رأي
أخر الأخبار

مملكة البنط المفقودة “أرض الله” وحضارة اليمن السابعة

أسماها الفراعنة ” أرض الله ” وبلاد البنط، وموطن الأجداد، وقالوا هي المكان الذي تشرق منه الشمس، وبلاد البخور واللبان والعطريات الفاخرة، ورأوا أن الطريق إليها يكون بالسفر نحو الشمس عبر البحر الأحمر. وفي تحديد مكانها ترك الفراعنة إشارات متخبطة وأوصافا محيرة، وانتهى عصر الفراعنة وانقضت حضارتهم ليختفي ذكر أرض البنط مع مرور آلاف السنين. وجاء القرن العشرون ليتم الكشف عن النقوش الفرعونية التي ذكرت مملكة البنط، فكان السؤال الأهم: أين كان موقعها؟

 يستعرض هذا المقال أدلة على حضارة يمنية قديمة ومجهولة، عرفت الكتابة وأنشأت المدن ومارست الزراعة والتعدين وأسست مجتمعات منظمة، وكانت خلال زمن الفراعنة المجتمع الساحلي الأكثر تطوراً في البحر الأحمر. وبالاستعانة بالنقوش المصرية القديمة ونتائج المسوحات الميدانية يطرح هذا المقال فرضية كون هذه الحضارة هي مملكة البنط المفقودة.

أين كانت هذه الحضارة؟

تتحدث النقوش الفرعونية من الألفية الثانية قبل الميلاد عن مملكة بعيدة تدعى” البنط “. وضعت غالبية هذه النقوش أرض البنط في اتجاه الشرق. مع ذلك، بعد اكتشاف نقوش تحتمس الثالث العائدة إلى عام 1425 قبل الميلاد والتي وضعت البنط ضمن قائمة البلدان الواقعة جنوب مصر، ساد اعتقاد بين العلماء على أنها من البلدان الأفريقية الواقعة جنوب مصر كالسودان وارتيريا والصومال1. وقد تجاهل هذا الاعتقاد النقوش الأخرى الكثيرة التي وضعت البنط في جهة الشرق والجنوب الشرقي. أما نتائج المسوحات الميدانية، فإنها لم تخرج بدليل واحد يؤكد وجود مجتمعات متقدمة في الساحل الأفريقي المطل على البحر الأحمر خلال عصر الفراعنة. في المقابل، كشفت المسوحات التي أجريت على سواحل اليمن عن بقايا مدن متطورة ازدهرت خلال عصر الفراعنة2، وهو ما يجعلنا نفترض أنها موطن مملكة البنط المفقودة.

العمل الفني للينا العمودي

حضارة اليمن السابعة

 كشفت المسوحات الميدانية على سواحل اليمن الغربية عن بقايا حضارة ازدهرت خلال الألفية الثالثة والثانية قبل الميلاد3. وأظهرت أن هذه الحضارة قد مارست القليل من الكتابة والزراعة وأنتجت الفخار وأسست مجتمعات هرمية منظمة ذات سلطة مركزية، كما أنشأت مدناً واسعة ومخططة بأسوار وشوارع وأرصفة، وبيوتاً فسيحة مبنية من الطوب واللبن مع أفنية داخلية4، وكذلك معابد وأفران وورش للتعدين5، وفي الأرياف حيث كانت البيوت أكواخ بسيطة، فقد زرُعت الحقول وأُنشِئت السدود وقنوات الري وصهاريج المياه والمحاجر والمناجم. ويعود الغموض الذي يلف بقايا هذه الأثار إلى انعدام النقوش الكتابية التي خلفها السكان، باستثناء نقش واحد باللغة اليمنية المبكرة6 (السامية الجنوبية الغربية). وهذا يبدو منطقياً خلال تلك الفترة القديمة والتي تعرف بحقبة تعلم الكتابة في الجزيرة العربية، حيث كان الظهور المبكر والتدريجي للكتابة اليمنية القديمة.

امتدت مستوطنات هذه الحضارة على طول سهل تهامة وصولاً إلى عدن، وتمركزت بكثافة على ضفاف نهر زبيد الجاف حاليا3، حيث عُثر على بقايا قرى احتوت بعضها تماثيل وأوعية خزفية وأخراز ذهبية وسبائك وخناجر نحاسية تعود إلى بدايات الألفية الثانية قبل الميلاد، بالإضافة إلى أعمدة حجرية ومنحوتات حيوانية. وعند مصب النهر وجدت آثار مدينة مخططة بمباني من الحجر والطوب والسراميك المزينة، ويُعتقد أنها كانت ميناءً وسوقاً لتبادل البضائع مع الخارج6. وبالقرب من عدن وجدت بقايا مدينة بتخطيط متطور يوحي بوجود ثقافة متقدمة، حيث قسمت المدينة إلى أحياء سكنية وصناعية ودينية. عاشت مجتمعات هذه الحضارة اتحاداً له ملامح فدرالية3. و قد انتمى جميع سكان هذه المستوطنات الحضرية إلى ثقافة ودين واحد، وانقسموا إلى فئات اجتماعية مختلفة7 : منهم صيادون سكنوا الساحل، وتجار سكنوا المدن، ومزارعون عملوا في زراعة الدخن وتربية النحل في ضواحي المدن والأرياف8.

العمل الفني للينا العمودي

رحلات الفراعنة إلى البنط

في القرن الماضي وجدت نقوش ورسومات توثق رحلة قام بها الفراعنة إلى أرض البنط في حوالي العام 1475 قبل الميلاد. وفي النقش يتحدث تحتمس الثاني إلى زوجته حتشبسوت قائلاً:

“يا صاحبة الجلالة، لقد استمعت إلى وصية إلهي بأن أجعل منزله كأرض البنط بغرس أشجار أرض الله بجانب معبده في بستانه كما أمر. فعلت ذلك للوفاء بالنذور الواجبة علينا، فجعلت حديقته كبلاد البنط، كما هي أرض الله. لم يطأ أحد أرض المرّ التي لم يعرفها الناس، ولكنهم سمعوا عنها عبر روايات الأجداد”

هنا يتضح أن الفراعنة لم تطأ أقدامهم أرض البنط قبل هذه الرحلة. وإن كانت البنط في أرتيريا أو الصومال، فكيف يمكن فهم عدم وصول التجار والمهاجرين والحملات الاستكشافية إلى مناطق بهذا القرب في زمن العربات والخيول؟

ثم ينقل النقش حديث زعيم البنط عند استقباله للمصريين:

بأي طريق أتيتم إلى هنا؟ إلى هذه الأرض التي لم يعرفها المصريون؟ هل أتيتم عبر طرق السماء؟ أم سافرتم على الماء إلى هذه الأرض التي وصل إليها ترحالكم؟3

هنا يتضح لماذا لم يصل المصريون إلى البنط من قبل، وكأنها جزيرة معزولة، وليست بلداً أفريقياً تربطه بمصر العديد من الطرق البرية. تزيد هذه الإشارات من ترجيح كفة اليمن القديم، البلد المعزول حتى وقت قريب بين صحاري الجزيرة العربية من جهة والبحر الأحمر وخليج عمان والبحر العربي من بقية الجهات.

رافقت النقوش رسومات لسكان البنط ونباتاتها وحيواناتها. وبالحديث عن البنطيين فقد فرقت اللوحات بينهم وبين النوبيين أكثر الأفارقة قرباً لمصر، فأظهرت البنطيين ببشرة قمحية شبيهة ببشرة المصريين، في حين أظهرت النوبيين ببشرة سوداء شبيهة ببشرة الأفارقة7. وفي الواقع لا يملك الصوماليون أو إي من سكان وسط وجنوب أفريقيا لون بشرة يقارب لون بشرة المصريين أو أفتح من بشرة النوبيين، بينما يتطابق هذا الوصف مع اليمنيين بلون بشرتهم المقارب للون بشرة المصريين الأفتح من بشرة النوبيين. وأما عن النباتات المرسومة، فإن خشب الأبنوس هو واحد من الأخشاب المنتشرة في اليمن7، وكذلك نخيل الدوم البري المنتشر بالقرب من أثار المستوطنات المجهولة التي تحدثنا عنها، حيث استخدمه سكانها لطحن الأسماك المجففة. وفي المقابل فلا وجود لهذا النخيل في شمال الصومال8.

العمل الفني للينا العمودي

خلال زمن تنفيذ اللوحات، كانت غالبية الحيوانات المرسومة تستوطن اليمن بالفعل، كالفهد9 والنمر والوعل وقرد الرباح والثور الوحشي والمستأنس. أما وجود وحيد القرن الهندي في اللوحات10 فيزيد من إستحالة كون البنط بلداً أفريقياً، فلماذا يهتم الأفارقة بجلب هذا الحيوان من الهند في حين تعج أرضهم بقطعانه؟ في المقابل نجد أن اليمنيين كانوا منذ القدم أكثر شعوب البحر الأحمر ارتباطاً بالهند، وقد جلبوا من هناك البضائع والحيوانات. وعن وجود الزرافة في اللوحات، فكما أن اسمها ذو أصل عربي، ( giraffe ) ويعني ” الشيء الجميل”، فقد كانت على مدى التاريخ أغلى وأهم الهدايا الملكية المتبادلة بين الممالك والحضارات خارج موطنها الطبيعي ” أفريقيا”11. وقد كان أباطرة الرومان والفراعنة والفرس يتباهون بحدائق ملكية مخصصة للزرافات. وقد تسببت حالة الإعجاب والذهول التي أحاطت بالزرافة بتحولها إلى قيمة رمزية ملكية ودبلوماسية، فكانت تُقدم إلى الملوك لكسب الود وعرض الخضوع12. ومن خلال مراجعة نتائج الرحلات الصينية في المحيط الهندي يتضح جلياً أن من الممكن أن تقوم اليمن بتقديم الزرافة كهدية، في حين تكتفي الصومال بتقديم نوع آخر من الهدايا. ففي القرن الخامس عشر للميلاد، قام الإمبراطور الصيني يونغلي بإرسال رحلات استكشافية إلى الهند وتايلاند وسريلانكا واليمن والصومال12، ومن هناك جلبت الرحلات الكثير من الهدايا، كالزرافات التي لم تقدمها الصومال حيث موطنها، بل قدمتها بلدان من خارج أفريقية وهي البنغال واليمن11. وعلى هذا النحو كان من المعتاد منذ القدم وجود حيوانات أفريقية في اليمن، كالثور الوحشي الذي استوطنها خلال عصر البنط المفترض12، وغيره من الحيوانات التي جلبها سكان تهامة من أفريقيا، فقد كانوا منذ آلافالسنين يعبرون البحر بانتظام لصيد المواشي وتبادل الهدايا مع الأفارقة5.

لماذا ليست الصومال أو أرتيريا؟

مع عدم وجود إشارة إلى مضيق باب المندب، فإن موقع الصومال لا يبدو متناسبا مع وصف مسار الرحلات الفرعونية لاسيما أنه لا يمكن الوصول إلى الصومال بحرياً دون عبور هذا المضيق10.  من ناحية أخرى، يصعب تبرير الزيارات المتكررة التي قام بها البنطيون لتقديم الهدايا وتجديد الولاء للفراعنة، فالصومال لا تطل على البحر الأحمر، بل على بحر آخر هو بحر العرب، الذي لم يصله أي تهديد عسكري من الفراعنة، ولم يطله نفوذهم التجاري على البحر الأحمر. أما إرتيريا، فلم يُعثر فيها حتى الآن على إي مدن متطورة تعود لتلك الفترة، ومع ذلك، فقد كانت حضارة البنط منقسمة ويحكمها عدة حكام1، وربما شملت الساحل اليمني والإرتيري معاً، فعلى مدى التاريخ كان هناك تأثير متبادل واتحاد متقطع بين الضفتين، وطالما تحدثت المصادر القديمة عن شعب واحد يستوطن ضفتي البحر الأحمر13، كما أن الألفية الثانية قبل الميلاد قد شهدت بالفعل اتحاداً ثقافياً بين الضفتين2.

رسمة فرعونية قديمة على حائط الدير البحري ( المعبد الجنائزي لحتشبسوت في مصر ) يصور الرسم قافلة من البنطيون يأتون إلى مصر محملين بالعبيد والقردة والنمور.

لماذا نعتقد أنها اليمن؟

اشتهرت اليمن قديماً بتصدير نفس العطريات التي نسبتها النقوش الفرعونية إلى حضارة البنط، مع العديد من الأدلة التي تؤكد تفضيل المصريين القدماء للعطريات القادمة من اليمن10. بالإضافة إلى توافق موقعها مع إشارات أغلب النقوش الفرعونية الخاصة بالبنط، تقول إحداها ولدت الشمس في الجنوب الشرقي من السماء، وراء أرض البنط في الاتجاه الجنوبي الشرقي المائل”. وفي حال اعتقدنا بوجود تخبط في النقوش ما بين الجنوب والشرق، فإن ذلك يقودنا إلى اتجاه واحد يتوسط الاتجاهين، وهو الجنوب الشرقي المتوافق مع موقع اليمن. ومن ناحية أخرى، يتحدث نقش آخر عن أن بدو آسيا كانوا جزءاً من سكان البنط14، وهذا أيضاً يقودنا إلى اليمن، البلد الأسيوي الذي يشكل البدو جزءاً من سكانه حتى وقتنا الحالي.

مع بداية الألفية الأولى قبل الميلاد لم يعد هناك أي ذكر لأرض البنط في النقوش الفرعونية10، وهو ما يتوافق مع بدء انهيار الحضارة المجهولة التي تحدثنا عنها. وتجارياً يمكن بسهولة ربط هذا الانهيار مع توقف الفراعنة عن ذكر البنط، ففي تلك الفترة فقد الساحل اليمني مركزه كبوابة اليمن في تصدير منتجاتها إلى العالم لصالح مناطق الصحراء الداخلية القريبة من مصادر إنتاج العطريات، وهي سبأ ومعين وقتبان وحضرموت، وهي الممالك التي أشرفت على الطريق التجاري الجديد ” طريق البخور” الطريق البري البديل عن الطريق البحري القديم.

عموماً، في ظل عدم توفر أدلة حاسمة، يبقى انتماء المواقع المكتشفة في سواحل اليمن إلى حضارة البنط مجرد افتراض، لهذا فإن الأمر مازال يتطلب الحصول على أدلة حاسمة، ما يعني الحاجة إلى المزيد من العمل في التنقيب.


مصادر:

  1. Kenneth Kitchen (2016) Punt: An Ancient Civilization Rediscovered. pariah in Land of  Punt: https://landofpunt.wordpress.com/author/parahu/
  2. Lamya Khalidi (2006) Settlement، Culture-Contact and Interaction along the Red Sea Coastal Plain، Yemen: The Tihamah cultural landscape in the late prehistoric period (3000-900 BC). University of Cambridge. p 322-328
  3. Catherine Lucy Glenister (2008) Profiling Punt: Using Trade Relations to Locate ‘God’s Land’. Department of Ancient Studies. University of Stellenbosch. p 43-44
  4. Lamya Khalidi (2008) : The late prehistoric standing stones of the Tihâma (Yemen): the domestication of space and the construction of human-landscape identity. Revue du monde musulman et de la Méditerranée. p 20-21-28-322
  5. Lamya Khalidi (2018) : Late Prehistoric Oasitic Niches along the Southern Red Sea (Yemen and Horn of Africa). p 78
  6. Lamya Khalidi (2006) Settlement، Culture-Contact and Interaction along the Red Sea Coastal Plain، Yemen: The Tihamah cultural landscape in the late prehistoric period (3000-900 BC). University of Cambridge. p 28-42-39-41-236-333
  7. Catherine Lucy Glenister (2008) Profiling Punt: Using Trade Relations to Locate ‘God’s Land’. Department of Ancient Studies. University of Stellenbosch. p 126-129
  8. Lamya Khalidi (2006) Settlement، Culture-Contact and Interaction along the Red Sea Coastal Plain، Yemen: The Tihamah cultural landscape in the late prehistoric period (3000-900 BC). University of Cambridge. p 80-95-106-167
  9. مديحه رشاد (٢٠٠٩ ) فن الرسوم الصخرية واستيطان اليمن في عصور ما قبل التاريخ. الباب السابع – التسلسل الزمني وأنماط فن الرسوم الصخرية.
  10. Dimitri Meeks (2003): Locating Punt  in Encounters  with  Ancient: p 1-17-18
  11. Melissa Shales. The Royal Giraffe. Safari Bookings ( Compare african safari toours ): https://www.safaribookings.com/blog/the-royal-giraffe
  12. com ( 2013 ) Famous Explorers: Zheng He: PDF
  13. Periplus Maris Erythraei: p 51-63
  14. Dimitri Meeks (2003) Locating Punt  in Encounters  with  Ancient: p 6-7-8-11
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى