي، تحت عنوان )القنبوس “الطُّربي”.. عودة إلى السطح(، عن أهمية إعادة هذه الآلة الموسيقية إلى السطح.. وعن صناعة قنبوس كهربائي مطوَّر قال الطشي: “قد يكون مفيداً ومساعداً في إشهار القنبوس الكهربائي، كخيار لمن يريد من الفنانين، ولهذا قمنا بالعمل مع الصانع فؤاد القديمي على تحويل طربي “قنبوس” إلى كهربائي”.

صانع القنبوس الوحيد في اليمن، الفنان فؤاد القديمي، كان حاضراً في تلك الفعالية، وتحدث عن كيفية صناعة آلة القنبوس، التي تحتاج إلى الكثير من الجهد والوقت، إضافة إلى اختيار مواد التصنيع بعناية فائقة، ويعتبر القديمي أول من أضاف هذه الميزة بصناعته قنبوساً كهربائياً، وطوَّر آلة القنبوس لتتماشى مع التطورات التقنية التي يشهدها عالم الموسيقى، كي لا تغيب آلة القنبوس من جديد ويطويها النسيان.

تطورات تقنية في القرن العشرين وبروز الأغنية الصنعانية

بدأ ظهور القصائد الحمينية، مغناةً، في الأربعينيات والخمسينيات بأصوات فنانين مثل إبراهيم الماس، علي أبوبكر باشراحيل، أحمد عبيد قعطبي، قاسم الأخفش وغيرهم. ثم تطورت أكثر في الستينيات والسبعينيات من حيث تطور الآلات الموسيقية وانتشارها عبر الإذاعة وتسجيلها في الاسطوانات وأشرطة الكاسيت، وقد حدثت هذه النقلة بأصوات عديدة، أبرزها: علي بن علي الآنسي، أحمد السنيدار، أيوب طارش، محمد حمود الحارثي،  محمد مرشد ناجي “المرشدي”، علي عبدالله السمة، محمد قاسم الأخفش، ولاحقاً أبو بكر سالم بلفقيه الذي نقل الأغنية الصنعانية إلى المستمع العربي، مصحوبةً بكل الآلات الموسيقية- وليس بآلة العود فقط كما هو السائد- حين شدا بأغنية “أحبة ربى صنعاء” للقاضي الآنسي، وأغنية “وا مغرد بوادي الدور” للقاضي العنسي.

العمل الفني لمارية العجيلي

الأوزان الشعرية وتطويعها للغناء الصنعاني

للقصيدة الغنائية أوزان معروفة وقابلة للغناء بأكثر من لحن.. إلا أن الشاعر والملحن جابر رزق، المتوفَّى عام 1905م، ابتدع أشكالاً وأوزاناً شعرية جديدة لم يتطرق إليها أحد من قبله.

كان جابر رزق مُجدداً، لذلك لم يكن البيت الشعري لديه يتكون من شطرين كما هو السائد، فبعضها كان يصل البيت الواحد فيها إلى سبعة أشطار أو أكثر.. وقد أعادت وزارة الثقافة طباعة ديوانه (زهرة البستان في مخترع الغريب من الألحان)، عام 2004م.

ولولا أنه كان يلحن قصائده ذات الأوزان الغريبة، كما كان يحلو له تسميتها، ويعزفها على آلة القنبوس لبقيت طيَّ النسيان لصعوبة تلحينها.. من هذه القصائد (دع ما سوى الله واسأل)، (عالم السر منا).

الغناء الصنعاني ضمن روائع التراث الإنساني

حين نتحدث عن (فن الغناء الصنعاني) تحضر عبارة (طب النفوس) التي وضعها جان لامبيرت عنواناً لكتابه “طب النفوس.. الفن الصنعاني”، الصادر عن الهيئة العامة للكتاب 2003م، بترجمة علي محمد زيد. كما قام لامبيرت بإعداد فيلم وثائقي عن “الغناء الصنعاني”، يتحدث فيه موسيقيون يمنيون عن أعمالهم الموسيقية، وعن الحياة في اليمن، والفترة التي تم فيها حظر الموسيقى. ففي منتصف القرن العشرين تم منع الغناء وتحريمه في صنعاء، واضطر العديد من الفنانين للسفر إلى عدن لتسجيل أغانيهم تحت عنوان “الغناء الصنعاني”.

جان لامبيرت، مستشرق فرنسي، استقر في صنعاء وبحث في فن الغناء الصنعاني لأكثر من عشرين عاماً، وعزف على القنبوس، وغنى بعض الأغاني الصنعانية بإتقان، وسجلها على يوتيوب، كما شغل منصب مدير المركز الفرنسي للآثار والعلوم الاجتماعية (CEFAS) في صنعاء.

وبجهود الدكتور جان لامبيرت ومتابعته من أجل توثيق هذا الفن الصنعاني أضافت منظمة الیونسكو “الغناء الصنعاني” رسمیاً إلى قائمة روائع التراث الشفهي غیر الملموس للإنسانیة، في السابع من فبراير عام 2003م، ليصبح فن الغناء الصنعاني موروثاً موسيقياً عالمياً وواحداً من روائع التراث العالمي.

شعراء وفقهاء في الحب

في القرن العاشر الهجري وصل الشعر الحميني إلى مرحلة متطورة من النضج ، وكان معظم المتصدرين لكتابة هذا اللون الشعري من القضاة، كالقاضي عبدالرحمن الآنسي، والقاضي محمد بن عبدالله شرف الدين، والقاضي علي العنسي، والقاضي أحمد بن عبدالرحمن الآنسي (الابن)، الذي رغم تفوقه في كتابة القصيدة الحمينية، فإنه لم يستطع تجاوز أباه لطغيان شهرته.

هؤلاء الشعراء الأربعة كانوا أكثر من رفد فن الغناء الصنعاني بقصائدهم.. ورغم أنهم قضاة وحكَّام ويؤمُّون الناس في الصلاة إلا أن قصائدهم كانت تحتوي على صور غزلية تشير إلى انفتاح لم يعد متوافراً في هذا العصر، لعل هذا الانفتاح كان نابعا من روح اجتماعية تجسدها المقولة الشهيرة (إذا خلونا صَبَوْنا)، ولعل المتلقي لهذه القصائد كان منفتحاً أيضاً ولا ينظر بعين الريبة إلى قائلها.

العمل الفني لمارية العجيلي

في قصيدة (لله ما يحويه هذا المقام) تحدث القاضي عبدالرحمن الآنسي- المتوفى بصنعاء عام 1835م- عن جلسة شُرب، ووصف حبيبته ونداماه، طالباً من الساقي ملء الكأس الخامس والسادس، وناصحاً بملازمة الشراب كدواء للضيق:
ففضّ عن دنّ السُّلاف اللثامْ … وإسقني خامس وسادسْ
ما تشرح الأرواح غير الـمُدَام… فلا تكن للكاس حابسْ

وكعادة القصائد تنتهي بالصلاة على النبي حتى وإن كان محتواها مفرطاً في انفتاحه:

وازكى الصلاة تغشى النبي والسلام… ما رتَّل القرآن دارسْ.

تلتزم القصيدة الحمينية بمخاطبة الحبيبة بصيغة المذكَّر، والتحدث معها، غالباً، بصيغة الغائب.. فلم يكن البعض يتجرأ على مخاطبة الحبيبة عن قرب، لذلك يكتفون بإرسال السلام من بعيد، كما في أغنية (أشرف عليَّا كالقمر) للشاعر أحمد بن حسين المفتي: “سلَّم عليَّا بالنظر، سلام لكن من بعيد”.. أو يرسل أشواقه مع الطير، كما في أغنية: يا طير يا ناشر بضوء باكر للقاضي عبدالرحمن الآنسي، وأغنية: يا طير بلغ منيتي وقصدي التي غناها الفنان أبو نصار.. وما أكثر الأغاني المليئة بالطيور التي تحمل أخبار العشاق إلى معشوقاتهم.. ولإيجاد وسيلة أسرع من الطيور استخدم القاضي عبدالرحمن الآنسي الريح، التي عاملها معاملة المذكر، وطلب منها أن تلمِّح لمحبوبته بفيض دموعه، تلميحاً دون تصريح، في قصيدة “يا حي يا قيوم”:

بالله عليك يا ريحْ… أمانه إن تيسَّر لك رجوعْ

لـمِّح لهم تلميحْ… بما شاهدت من فيض الدموعْ

والشوق والتبريحْ… والوجد الذي بين الضلوعْ

واحذر يكون تصريح… حديثك إنني أخشى النفورْ.

العمل الفني لمارية العجيلي

كذلك الشاعر علي بن علي صبرة، من شعراء القرن العشرين الميلادي، استخدم الرياح لسرعتها في إيصال احتضاره وقرب موته إلى محبوبته التي خاطبها أيضاً بصيغة الصاحب المذكر، في قصيدة “مسكين يا ناس من قالوا حبيبه عروس”، قائلاً:

 يا ريح يا ريح يا اللي تدخلي للبيوت

قولي لمحبوب قلبي صاحبك شايموت..

لم يستمر علي بن علي صبرة طويلاً في استخدام الرياح مع حبيبته، فقد كان أول من كسر هذا التابوه- في بداية ستينيات القرن الماضي- ولم يعد يكتفي بالسلام من بعيد، فقد تجاوز علي صبرة قوانين عصره ورمى بالسائد والمتعارف عليه، وجلب الحبيبة في قصائده إلى حيث ينتظرها، وقد بدأ ذلك من مطلع قصيدته:

أهلاً بمن داس العذول واقبل.. وطلعته مثل الهلال واجمل

ومن تعدَّاه في الطريق يُقتل.. بلحظة الفتَّاك شلَّه الله

ويتدرَّج في ترحيبه بها إلى وصف ما حدث:

قال لي: سلام.. وافتش على محيَّا…. مثل القمر، ثم استوى إليَّا

وضمَّني حتى التوى عليَّا….     كالغصن، لكن وسط جنة الله

وذاب في صدري وذبت مثله….   ما زد سمعت إلا رنين قُبلة

والّا تنهّادة وصوت نهلة….        كادت تخليني ألاقي الله.

كتب علي بن علي صبرة هذه القصيدة الغنائية على منوال قصيدة الحسن بن الحسن، “يا عيبتك شبابي”، التي غناها أحمد السنيدار في ثمانينيات القرن الماضي، وقد كتبها الحسن بلغة صنعانية رقيقة:

العمل الفني لمارية العجيلي

ما استرش اداريكم وانتم بعيدين… بين العنا وحدي وانتم سعيدين

ما تصبروش ساعي وانتم وحيدين… حتى ولو قامت قيامة الله

لا ترفلوش يا مسلمين عليَّا… ولا تردوا حجَّته صليَّا

جنت يده، وما جنت يديَّا… هو الرقيب بيني وبينه الله.

لم تقتصر كتابة القصيدة الغنائية الصنعانية على شعراء يمنيين عاشوا وتشرَّبوا اللهجات اليمنية، فقد كتب الشاعر شعبان سليم، المولود في صنعاء من أصول تركية 1065 – 1149هــ، قصيدته الغنائية الشهيرة (شفت الآن)، التي تعدُّ من عيون الغناء الصنعاني.. إضافة إلى الشاعر حيدر آغا المولود بصنعاء من أب تركي، المتوفى في 1669م، وقد ترجم لهما د. محمد عبده غانم في كتابه (شعر الغناء الصنعاني).. ومن أشهر قصائد حيدر آغا المغناة: (من يبلغ غزال رامة)، (حوى الغنج والتفتير)، (عليك يا ناقض لتلك العهود)، (بلغ الأحباب عنا يا نسيم).

تدفق الكثير من القصائد في القرن العشرين، وظهر شعراء غنائيون أضافوا للغناء الصنعاني شجناً متفرداً وشجىً فريداً، من هؤلاء: مطهر الإرياني، عباس الديلمي، عبدالله هاشم الكبسي، يحيى حسين، عبدالله عبدالوهاب نعمان، وغيرهم الكثير.. وما زال شجاهم وشجنهم طرياً حتى اللحظة كأنه بخورٌ أزلي تجاوز الانطفاء.

 

اظهر المزيد

Abdulmajeed al-Turki

a Yemeni poet and Journalist. He works in al-Thawrah newspaper. Al-Turki published in 2004 his book of poetry ‘ The Confessions of Water’. In 2016 he published two poetic collections: the first is ‘ I am like that’ and the second is titled ‘ The Book of Dying’.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى