تاريخثقافة

باكثير بعد نصف قرن من رحيله

قراءة في جهوده الإصلاحية

This post is also available in: English (الإنجليزية)

يمر هذا العام على وفاة الأديب العربي الحضرمي علي أحمد باكثير خمسون عاماً  كتب خلالها عنه الكثيرون من الباحثين و الأدباء فيما يخص شعره و رواياته ومسرحياته وفكره الذي ضمنه أدبه. و احتفت به دول عربية كمصر و اليمن و الإمارات و غيرها في مؤتمرات حملت اسمه وتحدثت عن أدبه. وفي هذا المقال سأحاول بصورة خاصة أن أتطرق لدوره الاجتماعي في الإصلاح و التغيير من خلال تتبع سيرة حياته في الموطن والمهجر.

ولد أديبنا علي أحمد باكثير في المهجر الآسيوي تحديداً في مدينة سورابايا في إندونيسيا في 15 من ذي الحجة سنة 1328هـ الموافق 21 من ديسمبر 1910م لأبويين عربيين من حضرموت وعاش ومكث هناك إلى أن بلغ عامه العاشر. بعد ذلك سافر به والده إلى مدينة سيئون موطن أسرة باكثير؛ لينشأ نشأه عربية أصيلة بين إخوته لأبيه هناك. وهو ما تم له حيث تعلم اللغة العربية على يد عمه الشيخ محمد بن محمد باكثير اللغوي والشاعر الكبير وعلى يد مجموعة من المشايخ العلماء في أمور اللغة والدين والتاريخ. وفي الوقت ذاته التحق الفتى باكثير بمدارس النهضة العلمية في سيئون.

بزغ نجم باكثير مبكرا فلقد كتب الشعر وهو ابن الثالثة عشر من عمره.   في مقابلة معه في تلفزيون الكويت، يقول باكثير: “نعم، الشعر كان هو الفن الأول الذي مارسته في حياتي الأدبية الأولى حينما كنت في حضرموت حيث لا يوجد لا مسرح ولا قصة و لا يوجد غير الشعر كفن متصل بثقافتنا العربية القديمة، ولعل ما يؤكد ذلك أن الشعر هو أول فن لأي أديب آخر ولو كان نشأ في بلاد فيها المسرح والقصة وغير ذلك لأن الشعر لغة الشباب الأولى في رأيي أو هو فن الشباب الأول”.

كان باكثير مولعاً بالكتابة منذ شبابه المبكر فقد كتب في مجلة “التهذيب” الصادرة في سيئون سنة 1930 و التي أصدرها الأديب حسن بارجاء. وخلال تلك الفترة راسل الدوريات المصرية. ثم بعد استقراره في مصر و تخليداً لمجلة التهذيب التي بها نفائس كتاباته المبكرة تولّى طباعتها في القاهرة كونها كانت مجلة مطبوعة باليد و ذلك بتمويل من السيد “السير” أبوبكر بن شيخ الكاف أحد أكبر شخصيات المنطقة و حضرموت في ذلك الوقت.

و لقد كان الأديب باكثير وهو لا يزال في حضرموت على اتصال بأدباء عرب كبار أمثال حافظ إبراهيم وشوقي ومطران وغيرهم. و يروي  باكثير قصة وصول ديوان حافظ إبراهيم إلى حضرموت و أنه اعتبر ذلك عيدًا و أولم وليمة كبيرة و حضر أصدقاؤه من الأدباء و الشعراء في ذلك اليوم. كان يكتب المراثي في شعراء العرب الكبار المعاصرين له ويراسل الأدباء المعدودين بينهم، ثم تاقت نفسه، بسبب قراءاته، للاطلاع على الأدب العربي و الآداب الأجنبية التي كانت تصله أصداؤها من المراكز الثقافية العربية وبالأخص القاهرة. انتقل إلى مصر وفيها بزغ نجمه و نشر عشرات المسرحيات و الروايات. ووفقا لبعض نقاد الأدب، فإن باكثير يعد رائد قصيدة التفعيلة في الوطن العربي.

العمل الفني لعبير الحضرمي

جهود باكثير الإصلاحية

مكث باكثير في مدينة سيئون زمناً قضاه في التعلم والتعليم؛ فقد عمل مدرساً في مدارس النهضة العلمية بسيئون. و المعلوم أن الفترة التي عاشها الأديب النابه باكثير كانت فترة تحولات في العالم العربي والإسلامي؛ ففيها حدث سقوط الدولة العثمانية واتفاقية سايكس بيكو و سيطرة الاحتلال الإنجليزي والفرنسي  والإيطالي على معظم دول الوطن العربي. وفي تلك الفترة عينها انتشرت كتابات وآراء دعاة الإصلاح العربي والإسلامي كمحمد عبده وجمال الدين الأفغاني ومحمد رشيد رضا وغيرهم.

بحساسيته المفرطة حاول بأكثير أن يتخطى الدور التقليدي للمثقف أو الأديب وأن يوظف ملكته وحضوره في محاربة العادات التي تحاول أن تقف أمام جهود الإصلاح في مجتمعه. أخذ على نفسه محاربة من أسماهم بالجامدين. و لعل أبرز ما يوصف تلك المرحلة هو قصته الشعرية المعروفة ( همام أو في بلاد الأحقاف ). تناول  في الفصل الأول منه حالة بلده و سيطرة الأفكار التقليدية المتخلفة التي تستتر خلف غطاء الدين – و هو عنها براء – و الحكم المسيطر  في بلاده و كيف تم تجميد العقل و تجهيله و كذا جهل المرأة و التعليم التقليدي القائم على الحفظ و الاسترجاع فقط مستعرضاً الأعراض و الظواهر  كحب المال و تفضيله عن كل شيء و الامتناع عن العمل بحجة التوكل على الله دون العمل و البحث عن الرزق و كذا احتقار الأعمال اليدوية. في الفصل الثاني انتقد باكثير الظواهر الاجتماعية و الخرافات التي شاعت تحت مسميات دينية حسب ما يروي الأديب المفكر. أما الفصل الثالث فقد تحدث فيه عن جهود الإصلاح التي قام بها بطل قصة (همام) و مناداته بتعليم المرأة ونفض الغبار وشحذ الهمم من قبل المجتمع لتغيير تلك العادات الدخيلة المترسبة التي تعيق المجتمع من التقدم. و كانت فاطمة أخت البطل تخطب في مجالس النساء مناصرة لفكرة همام.  ولقد حصل همام على مجموعة من المساندين من الرجال و النساء منهم حُسن و التي نشأت بينها وبين همام قصة حب ثم تطورت  إلى زواج.  غير أن الأمور لا تمر بسهولة، فقد تعرض همام  لمضايقة مما اضطره للهجرة هو و صديقه عامر. و لعل المتأمل للقصة يدرك أن باكثير كان يصف نفسه و يصف محاولاته الإصلاحية. وبالجملة يتعرض باكثير في المسرحية للقضايا التي عمل من أجل التصدي لها ليس تمرداً على المجتمع بل حباً و انتماء له ليكون مجتمعه في مصاف المجتمعات الشرقية المتقدمة الأخرى.

و الدليل على أن السلطة لم تكن راضية عن جهود باكثير هو ما ذكره الدكتور أحمد باحارثة في مقالته: “في ذكرى رحيله الخمسين: باكثير مطروداً” حيث يروي الدكتور باحارثة أن شيخاً من آل كثير – الأسرة الحاكمة في سيئون في ذلك الوقت – و الذي كان أحد أفراد الحراسة الخاصة بالسلطان الكثيري في زمن باكثير حدثه أنه لم يرحل من سيئون حزناً على زوجته (نور باسلامة) التي رُزِق منها بابنته الوحيدة “خديجة” – التي توفيت غرقا في طفولتها المبكرة – كما ذكر في كتابه ” كتاب باحارثة” بل كان السلطان قد استدعى باكثير الى قصره وحادثه من عند الباب قائلا له : “أنت أمام أمرين؛ إما ان ترحل من البلاد وإما أن تدخل السجن، أنا ما أريد مشاكل” فرحل باكثير إلى عدن حينها مهموما خائبا.

ومن صيغة خطاب السلطان لباكثير أن السلطان تعرض لضغط شديد بإيقاف مساعي باكثير الإصلاحية في البلد مما دفعه إلى طرده حيث كان التحالف بين السلطة والقوى الاجتماعية التقليدية  حازما في مجابهة التغيير.

يتحدث البعض أن ما قام به باكثير هو انعكاس لانتمائه لفكر جمعية الإصلاح و الإرشاد في إندونيسيا، غير أن المتأمل لسيرة باكثير يعرف جيداً أنه قد يكون تأثر بها و لكنه أيضاً لم يكن معاد للقوى التقليدية العلوية في حضرموت حيث عمل مدرساً فمديراً لمدرسة النهضة بسيئون التي أنشأها التيار العلوي. و هذا ينافي الفكرة التي تقول أن دوره الإصلاحي كان ضمن الصراع الإرشادي العلوي في حضرموت و المهجر والذي قامت من خلاله أكثر من 53 مجلة في صراع داخلي أضاع وقت طويل من مسيرة الأمة باتجاه التقدم. ورغم ذلك، فقد كانت هناك نهضة في حركة الصحافة في الداخل و المهجر وهذا كما ذكره الأستاذ الأديب والباحث على أحمد بارجاء في رسالة الماجستير التي تناولت أدب حضرموت في المهجر الشرق الآسيوي .

ولعل رحلة المهجر لدى باكثير أوحت إليه أن ميدان دعوته ورسالته أكبر وأن ملكته الفريدة و وثقافته واطلاعه الواسعين يحتمان عليه أن يكون على حجم المهمة بأدوات الأديب المتمكن.  ومن هنا، كانت مؤلفاته و كتاباته ضد الاستعمار البريطاني، و لعل أبرزها مسرحية (مسمار جحا) و التي جاءت في أوج الغليان ضد الاستعمار البريطاني والحكم الفاسد في 1951م. ولعل باكثير أصبح بعدها رائد المسرح الرمزي.  وفي هذا الصدد جاء  في جريدة الأساس “استطاع مؤلف مسرحية “مسمار جحا” وهو الأستاذ علي أحمد باكثير، أن ينهج نهجاً جديداً في التأليف المسرحي المصري؛ استطاع أن يحقق المذهب الرمزي بأجمل وأكمل معانيه في هذه المسرحية التي افتتحت بها فرقة المسرح المصري الحديث موسمها وكانت ضربة معلم في حينها وفي وقتها” (جريدة الأساس، عدد 22/10/1951م)

لم يقف باكثير هنا بل أنه وظف التاريخ في رواياته مثل (سلامة والقس، وا إسلاماه، ليلة النهر، الثائر الأحمر، سيرة شجاع، الفارس الجميل) التي ناقش فيها قضايا من التاريخ الإسلامي مثل غزو التتار وآخر أيام الحكم الفاطمي وثورة القرامطة التي تحاكي الصراع الاشتراكي الرأس مالي و تبرز وجهة نظر المؤلف حول العدالة الإسلامية.

ولطالما كانت رواياته ومسرحياته تحاكي القيم المعتدلة للإسلام الذي ينبذ الظلم والتخلف والجهل والانجرار في رذائل الأمور وسفاسفها.

 بيد أن باكثير عانى الأمرين من زمنه كغيره من الفضلاء والمتميزين. في أوج عطائة في الستينات لم تسلم رسالته السامية من المعارضة الشرسة من قبل اليساريين المسيطرين على المشهد الثقافي و الاعلامي  في مرحلة استمرت خلال الفترة (1958- 1969م) حجبت مسرحياته عن الجماهير و لم يلق باكثير الاهتمام الإعلامي اللائق في تلك الفترة و ذلك لأسباب عقائدية فكرية.

ولكن مرحلة الحصار التي استمرت حتى وفاته لم توقفه عن الإنتاج الفكري و الأدبي حيث قال عبارته الشهيرة: “أنا على يقين أن كتاباتي وأعمالي ستظهر في يوم من الأيام وستأخذ مكانها اللائق بين الناس، ولهذا فأنا لن أتوقف عن الكتابة ولا يهمني أن ينشر ما أكتب في حياتي إنني أرى جيلاً مسلماً قادماً يستلم أعمالي ويرحب بها “.

ضاق الخناق على الأديب باكثير وهو ما دفعه إلى العودة إلى بلاده من أجل أن يستكمل ما بدأه مستبشراً في الثورة على النظام السابق و حصول جنوب اليمن على استقلالها من الاستعمار البريطاني.  في هذا السياق يروي صديقه الدكتور عبده بدوي أن باكثير كان يردد “سأهاجر إلى بلادي، لأن أكون راعي الغنم في حضرموت خير لي من هذا الصمت المميت في القاهرة، أنا مت حين أبعدت عن المسرح ولكني لم أدفن بعد”. و كانت هجرته وعودته بعد عام واحد من الاستقلال في عام 1968م و لكن كانت الصدمة كبيرة؛ إذ وجد أنه لم يتغير شيء ولم ير باكثير الأمل في النظام الحاكم آنذاك. و يحكي والدي الدكتور عبدالله بن نبهان أن باكثير زار عائلتنا في ببيتهم الكائن بمنطقة دمون بتريم  وكانت تربط باكثير بعمّ والدي علي أحمد بن نبهان صداقة متينة. خلال تلك الزيارة قال باكثير: “إن الطبقة الحاكمة في اليمن في صراع حول السلطة وليس لديهم هم البناء”. وحينها هم باكثير بالعودة محملاً بخيبة الأمل فيما آلت إليه الأمور في بلاده و في رحلة العودة مرّ على الكويت وعمل مقابلة في إذاعة الكويت حيث قال فيها:

العمل الفني لعبير الحضرمي

“لقد وجدت هناك اتجاهاً لا أرضى عنه يسيطر على الصحافة وأخشى على البلاد منه”.

فسأله المذيع: وهل حذرت منه؟!

فأجاب باكثير بصوت عال: “نعم وفي كل مكان”.

عاد باكثير إلى القاهرة في ذات العام  وفي العام الذي يليه.  و بعد زيارة إلى لندن عام 1969 التقى بالمستشرق البريطاني روبرت سارجنت و الذي كان قد عرض عليه العمل كمحاضر في جامعة لندن 1962 . رحب سرجنت بباكثير و أخبره بأنه يستطيع بدء العمل من بداية العام الدراسي الجديد أي بعد خمسة أشهر من رحلته إلى لندن. و  تلقى كذلك عرضا من إذاعة لندن للتعاون في برامجها الأدبية. غير أن باكثير حينما عاد إلى مصر لم يستطع تركها وذلك لارتباطه الشديد بها حيث كان فيها بزوغ فجره وازدهار أدبه وشهرته وقال لأصدقائه: ” والله لم تضق بي أرض مصر الكريمة ولكن ضاقت بي بعض الصدور اللئيمة”.

وبهذا أكمل الأديب علي أحمد باكثير آخر فصول حياته والذي اتسم بالعزلة في أرض الكنانة بمصر .  خلف باكثير وراءه أرثا عظيماً من الأدب في  المسرح والرواية. كان هذا الأديب المبدع والمجتهد صاحب ريادات كثيرة أبرزها في الشعر المرسل والمسرح الرمزي. وكان إلى جانب كونه أديبا مصلحا اجتماعيا وصاحب فكر ودعوة في حدود بلده و في إطار أمته العربية والإسلامية الواسعة التي أخلص لها حتى آخر لحظاته، وأعماله الخالدة خير شاهد على ذلك.

أسلم علي أحمد باكثير روحه إلى بارئها بمصر في غرة رمضان عام 1389هـ الموافق 10 نوفمبر 1969م.

 هذه إطلالة بسيطة على عالم باكثير المترامي الأطراف، وهي تنطوي على  دعوة إلى الباحثين والمهتمين إلى تسليط  الضوء على الدور الإصلاحي والفكري للرائد باكثير . وهذا أقل ما نقوم به تجاه هذه القامة الكبيرة، وفي ذلك تخليد لدوره و تذكير بروائع أعماله.

 

 

 

نبهان عبدالله صالح بن نبهان ناشط مهتم بقضايا المجتمع المدني  والشأن الثقافي.

اظهر المزيد

Nabhan bin Nabhan

A civil society and cultural activist.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى