ثقافة

ضد العنونة والتحديد: منظور في الفن

This post is also available in: English (الإنجليزية)

 

في الغالب يشير مفهوم الهوية إلى البلد أو اللغة أو العرقية، لكن هل يمكن لنا أن نعتبر شخصاً ما يتحلى بالمصداقية و الأصالة إنْ هو أبدى ميلاً تجاه جزء واحد من هويته و ألقى بقيتها في الظل؟ تتشكل الهوية مع مرور الوقت عنصرا تلو آخر؛ فهي ليست جامدة، بل حيوية وقابلة للتكييف والتعديل. هويتك هي مجموعة من السمات التي تشعرك بالإرتباط ببعض الجوانب من مجموعة واحدة و بجوانب أخرى من مجموعة أخرى مختلفة. إن المعايرة والتعديل الزمني هما العاملان اللذان يجعلانك شخصًا ذا هوية محددة بصورة فريدة وهما من يجعلانِك قريبا من غيرك في الآن نفسه.

ساهم خمسة فنانون يمنيون بأعمالهم هذا العام في معرضين يتناولان موضوع الهوية، والشتات، وتمكين المرأة العربية، و موضوع الأفراد عديمي الجنسية، إلى جانب قضية حظر المسلمين في أمريكا- أو كما يصف ذلك القائمون عل قرار حظر المسلمين الأول” – Muslim Ban 1.0 المعرض:

 في يناير ٢٠١٨؛ أيْ بعد عام واحد من إصدار القرار التنفيذي الأول للرئيس، دونالد ترامب، بحظر سفر المسلمين لأمريكا، أقيم معرض جماعي تحت عنوان “قبل منعنا”، بتنسيق الثنائي الإيراني كيانا بيروز وماهيا سلطاني المقيمتين في بروكلين. تم استضافة المعرض في ارت هيليكس (ArtHelix) بالشراكة مع شيم (SHIM). قُدمت أعمال فنية متنوعة لعدة فنانين ردا على قرار الحظر. يهدف المعرض إلى تقويض الحظر من خلال الجمع بين أعمال الفنانين المبدعين القادمين من الدول السبع المتسهدفة  بالقرار، موفرا منبرا لهؤلاء الفنانين لمشاركة قصصهم ورسم واقعهم.

   @beforewewerebanned  آسيا الشرعبي، صورة توضيحية للعمل المعروض، الصورة بإذن من    @beforewewerebanned  آسيا الشرعبي، صورة توضيحية للعمل المعروض، الصورة بإذن من

تضمن المعرض أعمالا متنوّعة لعدة فنانين يستخدمون الوسائط المتعددة، وفن الفيديو، والتصوير الفوتوغرافي، والطباعة، والكولاج والرسم. و كان من ضمن المشاركين ثلاثة فنانون أميركيون من أصول يمنية، تتناول أعمالهم هوية المهاجرين إلى الولايات المتحدة قبل وبعد إعلان الحظر، ومعنى رفضهم ووضعهم كأشخاص عديمي الجنسية. و تتطرق أعمالهم إلى معنى الوطن و إلى المشاعر التي تطرأ للشخص المعني بالحظر وكيفية تغير معنى الانتماء لديه لاسيما عندما يشعر بأن ما يدعوه وطنه بات يرفضه لأسباب غير منطقية ومتهافة وجدلية. وقد تناولت الأعمال الفنية التناقض بين انتماء المرء لمجموعة عرقية أو ثقافية تحوم الشكوك حولها وبلد يرفض وجوده.

في حديث عن تأثير المعرض، تقول الفنانة اليمنية الأمريكية، ليالي، “لقد أظهر هذا المعرض المضمون الإنساني في مجتمعات تلك  البلدان المحظورة وألقى الضوء على العوالم التي تضمها وعلى الناس فيها الذين يحاولون العيش والحب رغما عن هذا الحظر ومضامينه. بالنسبة لي، تحمل هذه الجدالات والاحتجاجات ضد الخطاب المتقصد الحاق الضرر بمصيرنا دورا أساسيا في عملية محاولتنا للتأقلم التي تبدو لا منتهية. غير أنَّ رؤية التحدي والاصرار اللذين يتضمنهما الفن النابع من العقول الثائرة والقادمة من تلك المجتمعات تبعث في النفس ارتباطات عاطفية خاصة ومختلفة”.

 تجربة ليالي مختلفة عن غيرها؛ فقد تحملت صراع الشد والجذب بين بلدين، اليمن والولايات المتحدة الأمريكية – وهو صراع دائماً ما كانت تمر به، إلا انه تفاقم بعد قرار الحظر ومنذ بداية الحرب في اليمن. تقول ليالي: “إن شعوري بالاضطراب تجاه هويتي مستمرمنذ فترة طويلة. إنه صراع يؤثر عليّ الآن، بصورة خاصة. وقد أثر عليّ دائماً بشكل ملحوظ في مراحل مختلفة من حياتي”. تعكس أعمال ليلى الفنية نضالها في البحث عن هوية والتوافق معها بشكل مرضي. تقول: “مع الحرب، تغيرت ديناميكية الألم. لم يعد الألم يتعلق بالاستثناء، بل أصبح موتًا حقيقيًا على يد أجدادي. كنت على دراية بتأثير الاستعمار والإستشراق، مما ساهم في استمرار حالة الرفض الذاتي لعرقي الأبيض. كما أنني عندما أنظر إلى الواقع من منظور بلد والدي، وتاريخه الذي تم تدميره من قبل أبناء الوطن الذي تنتمي إليه أمي، التي تنتمي أيضا إلى أسرة عسكرية تؤمن بهذه الفكرة المشوهة عن الحرية الأمريكية، تصبح القضية شخصية وشديدة الحساسية”.

   @beforewewerebanned  ليالي السداة، صورة توضيحية للعمل المعروض، الصورة بإذن من    @beforewewerebanned  ليالي السداة، صورة توضيحية للعمل المعروض، الصورة بإذن من

تحدثنا الفنانة ليالي في كلمات يمكن أن تلخص الصراع الذي يمزق الشرق الأوسط، “في خضم المخاوف الدولية من الهجرة واللاجئين، يتم تجاهل الخوف الأكثر تعقيدًا. إن مفهوم الهوية معقد وتكوينها لا يقتصر على المشاعر الداخلية والمعتقدات والتقاليد العرقية والثقافية. اليوم نجدها تتعرض للعديد من التأثيرات والعوامل الخارجية. وفي مواجهة هذه الهويات المتداخلة، يتوقع منك أن تتخلى عن نصف موروثك الثقافي وتقف إلى جانب النصف الآخر. ماذا لو أن الهوية المتشكلة فيك هي مزيج من كلا الهويتين، فكيف يمكن لأي شخص أن يتقبل فكرة احتضان جانب واحد من ذاته وإخفاء وقمع الجانب الآخر؟ إن القمع النظامي الذي تعاني منه الأقليات وتعيش في ظله، لا يخنق العناصر المادية والمالية لسبل العيش فقط، بل هو حصار للنمو العاطفي والعقلي. إذا لم تكن فضاءتنا العامة آمنة؛ فلن يساعدنا أحد على أكثر من مجرد البقاء على قيد الحياة. ومع ذلك ينتابني الشعور أحيانا أن البقاء على قيد الحياة فقط يكفي في بعض الأوقات”.

 جواز السفر، ثناء فاروق، ٢٠١٧، الصورة بإذن من ثناء فاروق
جواز السفر، ثناء فاروق، ٢٠١٧، الصورة بإذن من ثناء فاروق

ألقى معرض “الحركة الدائمة”، الذي أقيم في مارس ٢٠١٨ ضمن مهرجان الفنون في لندن، الضوء على أعمال سبع فنانات عربيات. هدف المعرض إلى تعزيز فهم واقع واهتمامات المرأة العربية، فقد تناولت الفنانات المشاركات العلاقة بين الهجرة والذاكرة والشتات بالإشارة الخاصة إلى العالم العربي. بما في ذلك الذكريات التي تنشأ من خلال المكان، والذكريات العابرة من جيل إلى آخر، والذكريات المتلاشية، و الذكريات الممجدة، وفجوات الذاكرة التي تفتح الباب أمام العديد من الأسئلة غير المجاب عليها.

ضمن المعرض قدمت الفنانة اليمنية ثناء فاروق مشروعها “جواز السفر” الذي يلقي الضوء على تجارب الأشخاص الذين تعرقلهم جوازات سفرهم عن الحركة. تقول ثناء: “إن المهرجان يقدم فنانات من العالم العربي، وهو ينطوي على فنون متعددة الاختصاصات. و بهذه الصفة المتعددة كان من الضروري أن تستضيفه مدينة متعددة الثقافات مثل لندن. من المهم أن تشارك المرأة العربية صوتها مع غيرها وأن تعرض أعمالها على جمهور عالمي ومتنوع. أعتقد أن هذه فرصة مهمة بالنسبة لي ولجميع المشاركات؛ لإنها تسمح لنا بالاتصال والتفاهم والإطلاع على العلاقة الفنية بين العالم العربي والغرب”.

عندما يصبح وطنك هو الأمر الوحيد الذي يحدد صلاحيتك كإنسان، فإنه يتم اختزالك في الانتماء؛ لأنه يتم السماح لك بالمرور ليس لأنك إنسان ولكن لأنك مواطن في بلد معين. في حديثها عن المشاعر التي مرت بها أثناء توثيق معاناة الأشخاص الذين يواجهون صعوبات بسبب جوازات سفرهم، تقول ثناء، “بصفتي يمنية، طالما تساءلت كيف يمكن لورقة صغيرة مثل جواز السفر أن تحدد هوية الشخص؟ كيف تشكل هويتنا وثيقة قانونية؟ كيف تتحكم بنا؟ لماذا يجب أن أقف جانبا في بعض المطارات ويطلب مني عبور نقطة أمنية إضافية لمجرد أن جواز سفري يمني؟ هنا، لا يصبح جواز السفر رمزا للهوية والكرامة، بل مصدرا للقلق وعبئا باعثا على اليأس”.

 بريخة، يمنى العرشي، ٢٠١٧، الصورة بإذن من يمني العرشي
بريخة، يمنى العرشي، ٢٠١٧، الصورة بإذن من يمني العرشي

تناول معرض “الحركة الدائمة” العديد من أسباب الهجرة وآثارها، ووجه الانتباه نحو الذكريات المجزَّأة التي تنشأ وتتوارث نتيجة لهذه التحركات. ويتلخص مضمون العرض في أن الحركة البشرية دائمة الحدوث، ويمكن أن تكون إيجابية وسلبية في آن واحد، وتوجد العديد من الأسباب وراء استمرارها. ركز المعرض على موضوعات تتعلق ببعض الأبعاد الخاصة  بالهوية المزدوجة والنضال الذي يعيشه الذين يقررون مغادرة البلدان التي مزقتها الحروب و ما يعقب ذلك من مواجهة مصائر مختلفة منها الرفض عند اللجوء والشتات. كما أبرز المعرض في بعض جوانبه الإنجازات لدى المهاجرين والحنين إلى الماضي.

وقد لاقى المعرض قبولا كبيرا في أوساط الجمهور البريطاني؛ إذ قدم صورة مختلفة عما تتناوله وسائل الإعلام حول المرأة العربية. تقول منسقة المعرض، ليزي فارتانيانثي، “آمل أن يؤدي هذا العمل، الذي لا يعتبر سياسيا بحد ذاته، إلى تحدي الصورة النمطية عن المرأة العربية في الغرب”.

في عالم مليء بالحروب والنزاعات، حيث تقاس قيمة البشر بمؤشرات تستثني الإنسانية وتشمل مقاييس يصعب فهمها، يذكرنا الفن أنه ليس بالضرورة أن نكون مدججين بالسلاح لكي نخلق أو نحل هذه الصراعات. إن الفن وسيلة لمواجهة الطغيان والتعبير عن الرأي من خلال الاتصال والعاطفة. فهو يتضمن رابطا غير مرئي يحرك إنسانيتنا ويشجعنا على إيجاد الحلول. لا يوجد أقوى من الفن ليذكرنا بأننا جميعا بشر بغض النظر عن العرق أو اللون أو الإنتماء، فنحن جميعا ننتمي إلى تراث إنساني واحد وجنس بشري واحد. يلح الفن على ضرورة الوقوف معا وبناء جسور التواصل ومد الأيدي لمساعدة بعضنا البعض من أجل الخروج من المعضلات وتجاوز الطرق المسدودة. و في أعمال هؤلاء الفنانات ثمة حسُّ مقاومةٍ ومشاعرُ تحدٍ. و قد تعبر كلمات ليالي عن كل هذه المعاني بشكل أفضل. تقول: “كان التأكيد في هذه الأعمال على أن السعادة ممكنة على الرغم من كون الشخص غاضباً و أن له كل الحق في الغضب- كان بمثابة تذكير بأننا نرثي فناءنا بينما نحن في الآن نفسه نعلن تحدينا. إن العثور على السعادة من خلال  بعضنا ومن أجل بعضنا البعض هي بادرة ثورية شأنها شأن السلاح”.

يستعين الفنانون في جميع أنحاء العالم بفنهم للتعبير عن آرائهم ومشاعرهم. وتعتبر أعمالهم –في بعض تجلياتها- أدوات بصرية تساعد الجمهور على فهم أجزاء مختلفة من العالم وأناس لهم خلفيات مختلفة بشكل أفضل.

والجدير ذكره أنه يجري في الوقت الحالي تنظيم معرض سيقام في مدينة برلين في سبتمبر ٢٠١٨. وسوف يتضمن المعرض أعمال نحو عشرة فنانين يمنيين مقيمين في أماكن مختلفة من العالم. وتقوم مبادرة ”ديوان الفن“ بتنظيم المعرض، وهي مبادرة يقودها فنانون يمنيون. و تهدف المبادرة إلى تشجيع الفن المعاصر والموسيقى والأفلام في اليمن. و المبادرة قائمة على دعم مقدم من مؤسسة فريدريش إيبرت، وهي مؤسسة سياسية ألمانية تعمل في اليمن منذ عام ١٩٩٧. و يأتي دعمها لهذا المشروع ضمن دعمها المستمر لمشاريع ديوان الفن الثقافية والفنية.

وفي الختام توضح منسقة المعرض، ليلا ناظميان بأن ” أهمية هذا المعرض تكمن في كونه يهدف إلى تسليط الضوء على الوضع الحالي في اليمن بشكل عام”، ونأمل أن يكون هذا المعرض بادرة أولية لتسليط الضوء بشكل أوسع على الفن اليمني بشكل خاص و كنقطة انطلاق لدعم المبادرات التي يقودها اليمنيون بشكل عام. وتؤكد ناظميان على ”أهمية استفادة الفنانين اليمنيين من هذه اللحظة التي تتسلط فيها الأضواء على المنطقة”.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى