النساء والنوع الاجتماعيفن

المركز الثقافي في صنعاء: نساء وفتيات يعزفن السلام

This post is also available in: English (الإنجليزية)

صورة جماعية لطالبات و طلاب المركز مع أستاذهم, الصورة بإذن من عائشة الجعيدي.

“ينتهي كل الكلام وتستمر الموسيقى”، هكذا تشعرين، حقا، وأنتِ تدلفين إلى بهو المركز الثقافي في صنعاء، وتسمعين ريام وهي تعزف اليوم ” أسمر يا اسمراني”؛ تعزفها ريام وكأنها تمسك الكمان منذ ألف عام من الحلم كي يحل السلام.

ريهام الدبعي, الصورة بإذن من عائشة الجعيدي.

ريام الدبعي / 17 سنة هي قائدة فريق الكمان وإحدى أكثر من 40 طالبة التحقن بالمعهد العالي للموسيقى بالمركز الثقافي في صنعاء منذ تأسيس فريق الكمان في 2018 على يد الأستاذ عبدالله الدبعي كمحاولة منه لتخفيف آثار الحرب على الشابات والشباب رغم شحة الإمكانيات. هي خطوة في سبيل تحقيق حلمه بفرقة أوركسترالية وطنية تعيد ما كان في الماضي. كان الدبعي أحد أعضاء فرقة أوركسترالية أنشئت في السبعينيات من ثماني عشر رجلًا وثمان نساء وضمّت كل الآلات الوترية والنحاسية. كان لتلك الفرقة مشاركات خارجية في عدة دول كان آخرها الولايات المتحدة. ثم غابت تدريجيًا منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي.  يقول الدبعي بأسى: “غادرت الموسيقى البلاد لتحل الحرب مكانها”.

الزائر للمركز يلاحظ منذ دخوله أن معظم روّاده من النساء وعن ذلك يقول الأستاذ عبدالله الدبعي: إنه يريد أن يصنع عازفات يمنيات كون اليمن تزخر بالمواهب الشابة التي لم تتمكن الحرب الطويلة التي أتت تقريباً على كل شيء من المساس بها. من أصل 60 طالبا التحق بالمعهد منذ تأسيسه هناك أكثر من ثلاثين فتاة يتعلمن النوتات الموسيقية المختلفة بين الكمان والغيتار والعود والأورغ والغناء أحيانًا!

صفاء العزعزي, الصورة بإذن من عائشة الجعيدي.

صفاء العزازي إحدى طالبات صف الكمان تقول إنها التحقت بالمعهد لشغفها بالموسيقى ولأن التعليم فيه مجاني على الرغم من فترة التدريس القصيرة وقلة الآلات وبُعد المسافة. صفاء لا يمكنها كغيرها من الطالبات أن تقضي وقت الإجازة في معاهد أخرى سواء أكانت موسيقية أو غيرها؛ لأن رسومها مرتفعة ولا تستطيع الأسر تحملها في ظل انقطاع الرواتب وغلاء المعيشة.

بهذا فسّرت صفاء الإقبال الكثيف للفتيات على المعهد وبأن النساء في اليمن أصبحن أكثر جرأة ورغبة في التعلم والمشاركة في صنع حالة من السلام تقربهم الموسيقى إليها.  كما أنهن يطمحن في التفوق والحصول على فرص المشاركات الإقليمية والعالمية؛ الأمر الذي يحيي الأمل في نفوسهن من جديد.

نورهان بن عبدات الكثيري شابة متميزة أخرى من طالبات المعهد. تدربت نورهان في المعهد. لم نستطع مقابلتها؛ فقد حصلت على دعم أحد التجار لتتمكن من السفر للمشاركة في برنامج الصوت “The Voice” العالمي في نسخته العربية. وذلك بعد أن تمّ اختيارها من بين آلاف المتقدمين العرب.

صورة من الدروس, الصورة بإذن من عائشة الجعيدي

الأستاذ عبدالله الدبعي، الحاصل على شهادتين في الموسيقى إحداهن عربية والأخرى من دولة أوروبية، يبذل وقته وجهده وماله في سبيل استمرار العمل في هذا المعهد رغم أنه المدرس الوحيد. تبلغ مدة الدرس الواحد الذي يقيمه الأستاذ عبدالله 35 دقيقة يوميًا لكل مجموعة؛ ويعلل ذلك بأن الآلات لا تكفي حيث يتداول الآلة الواحدة أكثر من طالب. وهكذا يتمكن الأستاذ من تقسيم الوقت بينهم من أجل تعليمهم النوتات الموسيقية.  وإلى جانب النقص الواضح في الآلات والذي يحاول وحيدا تغطيته، يقطع الأستاذ الدبعي ما يقارب الستة كيلومترات يوميًا من وإلى المعهد دون أدنى دعم ويغادره في الظهيرة ليعمل خياطًا في الفترة المسائية لتوفير قوت أسرته اليومي بعد سبعة وعشرين عامًا قضاها مع الموسيقى وللموسيقى. هو يرى أن النغم فطرة إنسانية لابد أن تهذب وأن الموسيقي الحقيقي هو من يدرس الموسيقى دراسة أكاديمية.

مسألة الدعم المادي أمر لا يتم تداوله عادةً في المركز الثقافي؛ فبين سنوات الإحباط التي استطاع الأستاذ الدبعي تجاوزها والطاقة الإيجابية التي تبثها الموسيقى في الأجواء وبين انهماك الطلاب في التعلم واعتيادهم على هذا الوضع المتأزم لا تُناقش مسألة الحصول على مصادر دخل إذ يرفض الأستاذ قطعًا أخذ رسوم مالية من الطلاب. ومن الملفت غياب دور منظمات المجتمع المدني خصوصًا تلك العاملة في مجال السلام والثقافة بشكل كامل عن دعم جهد هام كهذا. غير أن الدكتورة فيروز ضيف الله وهي محاضرة بجامعة صنعاء وإحدى طالبات المركز أيضًا في صف البيانو والتي عادت إليه بعد انقطاع سنوات طويلة لأنها تعتقد أنه الشغف المفقود والطاقة التي تحتاجها في حياتها الحالية، تبذل جهدًا حثيثًا لترتيب الأوضاع الداخلية للمعهد وتسعى لإيجاد موارد مالية عبر الإنترنت. تخصص الدكتورة فيروز الوقت لذلك بالرغم من اكتظاظ أيام أسبوعها بالمحاضرات التي تلقيها في الجامعة لتخلق الدافع لدى طلاب الموسيقى للمضي قدمًا في متابعة مواهبهم وتطوير هذا المعهد الذي يعد بيتهم الثاني. وهم، كما أخبرتنا، على الطريق الصحيح للوصول إلى بيئة أكثر صحية وفاعلية لتعلم الموسيقى. الدكتورة فيروز لديها قدرة عزفية ساحرة اكتسبتها منذ ارتيادها لصفوف البيانو في إحدى الدول الأوروبية التي قضت فيها فترة من حياتها. تحظى فيروز باحترام بقية الطلاب ومحبتهم الجمة كونها تشكل لهم، كما أظن، نموذجاً ناجحاً يجمع بين الدرجة العلمية الرفيعة والموسيقى التي ظلت لوقت طويل إحدى التابوهات النمطية التي تتجنّبها العائلات ويتبعها “الغاوون”!

صور الفرقة القديمة, الصورة بإذن من عائشة الجعيدي.

دور الأستاذ عبدالله في المركز لا يقتصر على التعليم فهو الأب الروحي للجميع في هذا المكان وخصوصًا الطالبات إذ يعمل على كسر حاجز الخوف والتردد لديهن باستمرار، ويعزز شعورهن بقيمة الفن الذي يمتلكنه بل ويشجعهن على مقابلة الزوار وأخذ الصور. ويسعى الأستاذ الدبعي جاهدًا من أجل أن تحصل الطالبات على الفرص التي يعتقد أنهن يستحققنها بجدارة، بالإضافة لسماحه لبعض منهن بمرافقة أفراد من أسرهن لهن. وبذلك تكونت داخل المركز أسرة دافئة مكونة من عدد من الأسر الصغيرة المتحابّة التي يجمعها هرمونيا الموسيقى.

أتت زيارتنا للمركز الثقافي في صنعاء ضمن زيارة عمل إلى صنعاء كممثلين لنادي “تكوين” بمدينة المكلا والذي شارك في إحدى مشاريع مؤسسة المورد الثقافي التي تهدف لتوطيد العلاقة بين المؤسسات الثقافية بالمنطقة العربية.  خلال تلك الزيارة تمكنا من الجزم بأن الفن في اليمن هو ضمن الجماليات القليلة التي لم تقتلها الحرب بعد. بل قد أقول إنها صقلتها وزادتها بروزًا.  إن استمرار مثل هذه المراكز الثقافية والمبادرات الذاتية وتنامي الوعي الشبابي تجاه الفن كأحد مظاهر السلام والمدنية ومحاربة العنف والتطرف يجعل اليمن باقية على خارطة العالم في محافل الفن والثقافة. ومع الأسف، لا يخفى أن اسم اليمن قد غدا مقترنا في وسائل الاعلام العالمية بالفقر والحرب والتطرف.

الأستاذ عبد الله الدبعي مع الأستاذ النعمان, عازف التشيلو في الفرقة الوطنية سابقا، الصورة بإذن من عائشة الجعيدي.

وإذا تحدثت عن تجربتي الشخصية؛ فكم تمنيت ضمن اهتماماتي الثقافية أن أحصل على مقعد في صف بيانو بمعهد رسمي أذهب إليه حاملة نوتاتي وسط حشد من الأطفال والفتيات والشباب غير خائفة ولا متوجسة. وفي هذا المقام أتمنى أن تحصل ريام على منحة لمقعد في كلية للموسيقى السنة القادمة عوضًا عن الإعلام الذي قررت أن تتخصص به فقط لأنه المتوفر، كما أخبرتني. ومن الأمنيات أيضا أن تحصل صفاء على فرصتها في العزف على أحد المسارح العالمية وأن يتمكن الأستاذ عبدالله الدبعي من توفير آلة لكل طالب في المعهد، وأن تعود المعاهد في بقية المحافظات لتفتح أبوابها محققة أحلاما مكبوتة في صدور موسيقيات مغمورات وموسيقيين مغمورين يتناثرون في قرى البلد ومدنه.

وأتمنى بشدة أن تنشأ في بلادنا، وهي إحدى قلاع التنوع الموسيقى العربي العريق، كليات ومعاهد ومسارح، مع ما ينبغي أن يصاحب ذلك من وعي مجتمع رحب يتذوق الفن ويعرف قيمته في بناء وديمومة السلام.

 إن ريام وصفاء ونورهان والعشرات غيرهن يرفعن أقواس الكمنجات ليعلو صوت الموسيقى فوق كل صوت ناشز يدعو للصراع. إنَّ هؤلاء النساء الصغيرات وأستاذهن الذين يقطعون 6 كيلو مترات يوميًا إلى شارع العدل وسط صنعاء لا يعرفون أنهم يطوون كل صباح زمنًا طويلًا من الفراغ والسكوت؛ السكوت الذي سمح لأصواتٍ مزعجة بالتسرّب إلى بلادنا منذ سنوات، ولم يتمكّن العالم حتى اليوم من إيقافها!

الصورة بإذن من عائشة الجعيدي

 

 

عائشة الجعيدي، كاتبة وفاعلة ثقافية وناشطة شبابية في مجال السلام والتنمية.

اظهر المزيد

Aisha Aljaedy

A student at the American University in Cairo, a content creator as well as a cultural, peace and human rights activist.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى