رأي

كيف تُفسد المنظمات مفهوم ومهنة صناعة الأفلام؟

ما زلنا نتذكر موجة المبادرات الشبابية التي اكتسحت المجتمع بداية العام ٢٠١١ واتسعت أكثر في العامين اللاحقين. حينها، كان الشباب يتحدثون عن التنمية البشرية، وكان الجميع يحمل شهادات في حل النزاع، مهارات التواصل، وبناء السلام وكانت الموضة أن تكون مدرباً في تلك المجالات. يغادر الشباب تلك الورش التدريبية بشهادة ومعرفة سطحية، وتغادر المنظمات بصور وبيانات مُقنِعة تقدمها للمانح. حضرتُ العديد منها وأصبحتُ مدرباً في سن السابعة عشر (من شأن هذا أن يخلق صورة واضحة حول جدية تلك المشاريع).

ومن ضمن المشاريع التي بدأت تنتشر في تلك المرحلة، ثم صارت تشغل مساحة أكبر مؤخراً، مشاريع تدريبية في صناعة الأفلام يقودها إداريون يفتقرون لأبسط مهارات أو مفاهيم تلك المهنة. تدعي تلك المشاريع أنها تقدم تدريباً في كيفية صناعة فيلم خلال مدة زمنية تتراوح بين أيام، شهر، أو حتى ثلاثة أشهر، على وزن “تعلم اللغة الإنجليزية في ثلاثة أيام”. وغالباً ما تحمل تلك المشاريع شعارات رنانة مثل حقوق الانسان وتمكين الشباب في عملية تسليح للأفلام بحيث تصبح أداة لخدمة أجندة معينة، لا تخصصاً لذاته تُقدم فيه القصة والتعبير الذاتي فوق كل شيء (ولا أدعي هنا أنها مؤامرة مخطط لها، ولست مهتماً هنا بمناقشة النوايا). منذ تلك المرحلة وحتى اللحظة، تستمر المنظمات في إنتاج صورة محرفة وهجينة عن مهنة صناعة الأفلام، ويواصل مفهوم “صانع الأفلام” نشؤه في بيئة استغلالية وضبابية.

العمل الفني لسعد الشهابي

مشاريع قصيرةالمدى

إن في اختزال تعلم مهنة مُركبة ومعقدة كصناعة الأفلام في ورشة تدريبية قصيرة المدى مشكلة كبيرة. على خُطى ورش بناء السلام، وحل النزاع، تصمم المنظمات برامج تدريب صناعة الأفلام؛ ورش تمتد لأسبوع، شهر، أو ٢٠ ساعة موزعة على عدة أشهر. وغالباً ما يستخدم مصطلح صناعة الأفلام بشكل مُبهم، فلا تعرف على أي جزء من صناعة الأفلام تركز الورشة: الإخراج؟ الكتابة؟ الأداء؟ هندسة الصوت؟ تصميم الديكور؟ الأزياء؟ وفي الحالات الواضحة القليلة، تُحشر كل جوانب صناعة الفيلم في ورشة واحدة قصيرة.

يشكل هذا الاختزال مشكلة كبيرة لأنه لا يأخذ إنتاج الفيلم كمهنة حقيقية (الدبلوم المهني مدته سنتين، بينما يمكنك تعلم صناعة الأفلام في ثلاثة أسابيع!)، فعلاوة على المدة القصيرة، تُغيب نظرية الفيلم Film Theory عن تلك الورش غياباً تاماً. متسلحين بعبارة المخرج تارانتينو “لا تحتاج جامعة كي تتعلم صناعة الأفلام”، يُهشّم أولئك الإداريون مفهوم صناعة الأفلام، متجاهلين حقيقة أن تارانتينو وكريستوفر نولان وغيرهم ممن لم ينخرطوا في برامج أكاديمية، يقرأون في النظريات الفيلمية ويتابعون مدارس سينمائية مختلفة، ويمكن ملاحظة ذلك ليس في أعمالهم فحسب، بل في الأعمال التي ينظرون لها بتقدير (اقرأ ما قاله الإيراني عباس كياروستامي والكوري بون جون هوو عن تارانتينو).

 تحدثتُ مع عدد من الشباب الذين شاركوا في تلك البرامج التدريبية في مناطق مختلفة من اليمن، وأخبروني جمعيهم أن نظرية الفيلم لا تُذكر على الإطلاق، لا يتم تحليل أي أفلام، ولا يتطرق المدربون حتى إلى تاريخ السينما. بالطبع، لا أستطيع أن أجزم قطعاً أن كل مخرج ناجح في التاريخ كان يقرأ في النظريات الفيلمية أو يشاهد مئات الأفلام، ولا أريد أن أبدو نخبوياً وأنا أركز على نظرية الفيلم وتاريخ السينما. لكنني أستطيع الجزم بأن الطرق المختصرة والحلول السريعة لا تبني أسساً قوية؛ خصوصاً أننا نحيا في بلد ما زالت تتلمس خطاها في السينما وصناعة الأفلام، كما أنه من البديهي أيضاً أن البيئة التي يبحث أصحابها عن أقصر الطرق وأسهلها لن تكون حاضنة لتخلق صناعة جادة.

العمل الفني لسعد الشهابي

لماذا لا تنفذ المنظمات مشاريع طويلة الأمد؟

في الواقع، هذا القرار ليس بيد المنظمات، بل بيد المانح. وهذه مشكلة عميقة تتجذر في طبيعة العلاقة التي تربط المنظمة بالمانح. لأن الجهات المانحة لا تملك حضوراً واسعاً على الأرض، فهي تشترط على المنظمات تقديم نتائج ملموسة وقابلة للقياس في مدة زمنية محددة. هذا الشرط يحد من طموح المنظمات ويرغمها على تحجيم أهدافها، وتحويلها إلى مشاريع صغيرة “سفري” يمكن قولبتها وبيعها للمانح. علاوة على أن المانح لا يمول إلا منظمات تحمل في جعبتها سلسلة مشاريع “ناجحة”، الأمر الذي يشجع المنظمات على تسريع مشاريعها وتهويلها.

يقودنا هذا الى موضوع العناوين الجذابة والتسويق المبالغ به لهذه المشاريع؛ فلكي تكسب المنظمة ثقة المانح، تسعى بكل الطرق الممكنة لبيع مشروعها على منصات التواصل الاجتماعي والمبالغة في تقرير النتائج (٤٠٠ متدرب. مليون مشاهدة..الخ). يُطلق أساتذة العلوم السياسية على هذا الأسلوب بـ “فخ السُمعة Reputation Trap”. أي أن هذه المنظمات، التي ينبغي أن تكون غير ربحية، في سعيها للبقاء وكسب أكبر قدر من المشاريع، تقع في فخ السُمعة وتتحول إلى نسخة طبق الأصل من الشركات الربحية، كما لاحظت دراسة أجراها علماء في جامعة نورث كارولينا.

 وحين تحاول المنظمات طرق وتشكيل مشاريع صناعة الأفلام كي تتناسب مع القالب الذي حدده المانح فهي تتناول المشكلة بأدوات غير مناسبة ولا تنظر إليها من زاوية إصلاح المشكلة، بل من زاوية بقاء المنظمة. فيكون الناتج برامج تدريبية قصيرة مهتمة بإنجاز التقارير أكثر من جودة المشروع نفسه.

تسليح الأفلام وتسليع المعاناة

في الغالب، تُركز المادة التدريبية التي تقدمها المنظمات على التصوير الوثائقي. توثيق المعاناة اليمنية، كي أكون دقيقاً أكثر. قد يعود هذا التركيز إلى الاعتقاد بأن الأفلام الوثائقية أسهل من الروائية، خصوصاً في اليمن، وقد يكون بسبب حقيقة أن معظم المنظمات لها باع في المجال الإغاثي والتنموي وهي بحاجة مستمرة لإنتاج تقارير مطولة عن المجاعة والحرب. فالمنظمات، كما ذُكر أعلاه، رهائن لدى المانح، وبالتالي فإن المعاناة هي “رأس المال” بالنسبة لها،  كما تكتب نوارة حنينة في مقال مهم تُركز فيه على تسليع المعاناة اليمنية.  تحت غطاء “الأفلام الوثائقية”، حيث يتم تدريب أولئك الشباب في كيفية استخدام كاميرا تصوير، تُعرض قوالب جاهزة تحث على تهييج مشاعر الحزن والشفقة. بعد مشاهدة “الأفلام” التي تنتجها المنظمات، يستنتج المشاهد أنه ليس أمام عملٍ ذي جودة حكائية فنية، بل مادة مباشرة يطغى فيها الاستخدام المفرط لموسيقى حزينة ولقطات موجعة لأفراد أرغمتهم الحياة أن يظهروا أمام الكاميرا.

في الحالات التي يستلم فيها المتدربين منحاً مالية لصنع فيلم قصير، تُفرض على المتدرب قيود وقوالب تضمن تركيزه على تلك القضايا. يأتي ذلك بعد أن سمع المتدربون في الورش التدريبية، أن قصصهم يجب أن تنقل معاناة الناس، أن تحمل رسائل توعوية\تناقش قضية معينة (الحرب، المجاعة، زواج القاصرات، تجنيد الأطفال..الخ).

 تختزن مخيلة الشاب هذا التصور عن القصص اليمنية، وحين يحاول إنتاج أعماله الخاصة لاحقاً، نراه يصنع فيلماً عن ضحايا الحرب محاولاً أن يحشد أكبر عدد من الرسائل التوعوية في عمله القصير. ذلك منطقي، من منظوره، لأن الفيلم أداة تعليم وتوعية. ولستُ هنا ضد أن تتخلل الفيلم رسائل توعوية، لكنني ضد الفيلم التوعوي. والفارق كبير. الفيلم التوعوي تشكل القضية\الرسالة قاعدته الأساسية وتتحرك كل الشخصيات والأحداث في سبيل إيصال تلك الرسالة. يسلب هذا التصور فردانية صانع الفيلم، تحجب عنه رؤيته المميزة للحياة، وتلهيه عن القصص التي تعكس الحياة اليمنية بكامل تعقيداتها وتركيباتها. يُفسد هذا التصور مفهوم الفن والأفلام ليس لدى المهتمين فحسب، بل لدى المشاهد بشكل عام، فالذائقة الفنية ليست فطرية بل مكتسبة.

غياب الكفاءة والمسؤولية الأخلاقية

لا ينحدر معظم مديري البرامج التدريبية من خلفيات فنية، وهذا يحد من إمكانياتهم على تصميم برامج مكتملة، ويضعف من قدرتهم على قياس فاعلية التدريب. ينتج عن هذه الفجوة المعرفية مفهوم مُبّسط ومسطح لمهنة صانع الفيلم، التي هي بالأساس مؤلفة من عدة مجالات؛ كالإخراج، والإنتاج وكتابة السيناريو وتصميم الديكور وهندسة الصوت وإدارة التصوير وتصميم الأزياء.  وللأسف، يتشرب الشباب المهتم تعريفاً محدوداً لصناعة الأفلام وينعكس ذلك على الطريقة التي يتناولون بها مشاريعهم؛ فإذا كان كل ما يحتاجه المتدرب لصناعة فيلم هي كمية المعلومات التي تلقاها من الورشة فسيتولد لديه شعور بالاكتفاء، والشعور بالاكتفاء، خصوصا لدى الفنان، فخً.

ولعل انخراط معظم من يشتركون في تلك الورش في مجال التصوير الوثائقي يفسر لنا تركيز المنظمات على هذا الجانب دون غيره. الأمر أشبه بالتجنيد؛ تستقطب المنظمات أولئك الشباب بذريعة الفن، ثم تحولهم إلى آلات لإعادة تدوير المعاناة اليمنية. يتحول الشباب من حالمين بصناعة الأفلام إلى مصورين إخباريين يتنقلون بين مخيمات النازحين في مهمة إيصال معاناتنا للعالم ومن أجل تقديم الإثبات المصور للمانحين أن كيس السكر وعلبة السمن وصلت بحفظ الله وسلامته. أخبرني أكثر من مصور في عدة لقاءات أجريتها بغرض كتابة هذا المقال، أن بعض المنظمات، إلى جانب فرض قوالب محددة لتلك “الأفلام”، يطلبون من المصورين، بطرق غير مباشرة، فبركة قصص الأُسر والتهويل من معاناتهم، إن أمكن. قصص الفبركة التي سمعتها كثيرة، وقصص محاولة الحصول على لقطة تبكي فيها الأسرة أو الطفل أكثر. ولست هنا بصدد نقاشها تفصيلاً حفاظاً على سرية مصادري. تتراوح أعمار المصورين بين ١٩ – ٣٠ سنة؛ أي أن المنظمات تتعامل مع أفراد يقفون على أعتاب حياتهم المهنية، وغياب المسؤولية الأخلاقية في التعامل مع هؤلاء الشباب خطير جداً. هذا التعامل اللامسؤول لا يفسدهم كفنانين فحسب، بل كمواطنين صالحين، في بلد يغرق في الفساد.

العمل الفني لسعد الشهابي

الحل؟

نحن نعلم أن معضلة الفن عموماً، والسينما خصوصاً، في اليمن لم تبدأ مع المنظمات، كما أن الحل ليس بيدها وحدها. المتعارف عليه أن غياب الدعم الحكومي ومحاربة المؤسسات الدينية للسينما يتحملان النصيب الأكبر. كما أن انتشار موضة صانعي المحتوى جعلت من الصعب إيجاد تعريف دقيق لصانع الأفلام (وهذا موضوع مقال منفصل).

مع ذلك، منذ الانقلاب على الدولة في ٢٠١٤، قامت المنظمات بدور الحكومة في أكثر من جانب وأخذت على عاتقها مهمة التنمية. تستند المنظمات على قضايا سامية كمحاربة الفقر، توفير المياه، تعليم الأطفال وتمكين الشباب، وتتقاضى عليها مبالغ مهولة. وبالتالي فإن هذه المنظمات ملزمة من منطلق المبادئ التي تدعيّ الإيمان بها، أن تكون مخلصة في أنشطتها ومشاريعها، وأن تتعامل مع شروط وقوالب المانح كفرصة للتفكير بحلول أفضل، لا كرخصة للتهرب من المسؤولية.

لماذا لا يتم اقتراح برامج توفير منح دراسية سنوية لدراسة السينما مثلاً في دول كمصر وتونس وتركيا، خصوصاً من قبل المؤسسات والمنظمات العريقة التي تملك علاقات وثيقة مع المانحين؟ هناك العديد من برامج المنح الدراسية التي تعتمد على دعم المانحين، وبإمكان المنظمات دراستها والاستفادة من تركيبتها.  لماذا لا يوجد مشروع لترجمة أهم الكتب والمقالات السينمائية إلى العربية وتوفيرها للمهتمين في الداخل؟ هذا مشروع يمكن صياغته في صورة مقترح مشروع وتقديمه للمانح بصورة مقنعة. لماذا لا يتم التعاقد مع معاهد تدريب صناعة أفلام دولية وتقديم دروس على الانترنت، مع جمع المتدربين في قاعة واحدة مُجهزة بتقنيات حديثة وخدمة انترنت سريعة تسمح لهم بحضور التدريب مجتمعين؟ هذه أيضاً فكرة يمكن صياغتها في صورة مشروع ومحاولة إقناع المانح بها.  أين دور مؤسسات الدراسات والأبحاث في دراسة اهتمام الشباب المتنامي في صناعة الأفلام وجاهزية المجتمع لتقبل فكرة السينما من عدمها؟ أفكار المشاريع الحقيقية وحلول المشاكل هذه موجودة، لكنها موجودة فقط حين نتوقف عن التعامل مع المتدربين كمجرد رقم تضعه على بيانات التقرير الذي يُرفع للمانح أو مشروع مُصور نقوم بإرساله لتوثيق معاناة اليمنيين. أنتم تملكون فرصة المساهمة في إنعاش السينما في اليمن، وأتمنى أن تأخذوها على محمل الجد.

اظهر المزيد

Yousef Assabahi

صانع أفلام يمني مقيم في الولايات المتحدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى