This post is also available in: English (الإنجليزية)
لم يتخل البشر كلياً عن الإرث الثقافي الذي خلفه أسلافنا قبل آلاف السنين، كالرقص، والرسم، والصيد. وفي اليمن يعتقد الباحثون أن بعض الرقصات الشعبية التي نعرفها اليوم قد تطورت عن ممارسات شعائرية تعود لأوائل العصر الحجري الحديث1. فقد وجدت في نجران عدة منحوتات صخرية لنساء يرقصن في صفوف، وهن خافضات الأيادي في وضع يشبه إلى حد كبير رقصة العرضة النسائية المعروفة اليوم في نجران وعسير. كما تظهر في المنحوتات نساء أخريات رافعات الأيادي بصورة تشبه رقصة الشرح التي مازال سكان جنوب اليمن يؤدونها في الأعراس والمناسبات الاجتماعية حتى اليوم. 2 كما وجدت لوحات أخرى تظهر نساء راقصات متشابكات الأيادي بصورة تشبه الرقصة الصنعانية.3 في هذا المقال نحاول تتبع الموروث الثقافي الحجري في اليمن ونربط عادات شعبية معاصرة بتراث تقافي يضرب جذوره في القدم بصورة قد يعجز المرء عن تخيلها.
عاش اليمن عزلة طويلة خلال فترات عديدة من المناخ الجاف الذي أصابه في الأف السابع قبل الميلاد. وقد وفر هذا الانزواء الفرصة للكثير من العادات والتقاليد الشعبية كي يتم لها الاستمرار والتطور. ومنذ ستينات القرن الماضي، ومع انتشار وسائل الاتصالات والمواصلات الحديثة، انفتح اليمن بشكل غير مسبوق على بقية العالم، وانخرطت مجتمعاته المحلية شيئاً فشيء في الحداثة والعولمة حتى فقدت الكثير من عاداتها ومفاهيمها المتوارثة. ولهذا فإن استمرارية بعض هذه العادات في اليمن طوال هذه المدة لهو أمر مثير للإعجاب.
من البداوة إلى الحضر: أقدم صراع حضاري
في زيارتي لصحراء حضرموت في العام 2017 ومأرب في العام 2018, لاحظت أن البدو في تلك المناطق يتجنبون العمل في الزراعة، ويتركون ذلك لأبناء القرى والفلاحيين المنحدرين من الأودية. كان ذلك جلياً في منطقة الفاو وهي واحة زراعية خلفها سد مأرب؛ فكل العاملين والمالكين للأراضي الزراعية هناك كانوا من فئة أخرى. وفي حديثي مع شخص ينتمي إلى وادي حريب، وهو وادٍ زراعي على أطراف رملة السبعتين، قال لي أن البدو الذين يسكنون الصحاري أو حتى الذين قدموا للعيش في الوادي يحتقرون الفلاحيين. فإذا عمل البدوي في الزراعة، فإن هذا يسبب العار لقبيلته. وقد لاحظت نفس الأمر في حضرموت؛ إذ حكى لي المزارعون أن البدو يزدرونهم رغم أنهم يأتون إليهم مع جمالهم للتزود بالماء وشراء الخضروات.
لم أستطع فهم هذا الصدام الحضاري بين هاتين الفئتين الاجتماعيتين دون أن أفكر في البحث عن أصوله القديمة. وباعتقادي فإن هذا الصراع الحضاري يضرب بجذوره في عمق التاريخ. بدأ ذلك في اليمن مع ترك مجموعات من الصيادين دائمي التنقل ومن جماعي الثمار الأكثر استقرارا – تركهم حياة البداوة والتحول إلى الأنشطة الزراعية مع حلول الألفية السابعة قبل الميلاد4. فقد عثر على قرى تعود إلى منتصف العصر الحجري الحديث في منطقة خولان بالقرب من أراض ٍ كانت في ذلك العصر زراعية. وقد تحول سكانها من الصيد العشوائي إلى الرعي وتدجين الحيوانات مع حلول الألف السادس قبل الميلاد5. لكن الكثير من الصيادين من جامعي الثمار في المنخفضات الصحراوية حافظوا على أنماط الحياة السابقة في تناقض مع سكان الأودية. وقد أكدت المسوحات الميدانية أنهم واصلوا العيش كصيادين عشوائيين في الألفية الثالثة قبل الميلاد6. وقد كان هؤلاء ينظرون باحتقار إلى الأعمال الجديدة التي فرضتها الحداثة “الرعي والزراعة على سبيل المثال”.
إن الصدام بين البداوة والحضر المستمر إلى اليوم ليس سمة ثقافية تختص بها اليمن؛ فهو لا يزال محل جدل محتدم يخوض فيه كبار الفلاسفة في أجزاء مختلفة من العالم (الرجل الأول الذي قام بتسوير قطعة أرض، وقال هذه ملكي، ووجد أن الناس ساذجين بما فيه الكفاية ليصدقوه- ذلك الرجل نفسه كان المؤسس الحقيقي للمجتمع الحديث، احذروا من الاستماع إلى هذا المحتال؛ فأنتم تتقهقرون إذا نسيتم مرة أن ثمار الأرض تخصنا جميعا، والأرض نفسها لا أحد.) جان جاك روسو7.
اليوم لم يعد البدو يعيشون تماما كبدو في العصر الحجري. فلم يعودوا صيادين، بل باتوا يعتمدون في الغذاء والتجارة على رعي المواشي: الجمال لدى بدو اليمن ودول الشرق الأوسط، والأحصنة لدى بدو سيبيريا وشمال الصين، والجواميس لدى بدو أفريقيا.
بالنسبة لصياد العصر الحجري فإن العثور على الوعل هي فرصة للحصول على الغذاء وممارسة الطقوس الشعائرية وإكتساب ود وإحترام العشيرية. “صورة تخيلية” بإذن عبير الباردة
الوعل المقدس واستمرارية الطقوس الرقصية
كان حيوان الوعل أيقونة العصر الحجري في اليمن، وقد استوطن جميع الأراضي اليمنية قبل أن ينحصر وجوده الآن في هضبة حضرموت. وقد رسمه اليمنيون القدماء في الصخور بكثرة منذ بدايات العصر الحجري الحديث في مناظر صيد ملونة ومنحوتة. ومن جميع اللوحات الصخرية المنتشرة في اليمن نجد أن الوعل يمثل ما نسبته 21% من جميع اللوحاـت.8 لقد أعجب اليمنيون بالوعل واعتبروه تمثيلا للقوة والجمال المطلق؛ فهذا الحيوان الذي يقضي حياته متسلقا أصعب المنحدرات الصخرية متحملا جفاف الأرض وحرارة الجو ربما كان مثالاً للصبر والشجاعة آنذاك. ويبدو أن اليمنيين كانوا يفضلون أكل لحمه أكثر من أي حيوان أخر، ومن هنا، فقد هيمن الوعل على خيال الصيادين9. وكان بالنسبة لليمني القديم حلما، وأملا، وقضية حياة، أو موت، يطوف البلاد عسى أن يلقاه ويصطاده، فينقذ بذلك عشيرته من الجوع والهلاك. 10وحين ينجح باصطياده، ويعود به إلى عشيرته، فإنه يشعر بزهو النصر والقوة، فيقوم بارتداء جلده ويلبس رأسه طمعا في اكتساب بعض من صفاته، وبذلك يثبت تفرده أمام العشيرة الجائعة التي تستقبله بإيقاعات فرحة وعفوية. 11 ربما كانت هذه بداية ظهور رقصة الوعل التي مازال اليمنيون، خصوصا في حضرموت، يرقصونها حتى اليوم.
وبالرغم من أن الوعل كان أحد الحيوانات الرئيسية المفضلة في الصيد إلا أنه بحسب باحثين من غير المعقول أن يكون قد أخذ أهميته الكبيرة بسبب قوته وجماله؛ بل إن الأمر يتعدى ذلك ليصل إلى مغزى ديني، فمع انتشار ثقافة الزراعة في العصر البرونزي ارتبط صيد الوعل بالزرعة. وكان الاعتقاد بأن الفشل في صيد الوعول في أحد المواسم يجلب الغضب والعقاب الألهي.12 وخلدت النقوش الكتابية التي ظهرت في ذلك الوقت صيد الوعول في سياق مرتبط بالعبادة.13ويبدو أن الوعل قد تعدى كل القيم الرمزية في العصر البرونزي حتى أصبح رمزا للآلهة اليمنية. كما أعتبر القتبانيون الذين عبدوا القمر تقوس قرنيه تعبيرا عن تقوس الهلال.14 علاوة على ذلك، لم تكتفِ النصوص السبئية والمعينية بتخليد صيد الوعول، بل إنها أيضا أشارت إلى الميزة الرمزية أو المقدسة لهذا الحيوان. وهو أمر ملاحظ في الزخرفة المعمارية: وعول بأشكال واقفة، وممددة، ومربوطة تزين النقوش والمباخر البرونزية.15 وما زلنا إلى اليوم نشاهد قرون الوعل منصوبة على بيوت يمنية حديثة في مناطق مختلفة كحضرموت، وصعدة, وصنعاء وغيرها كنوع طقسي للحماية من العين.16
مشاهد غريبة للرقص الطقوسي
في كتابه صفحة من تاريخ اليمن وقصة حياتي يصف المؤرخ اليمني محمد بن علي الأكوع (المولود عام 1903م) رقصة غريبة كان الناس في منطقة ذمار يؤدونها حتى بدايات القرن العشرين. يصف الأكوع شخصين رئيسيين في الرقصة: امرأة بملابس عرس رثة طلي جسمها بسواد الفحم، ورجل يرتدي صوف الكبش من رجليه حتى رقبته، ويلبس قناع كامل للرأس يدعى ( النوعة ) وهو عبارة عن رأس كبش حقيقي مجوف ومفرغ من الأحشاء؛ وبذلك يكون شكل الرجل مفزعا. وفي الرقصة يكوِّن أربعة من الرجال شكل جمل؛ إذ يضعون على أكتافهم خشبتين، ويُغطون بالفراء المنسوج من الصوف، ويلصقون ذيل جمل في مؤخرة هذه الهيئة ليبدو تماما كالجمل. ويحمل هؤلاء الرجالُ الرجلَ الخيالي سيرا على الأقدام في شوارع المدينة وكأنه يمتطي خيلا أو جملا، ويصاحب ذلك أهازيج النساء وحفاوة الأطفال17. وفي قرى محافظة أب تنتشر رقصة شعبية جماعية تمارس في المناسبات الاجتماعية حتى وقتنا الحاضر. تبدأ الرقصة بصفوف بشرية تحيط الراقصين وفي مقدمتها يقف حملة الطبول, وفي منتصف الدائرة ترقص أربع شخصيات يقودها الأمير: الذي يرتدي ملابس فاخرة وهو من ينظم السير ويضبط إيقاع الرقصة, ومع أن العادات المحافظة السائدة في اليمن حاليا تمنع النساء من الرقص أمام العامة, إلا أن سكان هذه المناطق قاموا بابتكار حلول لمواصلة هذا الطقس القديم دون تغيير, لذا يقوم أحد الرجال بتأدية دور أمرأه بملابس العروس تشارك الرجال رقصتهم, ورجل أخر بملابس رثة تقون حركاته الرقصية على حماية الجارية من الأمير الذي يحاول التقرب منها بالرقص وكذلك من الرجل الخيالي الشرير الذي يمثل الشخصية الرابعة ويرتدي قناعا بشعا, وقد نفهم أن هذه الشخصية كانت في السابق تضع رأس الوعل كقناع قبل أن ينقرض وجوده في المرتفعات, أو رأس الكبش كما ذكر الأكوع في كتابه.
مشهد للعبة الوعل كما وصفها الأكوع في كتابه. “صورة تخيلية” بإذن عبير الباردة
يصنف الأكوع هذه الطقوس كلعبة شعبية، تحكي حكاية فتاة جميلة تتزوج من شخصية خيالية مفزعة وقوية. لكنه يستخدم مصطلح كبش “خروف” بدلاً عن الوعل، ومن المعروف أن مرتفعات اليمن لم تكن بيئة مستوطنة للخرفان16, بعكس ” الوعل النوبي الذي كانت موطناً أصلياً له، قبل أن ينحصر وجوده في حضرموت، فهل اختلط الأمر على اليمنين في المرتفعات؛ فلم تعد الرقصة تشترط تمثيل الوعل، أم أن الأكوع لم يهتم بالتفريق بين الوعل والخروف؛ لاسيما أنه قال في افتتاحية كتابه بأنه استخدم اللغة الدارجة في السرد. وعلى كل حال، فإن المشهد في هذه الحالة يصور زوجين؛ ويظهر الزوج مرتديا جسد الوعل، وهذه الخاصية هي من أهم ميزات رقصة الوعل كما سبقت الإشارة. ولعل هذه اللعبة امتداد شعبي قديم للابتهاج بالزواج عبر رقصة ” الوعل” الذي يذبح في الأعراس.
اليوم مازال قلة من اليمنيين في حضرموت يقومون بحملات موسمية جماعية لصيد الوعول. ومع أن هذه الحملات قد فقدت صورتها الشعائرية، فإنها مازالت محتفظة برمزيتها الجمالية. وطوال أكثر من عشرة ألف عام واصل الصيادون الحضارم بدون انقطاع أداء الطقوس المرتبطة بصيد الوعول حتى يومنا هذا. حيث يحمل الصياد الذي نجح في اصطياد الوعل رأس فريسته قرب بطنه, ويطوف به مساحة صغيرة من الأرض برفقة شخصين أو ثلاثة أشخاص في خطوات سريعة ومتقاربة على إيقاع رقصة الشرح, في حين يقوم البقية بتشكيل صفوف تحيط الراقصين, اليوم يعتقد العلماء أنها نفس الرقصة التي رقصها أجدادنا منذ العصر الحجري. وكما هي اليوم، يتضح أن طقوس رقصة الوعل لم تكن تحدث في السابق إلا في حدث محدد يتم الاحتفال به، 18 وهو موسم صيد الوعل. أو حين يذبح الوعل ليتم تناوله في الأعراس والمناسبات. ومع تناقص أعداد هذا الحيوان نتيجة لتزايد الصيد وانحسار الموائل الخضراء، فإن هذا التقليد العريق قد يختفي قريباً مع اختفاء آخر وعل في اليمن.
المراجع
1. Altwaiji M. (2017). History of Saudi Folklore and Factors that Shaped it- Northern Border University- p169
2. Majeed K. (2017). An Introduction on The Rock Art of Saudi Arabia – Saudi Commission Tourism and National Heritage, pp.11,35,59
3. Majeed K. The Rock Art of Saudi Arabia – on the Site of Bradshaw foundation – p 1. figure: 4
4. Barca, D., Lucarini, G., & Fedele, F. G. (2012). The Provenance of Obsidian Artefacts from the Wadi Ath-Thayyilah 3 Neolithic Site (Eastern Yemen Plateau). Archaeometry, 54(4), (PP. 606–607).
5. Guagnin M. (2017). Pre Neolithic Evidence for Dog-assisted Hunting Strategies in Arabia. Journal of Anthropological Archaeology, p.3
6. Fwdele F. (2008) Wadi at-Tayyilah 3, a Neolithic and Pre-Neolithic Occupation on the Eastern Yemen Plateau, and its Archaeofaunal Information-Proceedings of the Seminar for Arabian Studies 38: 153–172- p 167
7. Rousseau J. -Jacques (1754), “Discourse on the Origin of Inequality, part two”, International Relation and security network, p.18
8. Rashad, M. (2009). The Art of Rock Paintings and the Settlement of Yemen in Prehistoric Times -Topics of Rock Painting Art – p 119,120.
9. Ibid.
10. Sherif A. (2017). Thumma Sar al-Mukh Aqlan [Then the brain become mind], P. 217
11. Ibid., p. 218
12. Akram N. (2011). The Ritual Hunting In the Southwest Arabia – Annals of Ain Shams Literature – Volume 9 . p 271
13. Avanzini A. (2005). Some Thoughts on Ibex on Plinths in early South Arabian art. Arabian archaeology and epigraphy 16/2: p144‑153.
14. Lurker M. (1987). The Routledge Dictionary of Gods and Goddesses, Devils and Demons – Routledge & Kegan Paul. p 11,12, 179
15. Akram N. (2011).op.cit., p. 271
16. Rashad, M. (2009). Op.cit., p. 119,120
17. Al-Akwa M. Safhah Min Tarikh al-Yaman wa Qisat Hayati [ A Chapters from the Yemeni History and the Story of my Life]. p 134
18. Magee P. (2014). The Archaeology of Prehistoric Arabia. From: Guagnin M. (2017). Pre Neolithic evidence for dog-assisted hunting strategies in Arabia-Journal of Anthropological Archaeology. p3
19. Akram N. (2011). Op.cit., p. 1