ثقافة

عندما يكون الفن شغفا والشغف فنا

This post is also available in: English (الإنجليزية)

 الصورة بإذن من سمية عبدالله

الصورة بإذن من سمية عبدالله

الفنّ، بكل فروعه و أمزجته، هو المساحة المشتركة الجامعة بين العاطفة و الخيال، والمعقول و اللامعقول، والممكن والمستحيل، والموجود والمنشود، والحلم والواقع. وتلك ما يسمى بالحقيقة الفنية، خليط مما لا يتصور اجتماعه في هوية واحدة. الفن أيضا وسيلة من وسائل التوصيل الإنساني؛ أي أداة فهم وتفهم. وفي الفن قدرة على تحقيق الحرية؛ الحرية بمعنى التحرر من قيود الزمان والمكان والإنسان. إنه أيضا جسر من جسور الحب- وكم ينشد الإنسان أن يُحِب ويُحَب؟- فالفن لغة تعبير، ولطالما استخدمت من أجل إيصال العاطفة النبيلة من طرف إنساني إلى طرف آخر. إنه شغف مربوط بشغاف القلب بحرز الموهبة. وماكان شغفا لا يمكن للإنسان أن يتخلص منه حتى و إن حاول الهروب إلى ملاذات أخرى في الحياة.

قصّة فتاة تعشق الرسم

تعرّفت شذى التوي على عالم الرسم للمرّة الأولى في مرحلة الطفولة المُبكرة. كانت طفلة مفتونة بمجموعة الألوان والأوراق البيضاء المتناثرة أمامها. تقول شذى: “اكتشف والداي موهبتي بالصدفة، فقد لاحظا أوّلًا أنّني أمسك الأقلام بشكل صحيح، ثمّ بدأت أرسم معهما”. عندما يبدأ الأطفال في التعبير عن أنفسهم، فهم يلجأون أحيانًا إلى أشكال التعبير غير اللفظية. ويشكّل الرسم والتلوين الركيزتين الأساسيتين لهذا النوع من التواصل.

وحين يتلقّى الأطفال التشجيع تتطوّر مهاراتهم وتنمو بشكل فائق. تضيف شذى: “على الرغم من أنني لم أتعلّم الرسم، فقد استمرّت عائلتي في تشجيع موهبتي فكانت تشتري لوحاتي وتعطيني النقود لشراء مواد التلوين الجديدة. لقد شعرت وكأنني فنانة حقيقيّة، فكنت أبيع بعض لوحاتي وأهدي بعضها الآخر”. غير أن انتقال شذى إلى مرحلة أخرى من حياتها قد كان مصحوبا بابتعاد عن فن الرسم  وذلك لأسباب موضوعية تشرحها شذى: “اعتدت أن أكون محطّ الأنظار في كلّ الفعاليّات الفنية التي تنظّمها المدرسة، بالإضافة إلى أنشطة متعددة والعديد من المقابلات في برامج الأطفال التلفزيونية. كانت لوحاتي معروضة في أروقة مدرستي. كنت ملقبّة بالرسامة البنفسجيّة. لسوء الحظ، انتهى كلّ ذلك حين انتقلت إلى مرحلة المراهقة وذلك لعدم توفّر معهد للرسم لدعم فنّي المتنامي.” تحوّل تركيز شذى إلى دراستها، وانتقلت إلى المدرسة الثانوية ثمّ إلى الكلية، وأصبحت حياتها هادئة جدًا، لا سيّما بعد زواجها بعد إنهاء دراستها في مجال تكنولوجيا المعلومات. زواجها كان أيضًا بداية مغامرة من نوع آخر.

قصّة فتى يعشق الموسيقى

فتى في الخامسة من عمره… بيانو… نوتات موسيقيّة. أنامل صغيرة تُدغدغ مفاتيح البيانو فتجعل الشاب الصغير يشعر بالذهول التام. وبينما كان يعزف على بيانو أخيه الأكبر سنًا، ساهم إخوته الستة، المتعمقون في عالم الموسيقى، في تشكيل أذن صابر بامطرف  الموسيقية. يقول صابر: “لم أتصوّر نفسي أبدًا عازف بيانو، لطالما تخيّلت نفسي رسامًا موهوبًا. فقد شكّل التنقّل بين الريف والمدينة، ومشاعري الموزّعة بين اهتماماتي ومواهبي الكثيرة، السبب الرئيسي في عدم تمكني من التركيز على الموسيقى.” بعد أن لاحظ قدرته على اتباع أي نوتة موسيقية، طوّر أذنًا موسيقيّة تسمح له بالتعرّف على النوتات، والألحان، والنغمات، وسرعة الإيقاع. “كان إخوتي يتنافسون لعزف مقطوعة موسيقية مشهورة جدًا من تأليف عمار الشريعي. ويسعني القول إنّ الاستماع إلى عزفهم شكّل بداية تطوير أذني الموسيقية، فيما كنت أتمّرن بشكل متواصل.”

 الصورة بإذن من سمية عبدالله

الصورة بإذن من سمية عبدالله

يمكن للتنقّل المستمرّ أن يشكّل تجربة غنيّة ومثيرة للاهتمام بالنسبة إلى الطفل. يقول صابر: “عندما انتقلنا إلى مسقط رأسي، غيل باوزير، في حضرموت، لإنهاء دراستي الثانوية، كان لدى أختي بيانو أكبر حجمًا. أمضيت سنوات عديدة وأنا أحاول الاعتماد كليًا على نفسي، وتعلّم العزف بمفردي. وأضاف صابر: “مع هجرة إخوتي الأكبر سنًا إلى خارج البلاد والافتقار التام إلى الموارد عبر الإنترنت، كنت أعتمد بشكل كليّ على أذني الموسيقيّة، وهي هبة أدركت – لاحقا- أنّ عددًا قليلًا جدًا يملكها أو يستفيد منها إن كانت كامنة لديه.” إن حياة الأطفال الموهوبين ليست سهلة على الإطلاق: فهم يتلقون فيضًا من المعلومات التي تغمر أدمغتهم، مما يزيد حياتهم تعقيدًا. وهذه طبقة أخرى تساهم في تشكيل مواهبهم. يسترسل صابر: “عندما انتقلت إلى صنعاء لأكمل دراستي، اعتبرت المدينة الكبيرة والمدرسة تحديًا جديدًا. فقد كنت أحاول منافسة الطلاب الذين تلقوا تعليمًا رفيع المستوى، لكنّني كنت قلقًا بشأن مواجهة مواضيع جديدة بالإضافة إلى البيئة. كان هناك فصل شهري عن النوتات الموسيقيّة، حيث نكرّر ألحانًا مملّة مع الأستاذ، ونصرخ بصوت عالٍ مرددين النوتات الموسيقية. لم يهتم الطلاب بالموسيقى وقد فاجأني ذلك بالفعل. لقد سخروا منّي عندما أخبرتهم أنني أجيد العزف على البيانو.”

القدوة، أو المثل الأعلى الذي تحتذي به، هو المحفز الذي يساهم في تشكيل موهبة الشباب. كثيرًا ما يواجه الموهوبون سخرية أترابهم وتوبيخ المسؤولين عنهم و المحيطين بهم.  يقول صابر: “تحداني أستاذي في أن أعزف البيانو، وعندما فعلت ذلك، شعر الجميع بالدهشة. وطلب مني العزف لما تبقّى من الحصّة.” واجه صابر تحديًا آخر، العزف بكلتا يديه. كان ماهرًا في العزف بيده اليمنى، لكنه كان بحاجة إلى تعلم العزف بمرونة بكلتا يديه. من خلال التعمّق بالموسيقى الكلاسيكية الغربية واليمنية، بات يتنقل بسلاسة بين النوتات، وبحلول نهاية المرحلة الثانوية تمكّن من اتقان العزف بكلتا يديه من خلال التعلّم وحده. “أدركت أنني لن أتطوّر وأتقدّم أكثر من دون بيانو حقيقي، فواجهت تحديًا كبيرًا. شكّل شراء بيانو كبير مغامرة صعبة لأنه لم ير أحد أهميته. لقد ادخرت يوماً بعد يوم المال لشراء البيانو الرقمي ، مما سمح لي أن أؤلّف العديد من معزوفاتي الحالية.”

طريق مشتركة

يتمّ الحكم على النجاح والفشل من خلال الخطوات المتخذة للوصول إلى النهاية. تصبح الحياة شاقّة أكثر عندما نواجهها بمفردنا وتصبح أفضل عندما نعيشها بتناغم. يُقال إن التواصل وتحديد الأهداف المشتركة هما السمة التي تميّز أيّ زوجين ناجحين: شخصان يختاران مواجهة الأوقات العصيبة معاً. أوضح الزوجان: “كزوجين، قررنا ما هي الطريق التي يودّ كلّ منا أن يسلكها في حياته.” كان الفن الرابط المشترك بيننا، وساعدنا على إنشاء أرضية متبادلة ساعدتنا على تحقيق أهدافنا الفردية. في مجتمع تقليدي مثل اليمن، من الصعب دائمًا على النساء الحصول على حقوقهن الكاملة، واستخدام أصواتهن والتعبير عن آرائهن. ساعد الفن والفهم المتبادل في تحويل تلك البيئة إلى أرضية مشتركة تساعد الزوجين على الازدهار. وأضاف الزوجان: “يعتبرنا الكثيرون قدوة يحتذون بها. وقد تأثّرنا نحن أيضًا قبل الزواج بعدد من الأزواج الذين شكّلوا مثلاً أعلى لنا. لقد احتفلنا بأربع سنوات زواج ودخلنا في سنتنا الخامسة. تعلمنا الكثير، وكل يوم ننضج فيه أكثر، ونحن نعيش في وئام.” ترى شذى في زوجها طموحه ومثابرته لتحقيق كل هدف يسعى إليه. وتشرح شذى: “تشكّل هاتان الصفتان مصدر أمل وقوة يدفعني إلى القيام بالمزيد لكي أصبح الشخص الذي لطالما حلمت به.” يرى صابر في زوجته القدرة على التقدم في مجالها من خلال العمل باستمرار على تنمية مهاراتها. وأوضح صابر: “لا شيء مستحيلا بالنسبة لشذى. على الرغم من تعمّقها في الفنون البصرية، إلا أنها اتخذت اتجاهًا جديدًا وبدأت تتعلّم العزف على آلة الكمان، وهي واحدة من أكثر الآلات الموسيقية الوتريّة صعوبة. هذا هو الدافع الأكبر لتطوير قدراتي وشغفي بالموسيقى.”

كزوجين يعشقان الفنّ، يعتقد صابر وشذى أن لهما دورًا ثقافيًا واجتماعيًا. يكمن الدور الثقافي في معالجة قضايا المجتمع بأسلوب جديد، حيث كلّ منهما يشكّل مصدر إلهام لفنّ الآخر. يترجم صابر رسومات شذى ويعبر عنها على أنها قطع موسيقية، وتصور شذى قطع صابر وتقدمها كرسومات تجريديّة. لديهم شعور فنيّ مشترك. يعتقد الزوجان أنه من الضروري تقديم نموذج إيجابي ومشرّف للمجتمع وتسليط الضوء على الحياة الزوجيّة المليئة بالحب والاحترام المتبادل. وختم الثنائيّ قائلًا: “نحن نحاول قدر المستطاع محو ثقافة العار والخزي التي غزت مجتمعنا. فكلّ ما يتعلّق بالنساء يُنظر إليه على أنه عار. نحن نحاول قدر المستطاع أن نقدّم صورة إيجابية. إذا أعطيت المرأة حقوقها كاملة وحريتها وثقتها بنفسها، سيستمر الناس في العيش حياة زوجية سعيدة وسيحقق المجتمع بالتأكيد الفائدة من ذلك. نحن جنود، ونحن نقف إلى جانب كافة الفنانين في البلاد، ونعمل، ونقاتل، وننادي، ونقاتل للحفاظ على قيمة الإنسانية، لا سيّما الجمال، لأن الحروب تدمر كل شيء جميل.”

الفنّ

 الصورة بإذن من سمية عبدالله

الصورة بإذن من سمية عبدالله

الفنّ مُتاح ليختبره الجميع: لا يمكن تحديده، وهو في تطوّر دائم، وسبب ابتكار المجموعات الفنيّة التي تتراوح بين الصوفيّة والتعبير عن الذات. أفضل تعريف للفن هو قصة تُروى من زوايا مختلفة. يفسر كاتب القصة شعورًا، ويتعرف القارئ على مشاعر متشابهة أو معقدة. “الفن هو علاج، وفرج، وبصيص أمل، ونظرة مستقبليّة، وحبّ، وتعبير، وصراخ، وألم، واستراحة من الواقع”، كما أوضحت شذى. في حالة اضطراب مستمرّة، كالحالة التي تمرّ بها اليمن اليوم، من الصعب رؤية بصيص النور في نهاية النفق. ومع ذلك، فإن الاعتقاد الراسخ بأن الجمال يهدف إلى التغلب على كل القسوة في هذا العالم يتسرب إلى داخل جميع الأرواح المتعبة. وشرح صابر: “الموسيقى جزء لا يتجزأ من الحياة. تمامًا كالطعام والماء، لطالما اعتبر الناس الجمال قيمة أساسية في حياتهم؛ الموسيقى كالأكسجين بالنسبة لي.”

للمجتمع دور حيويّ في تعزيز بيئة تحتضن الفن. وتابعت شذى: “لطالما تلقيت دعم عائلتي وغيرها  وخصوصا من فنانين معترف بفنهم. وقد تعرّفت عليهم خلال مسيرتي الفنيّة. ومع ذلك، فقد أدركت أن كوني فنانّة تجريديّة هو التحدي الذي أواجهه كل يوم.” فن تحويل لوحة قماش فارغة إلى عالم من الألوان يلفت الأنظار ويلامس قلوب وعقول الملايين. ليس من المفترض أن يتم تشريح كل تعبير فني وفهمه، فبعض هذه التعابير بحاجة إلى أن نشعر به، فيما تكون واقفًا وتسمح للقطعة بالتحدث إليك. وقالت شذى: “التجريد بالنسبة لي هو وعي”. فالتحدّي يكمن في أن تكون ملحنًا كلاسيكيًا في مجتمع نابض بالحياة لا يقدّر جميع أنواع الموسيقى. عرفت اليمن بموسيقاها الحيويّة، وهي مزيج نابض بالحياة لآلات تبثّ الحماس في روح المستمع. يقول صابر شرحا التحدي الذي يواجهه: “إن نوع الموسيقى التي أعزفها غير مرحب به في مجتمع يفضّل الموسيقى التقليدية على الموسيقى الكلاسيكية. فلا عجب أن يشكّل هذا الأمر تحديًا كبيرًا.”

يجد الفنان الحقيقي الإلهام في كل ما يُصادفه: في زجاج مكسور، أو في ابتسامات الأطفال. لا يرتبط الدافع بالحالة أو الوقت؛ فهو يصيب كالصاعقة. وقد وصفت العمليات الإبداعية التي أدت إلى العديد من الأعمال الفنية العظيمة بأنها غير متوقعة وغير متوقعة. فعل الخلق قوي ورائع. تقول شذى: “قال لنا رسام كبير ذات مرة أن نبحث عن المحفزات الفنية، وأدركت أن واقعي هو محفزي. الشارع، أصدقائي، الفنانون من كافّة الألوان وآلاتهم الموسيقية، شباب يكافحون من أجل البقاء، غرفتي، والمنزل المحطّم أمام نافذتي، مدخل بيتي، وبقايا الشظايا! الأبواب والنوافذ المكسورة. أرى كل ذلك كل يوم مترجمًا إلى نوتات بين أصابع صابر. أرى الحطام وأسمع الأمل في الوقت نفسه. انه فنّ! عند مزجه مع الألم، يتحوّل إلى جمال.” تعمل شذى حاليًا على سلسلة من اللوحات حول النازحين داخليًا، وتصوّر مأساة النازحين وألمهم، وتعبّر عنها تحت الضوء المجرد. وأوضح صابر: “أثرت الحالة الراهنة على موسيقاي، وكلما استمر الصراع،  زادت الموسيقى التي تلامس المعاناة والمآسي في البلاد.” حاليًا، يعمل صابر على سلسلة من القطع الموسيقية المستوحاة من لوحات شذى للنازحين.

الفن والحب مزيج لا يُكتب له النجاح دائمًا. عندما يفكر العديد في كلمة “حب”، فهم يتصوّرون القصص الخيالية: حبّ مثير، وآسر، وغير معقد. قد يكون الواقع مختلفًا. ومثل كل مسعى إنساني يستحق التعب والعناء، يتطلب الأمر جهدًا وعملاً شاقاً. ومن المُشجّع رؤية مثال رائع على حياة الزوجين الناجحة ومعرفة كيفية إدارة المهن مع تعزيز الروابط الزوجية. ربما تكون ريشة الرسام السحريّة أو ألحان المؤلف الموسيقي المبتكرة هي ما يجمعهما للأبد، أو أنهما عثرا على الوصفة السحرية من خلال التحدث والحفاظ على عقل مُنفتح. أنواع الحب التي نشعر بها متنوعة مثل الأشخاص الذين يختبرونها؛ هو نوع آخر من الفنّ الذي يتمّ استكشافه وصقله مع مرور الزمن.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى