ثقافة
أخر الأخبار

العرس العدني مهرجان من الطقوس والأفراح

This post is also available in: English (الإنجليزية)

تقاليد بسيطة مليئة بالبهجة والفرح تميز العُرس العدني؛ زغاريد ورقص، ورسوم الحناء على أجساد النساء، وروائح البخور والعود والفل والمشموم، وحركة دؤوبة تجعل البهجة صناعة عدنية بامتياز.

العرس في عدن ليس مجرد احتفال بارتباط أسري أو تتويج لقصة حب بنهاية سعيدة ولكنه حفل فيه عبق التراث العدني الأصيل المتوارث جيلا بعد جيل. العرس العدني أقرب لبطاقة هوية لمدينة عدن. فكما تؤكد الناشطة ندا عوبلي “يأتي الزواج في مقدمة العادات والتقاليد الاجتماعية التي يحرص الأهالي في عدن على التقيد بها وممارستها بأصولها في فترة قد تمتد لأسبوع كامل”.

ترجع الكثير من طقوس العرس العدني إلى أزمنة قديمة. وبقيت هذه الطقوس كتعبير رمزي عن معتقدات وعلاقات اجتماعية. وما زال أهل عدن يحاولون قدر الإمكان الحفاظ على هذه الطقوس رغم أن الكثير منها تغير اليوم إلى حد ما لعوامل عدة منها تردي الوضع الاقتصادي للكثير من الأسر في عدن والذي يمكن أن نرى أثره، على سبيل المثال، في اختصار أيام العرس من أسبوع كامل إلى ليلة واحدة في الكثير من الأحيان وهي ليلة الزفاف فقط. وبعيداً عن الوضع الاقتصادي، يمكننا أيضاً أن نلحظ بعض التغييرات التي لحقت ببعض تفاصيل العرس العدني تأثراً بثقافات أخرى. ويظهر ذلك بشكلٍ خاص في استبدال الدرع الأخضر المطرز الذي كانت ترتديه العروس في ليالي الاحتفال التي تسبق الزفاف بالساري الهندي أو بفستان مطرز لم يعد بالضرورة أخضر طالما استُثني الأبيض الذي يبقى حصرا لون فستان ليلة الزفاف.

كي أصحب القارئة والقارئ في رحلة طقوس العرس النسائي العدني، لابد أن نبدأ من محطة زيارة الخطبة حيث تذهب قريبات العريس من النساء محملات بهدايا رمزية من حلويات وما شابه إلى بيت العروس. تستقبلهم حينها أم العروس وقريباتها من النساء مع حرص أم العروس على تجهيز المنزل جيداَ وملء أرجائه بعبق البخور العدني الشهير. وترتدي العروس ملابس جميلة مع الحفاظ على البساطة وعدم التكلف كي تظهر على طبيعتها مدخرة باقي فنون الزينة للزفاف. بعد الاتفاق على التفاصيل، تختتم هذه المحطة بالزغاريد ويتم توزيع الحلوى ابتهاجاَ بهذا اليوم وإيذاناَ بنشر خبر الخطبة بين الجيران والأهل والأصدقاء.

هنا تتحول بيوت الجيران إلى ما يشبه غرف عمليات مصغرة للتخطيط والاستعداد للعرس. الجيران يعرضون خدماتهم ويقسمون المهام بينهم حتى نرى أسرة بأكملها تتولى مهام التنظيف والترتيب، وأخرى تتكفل بمهمة تركيب مكبرات الصوت، بينما توكل مهمة “مشاوير” العروس وأهلها للجيران الذين يمتلكون سيارة وهكذا يتحول الحي بأكمله إلى بيت عرس كبير.

العمل الفني بواسطة جمانة الشامي

“الزقرة” أولى ليالي العُرس

بعد تحديد موعد العُرس من قبل أسرتي العريس والعروس تبدأ أول أيام احتفالات العُرس بليلة الزقرة والتي تبدأ طقوسها بمباغتة إحدى النساء للعروس حيث تلف الأولى الثانية بقطعة قماش. الطقس يشترط أن تكون المرأة التي تباغت العروس متزوجة لفترة ليست بالقصيرة ولم يتخللها خلافات ومشاكل. فالطقس يجعل من هذه المرأة المباغتة وزيجتها فال خير على العروس الجديدة وكأنها تأخذ عن طريق التماس بلفة القماش تلك بركة تؤذن بحياة زوجية سعيدة ومستقرة.

بعدها، يبدأ الأهل والجيران في بيت العروس برفع إيقاعات الطبل والغناء والرقص حتى ساعات الفجر الأولى. وتفتح أبواب المنازل في الحي لتصبح كل بيوت الحي “بيت العرس”، كما يُطلق عليه في عدن. في ليلة الزقرة قليلة التكلفة كثيرة البهجة يجمع الفرح النساء والرجال والأطفال حول أغانٍ تصدح بها مكبرات الصوت، ترافقها رقصات النساء على أسطح المنازل مقطرفات “يزغردن بالدارجة العدنية”، وفي الوقت نفسه يرقص الرجال في باحة الحي، ويظل الأطفال في حركة دائبة يطوفون بين حلبتي الرقص فوق الأسطح تارة وأمام عتبات المنازل تارة أخرى. بين زغرودة وأخرى، يسمع صوت الأهازيج التي تطلقها النساء من القريبات والجارات ومن كل الأعمار مغنيات للعروس:

حلا حلا تستاهل كله حلا تستاهل

ياناس صلو عليه ذكر النبي فائدة

عروستنا قمر نور وسبحان الذي صور

بدأناها بسم الله وختمناها بذكر الله

تطل العروس وسط أهازيج الزفة مرتدية الدرع. ينسدل الثوب على أعلى جسدها حتى أخمص قدميها. وهو عبارة عن قطعة قماش خضراء من الحرير المطرز. وتسير ببطء وسط جموع النساء اللاتي يزغردن ويرقصن ويغنين لها ومن حولها. ما ترتديه النساء المدعوات أشبه بكرنفال بديع من الأقمشة والألوان، تنساب على الأجساد المتراقصة بحماس وخفة دروع الويل[1]حريرية الملمس بطبعاتها الهندسية والمشجرة وألوانها الفاقعة. أما الأعناق وتسريحات الشعر فهي مرصعة بالعقود المختلفة وبحبات الفل اللحجي الذي يرافق النساء طيلة أيام العرس؛ فلا عرس عدنيا دون مزيج رائحتي الفل والبخور. في حفل الزقرة جرت العادة قديما بتقديم وجبة عشاء للضيوف أما الآن فيكتفى بتقديم العصير أو الشاي والكعك.

 

ليلة الحناء، ثاني محطات العرس: “وا على أمحناء[2]

 الكثير من طقوس الأعراس في عدن أصبحت في طريقها للاندثار. فمثلاً إقامة الأعراس في باحات المنازل أو ما يعرف “بالمخادر” وهي التسمية التي يطلقها العدنيون على الخيمة الكبيرة المنصوبة في وسط “الحافة” الحارة لإقامة مراسيم العرس الخاص بالرجال، ومعها بعض الطقوس الشعبية المتوارثة باتت في تناقص مقارنة بالماضي. غير أن يوم الحناء، ثاني أيام العرس، لا يزال صامدا حتى اليوم ضمن طقوس الزواج المقامة في بيت العريس التي لم تندثر بعد.

في يوم الحناء، تُخلط كمية كبيرة من مادة الحناء بالماء ويلتف شباب الحي والأصدقاء حول العريس لدهن جسده بالحناء. ويبدأ اللهو بعدها ويتراشق الحاضرون بالحناء وهم يتغنون بعبارة “حنوا له”؛ أي اصبغوا جسده بالحناء. ومع الأغنية والحركة تقرع الطبول ويتبارى الرجال في الرقص وسط الحارة أو الخيمة “المخدرة”. إن كنت ماراً بحارة ما، أو بحافة كما تسمى في عدن، فستعرف أن هناك ليلة حناء لعريس من هذه الحارة حين تسمع أصوات المحتفلين تتغنى:

وا على أمحناء وا على أمحناء

سعد يا مسعود فاح عرف العود … اسقنا السهباء دمعة العنقود

وا على أمحناء وا على أمحناء

تجلي الكربة وتشفي المارود … جلها يالله ياكريم الجود

وا على أمحناء وا على أمحناء

حن بالحناء ياحياة الروح … ساعة الحناء تشفي المجروح[3]

في الحافة أو في المخدرة يؤدي الرجال رقصة “الليوه” وهي رقصة شعبية ذات أصول أفريقية في عدن وبعض المناطق الجنوبية يتجمع خلالها الرجال للرقص في حلقة دائرية على أنغام الطبل والمزمار. أما في بيت العريس، فتتجمع النسوة من الأهل والجيران والأصدقاء من دون دعوة مسبقة، فما إن يتم تناقل خبر الحناء حتى يتوافد الجميع صوب حفل النساء في منزل العريس أو حفل الرجال في الحارة.

في بيت العريس ترقص النساء وتغني:

هوديني ياهداني يادون هوديني ياهدواني يادون

أم العروس طاب طيبك يادون وبلغك بحبيبك يادون

 ياعاقلة يا امدامه يادون يا حمامة يافاتنة يادون[4]

وهنا تحضر “المنقشة” أو “المخضبة” وهي امرأة تتقن فن النقش بالحناء أو بالخضاب وهو صبغة سوداء بديلة للحناء الحمراء. وتتولى نقش يدي ورجلي العروس وقريباته. والنقش طقس هام لكل عروس ولقريباتها إلا أن هذا الطقس قد بدأ هو الآخر في التراجع خاصة من قبل العروس حيث تمتنع الكثيرات حالياً عنه كونهن يرين في النقش موضة قديمة. وإن كان لابد من الحناء، فإنه يتم تأجيله إلى اليوم السابع بعد الزفاف أو أقرب مناسبة بعد العرس.

 

العمل الفني بواسطة جمانة الشامي

يوم الغسل: ثالث محطات العرس العدني

ألا يا طير يا الأخضر فين بلقاك الليلة

أنا ماباك توعدني وتنسى وعدي الليلة

ألا يامسك ياعنبر عيوني دوم سهرانة

إذا قد جيت لعندي ودع القلب أحزانه [5]

على هذه الأنغام تجتمع النساء للرقص فيما تتولى مجموعة منهن مهمة تحضير وليمة اليوم التالي التي تتطلب تقشير كميات كبيرة من البطاطس والبصل لإعداد وجبة “الزربيان” وهي وجبة الغداء الأشهر في عدن خاصة في الأعياد والمناسبات وتعد من اللحم والأرز والبطاطس قبل تقديمها بيوم كامل لإتاحة الفرصة لتتبيل المكونات بأصناف البهار المتنوعة.

 تتولى قريبات العروس وصديقاتها تبخير ثيابها الجديدة ورصها في حقائب خاصة مع بقية مستلزماتها التي تحرص الأسر العدنية على تجهيز بناتها بها: ملابس وأحذية ومواد تجميل وكميات كبيرة من البخور والعطور تصنع خصيصا للعروس بالإضافة إلى العنصرين اللذين لا يمكن استثناءهما من جهاز أي عروس وهما المشجب[6]والشيدر[7]. كل هذا يتم في إطار تحضير موكب جهاز العروس الذي جرت العادة في عدن على نقله إلى بيت الزوجية الجديد قبل يومين من الزفاف.

في يوم الغسل، تغتسل العروس وترتدي درعاً أخضر مطرزاً. كما تتزين بالذهب وخاصة الحزام الذهبي الذي يلف خصرها. أما ورد الفل، فيكلل به رأسها ويوضع خلال شعرها مع نبات المشموم العطري. وهكذا يجتمع المدعوون حول صحن الزربيان[8]وحلوى الجزر المعروفة ب”الهلوى”, فلا زربيان دون الهلوى!

نجيم الصباح … إيش جلسك بعد ما غبنا

نجيم الصباح … سامر على الورد والحناء

نجيم الصباح … سامر على الفن والمغنى

نجيم الصباح … غني لنا غني بصوت الدان

نجيم الصباح … الهاشمي يذهب الاحزان

نجيم الصباح … والعرف نسنس من البستان [9]

في إطار طقوس يوم الغسل تقول التربوية فاطمة شفيق عن طقوس يوم الغسل التي يخشى عليها من الاندثار: “تقوم بعض المدعوات من الأقارب بتمزيق غطاء رأس “مقرمة” أم العريس في حفل الغسل وهو تقليد لا يعرف سببه ولكن يفسره البعض على أنه إعلان لبداية حياة جديدة لابنها العريس والتخلص من حياة العزوبية وانضمام فرد جديد للأسرة ستكون بمثابة يدها اليمنى”.

ليلة الزفاف والخميس سيد الأعراس

عادة ما يتم اختيار الخميس لليلة الزفاف باعتبارها ليلة مباركة يستبشر بها خيراً فعنها ينبلج نهار الجمعة؛ يوم الشعائر الدينية والدعاء المستجاب. يزف العروسان إلى عش الزوجية وسط زفة صاخبة يجوب بعدها موكب العُرس الشوارع الرئيسية التي تشقها أبواق سيارات الموكب وزغاريد النساء وسط ليل عدن الحالم:

يالله اليوم زفوها وبالريحان رشوها

بدأناها بذكر الله وحرسناها بماشاء الله

وبسم الله بسم الله

عروستنا قمر نور

وسبحان من صور

حلا حلا يستاهل

كله حلا يستاهل

ويا ناس صلوا عليه

ذكر النبي فائدة

قمري شل بنتنا

 قمري شلها وراح

قمري عاشق الملاح

العمل الفني بواسطة جمانة الشامي

العرس العدني رحلة كرنفالية، محطاتها ملونة، مبخرة، معطرة، ومزينة بالفل والحلي، وصادحة بأهازيج أبت أن تندثر أو تستبدل مع ما استبدل أو مع ما أجبرت الأوضاع الاقتصادية أهل عدن على اختصاره.

——-

[1]الدرع ثوب نسوي ضافي يغطي الجزء العلوي والسفلي من الجسد وغالبا ما يكون مزركشاً ومتعدد الألوان. ترتدي النساء الدرع غالبا في المناطق الجنوبية والوسطى من اليمن. “الويل” هو اسم أفخر أقمشة الدروع المصنوعة من الحرير.

[2]“وا” هي أداة نداء بالدارجة في عديد من المناطق اليمنية وتعني “يا” وتأتي هنا مع حرف الجر “على” بمعنى هلموا على الحناء. ال “أم” في “أمحناء” هي”م التعريف” في اللغة الحميرية القديمة والتي تؤدي وظيفة “ال” التعريف في اللغة العربية الفصحى. المعنى الكلي لهذا المقطع من الأهزوجة هو “هلموا صوب الحناء”

[3]  هذه القصيدة المفتتحة بهذا المطلع الشعري الشعبي من نظم الشاعر الأمير أحمد بن فضل العبدلي المعروف بالقمندان توفي سنة1943.

[4]  الهداني نوع شعري غنائي شعبي ذو أصول حضرمية يقال في العرس بصوت فيه مسحة حزن لوداع العروس. في هذا النوع من الغناء تعدد صفات العروس وصفات أهلها. وإلى ذلك، في الهداني مضامين طقوسية تتعلق بإعاذة العروس من كل حاسد وحاقد.

[5]  قصيدة شعبية حضرمية مغناة قديمة يقال إنها صوفية المنزع.

[6]  المشجب أو المبخرة أداة خشبية شبه هرمية يوضع موقد البخور في أسفلها ثم تراكم الملابس المراد تبخيرها عليه في الأعلى لتكتسب رائحة البخور.

[7]“الشيدر” هو قطعة قماش سوداء تلتحف بها النساء عند خروجهن من المنزل.وأصل الكلمة فارسي چادر‎.

[8] الزربيان وجبة رز عدنية، وهي عبارة عن طبق رز مع اللحم المطبوخ بالبهارات واللبن الرائب.

[9] القصيدة من كلمات الشاعر الأمير أحمد بن فضل العبدلي المعروف بالقمندان توفي سنة1943.

ابتهال الصالحي، صحفية من عدن تهتم بقضايا المجتمع المختلفة، لها العديد من التحقيقات الصحفية تم نشرها في عدة مطبوعات يمنية وعربية.  

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى