أدب
أخر الأخبار

صورة المرأة في الشعر الشعبي التهامي

يحتل الغزل بموضوعاته وتنويعاته المختلفة مساحة شاسعة في الموروث الشعبي التهامي ، بل إنَّ كثيراً من أشكال هذا الموروث قد اقتصر على الغزل دون غيره ، كالشعيبي و الطارق و الفـّرّساني و القصائد اليمانية و غيرها .

أما سبب ذلك فيكمن في حضور المرأة في الواقع الاجتماعي التهامي ، ذي الطابع ريفي ،الذي يتشكل في معظمه من بيئات زراعية ورعوية ، حيث كان للمرأة حضور قوي في الحياة الاجتماعية والعملية ، فهي أمام أنظار الرجل تشاركه الحياة و العمل في الحقل والمرعى ، بل وتشاركه في الاحتفالات والمهرجانات الشعبية ، وهناك الكثير من الأغاني والرقصات الشعبية الجماعية التي يشترك في أدائها الجنسان خاصة في منطقة الشام التهامية .

ومن هنا فإن هذه الورقة المتعجلة تحاول مقاربة صورة المرأة في الموروث الشعري الشعبي التهامي ، في تجلياتها على مستويي المعالجة الشعرية والموضوع الشعري.

ففيما يتعلق بالمعالجة الشعرية فإنه على الرغم من حضور المرأة في الواقع الاجتماعي ، إلاّ أنها غابت تسمية ً عن الواقع الشعري ، فالشعر الشعبي التهامي برمته يكاد يخلو من أي ذكر صريح لأسماء النساء   ( فاطمة ، عائشة ، هند … إلخ ) وعوضاً عن ذلك نرى الشاعر الشعبي التهامي يعمد إلى واحدة من الطرق الثلاث الآتية :

1-إما مخاطبتها أو الحديث عنها أو الإشارة إليها بإحدى الصفات العامة التي تصدق على  كل محبوبة، مثل كلمة ( زَخْمْ ) التي تشيع كثيراً ، وتعني في اللهجة التهامية (الجميل ) كقول بعضهم :

وا ( زَخْمْ ) ما حِبَّك الاَّ أنا
لانتـَه شاتجزي امعظام ذانا
 ومالك من الناس لا ملّوك
ولا نتـَه شاتبيع ، عَبْدْ لك مملوك

ومثل كلمة ( خِل) نحو :

ياليل لي (خِل ) إن قرّبتْ يبعدنا قصدي أنا سُعْدُهْ و الخل يتعبنا

ونحو :( خو القمري ) في قول بعضهم :

من كذا امطروح
من ( خو امقمرى ) شقيق الروح
 مثلي مريض الهوى لاونْ
تبات نِسَمْـتي تزول لا ونّ

ونحو : ( خيَّ امغزال ) :

(خيَّ امغزال ) هدّ من خبتُ
لـهْ شاكلين عادها نبتُ
 يدبِّزْ بفدعين سماحْ ارطابْ
كزاكي امحِمْلْ في امّكتابْ

ونحو : ( فن ) أو ( فنان ) اللتين تشيعان كثيراً في شعر ابن غازل ، مثل قوله :

أنظر إلى حال الهوى كيف يفعل
ضيّع شبابه في هوى ( فن ) واكحل
و هكذا ( الفنان ) لا ودّ يبخل
 كم من متيم ذاب وانحل عظامه
أسمر مدلل فوق خدّه شامه
يسبي العقول من ضحكته وابتسامه

ونحو : ظبي ، جؤذر ، غزال ، قمر … إلى آخر تلك الصفات .

2- أن يخاطبها أو يشير إليها بإحدى الصفات الخاصة التي يرى أنها تتميز بها هذه المحبوبة ،  نحو قول بعضهم :

وا مايس القـّدّ مِنْ يانكْ ؟
دبشتْ لولك بمرجانكْ
وذا الحسن كم شا تهَبْ تخفيهْ
وريقكْ دوى للعليل يشفيهْ

ونحو قول حسين نهاري :

أمتوِّهْ يقول : راعي امعيونأمفواتر قتلنا ، وانا علي

ونحو قول أحدهم :

وا مَنْ لـه امحاجب القى اعكفْ
ما دام أنا أهواه ولا انكاه كفْ
أمخطفْ لمحارسي كُفـّهْ
هو امكف وانا بنان كَـفـّهْ

وقول آخر :

حُسن امّبرقع رج
وعاده بدءُ السنهْ الاّ هَرَج
في الأرض حتى السماء رجّهْ
شامد قال لي : سنه رجّهْ

3- أن يُرمَز للمرأة بأحد الرموز المعروفة ، و يلاحظ أن الشاعر التهامي يُحسن استخدام الرمز المناسب لسياق تجربته الشعرية والعاطفية ، مثل كلمة ( طير ) في هذا النص الذي يشكو فيه الشاعر من عدم وفاء محبوبته وتنقلها بين المحبين :

دخلت بستان قصدي أشوف طيري
لقيت طيري يشرب من هوى غيري
فقلت يا طير ليه تشرب من هوى غيري
قـلي زمانك مضى ، روح دوِّرْ على غيري

ومثل كلمة ( جوفيه ) – وهي الجنبية أو الخنجر اليمني الغالي الثمن المنسوب إلى الجوف – في هذا النص الذي يشير فيه صاحبه إلى أنَّ حبيبته عزيزة المنال ومن فئة إجتماعية راقية :

يا جوفيه في قصر عالي منوَّرْ
لو ريت جبينك أحسب الصبح نوَّر
مثمَّنة حين اشتريتك لقلبي
ريتك معي حتى يوافي الأجل بي

و من الرموز المألوفة في التراث الشعبي التهامي كلمة ( غصن ) مثل قول السيد شعيب :

وا غصن ساط امعكار مالك رابي

و كقول آخر :

يا غصن ما فيك اللوا ، عدل ساني
أنظر لروحي ذاهبه عاد لساني
من ذا الذي مسَكْ بعودكْ وناشكْ ؟
كل العوالم ما تحبَّكْ واْنا شاكْ

و كما غابت المرأة عن الواقع الشعري التهامي تسمية ، فقد غابت – أيضاً – تشخيصاً ، فقد دأب الشاعر الشعبي التهامي ، عند مخاطبة المرأة أو الحديث عنها على استخدام الضمائر المذكرة     ( لـَـك ، لـَـه ) بدلاً عن ضمائر التأنيث نحو :

لـه مبسمُ مثل مضربْ لوحْ
و لـه شاكلين عادها مطروحْ
وطرفين كلول امصَدَفْ لاونْ
لا كدن بزنْ حد ولا لاونْ

ونحو :

وا من لك امشكل بازغ صم
حُبّكْ سكن في امفؤاد واعصم
أول جنى امعلب ما احلى أكله
وامقلب ذاب وامحشى واكله

و نحو :

يا بو جعودٌ حاليه حتت المسك

 

مضمون مامَّسه ظهيره وشمسي

ونحو :

وابو حواجب سود و ترامشن لي … إلخ

و لإن غدا غياب المرأة تسمية وتشخيصاً ملمحاً أسلوبياً يميز الشعر الشعبي التهامي ، فلا شك أن ثمَّة عوامل موضوعية تقف وراء ذلك ، لعل أهمها الخوف من الوقوع في الحرج الاجتماعي ، كون هذا الشعر يشيع وينتشر في بيئات محددة وذات طابع ريفي وقبلي محافظ تسود فيه مفاهيم الشرف والكرامة والغيرة فيلجأ الشاعر إلى الرمز و التعريض والكناية بدلاً عن التصريح والحديث المباشر .

العمل الفني ل رفيدا أحمد

 

أما على مستوى الموضوع الشعري فيمكن أن نكتفي باجتلاء صورة المرأة في الموروث الشعبي التهامي من خلال رصد ثنائيتن ضديتين هما : ( المعشوقة / العاشقة ) و ( المغدوربها / الغادرة ) .

3.1- المعشوقة / العاشقة  :-

ففي الموروث الشعبي التهامي يتصدر الموضوع العاطفي من حيث كثافة الحضور بقية الموضوعات والأبعاد الأخرى ، وتحتل المرأة المعشوقة المساحة الشاسعة من هذا الموضوع .

وقد تعددت اتجاهات الشعراء الشعبيين واختلفت نظراتهم تجاه هذه المعشوقة ، فمنهم من اكتفى بالحديث عن لوعة الحب والتعبير عن لواعج الشوق ومرارة الحرمان ، ومنهم من راح يسرد مغامراته الليلية للقاء المحبوبة بعيدا عن أعين الرقباء ، ومنهم من اتجه نحو الوصف الحسي لمفاتن الحبيبة وتعديد مواطن الجمال في الجسد الأنثوي كقول البطاح الأعرج :-

لمِهْ بليتْنا بكْ ، الله يبليكْ بي
الجعد أسودْ والحاجبين غرّهْ
والصدر بستان حاوي جميع افنانْ
والعجز مركبْ واسواق شمعدانْ
يا غصن مايس يا ندّ يا تبر ِ
وبارق امصيف من مبسمك يسري
عنب ورمان بين امنهود تجري
لو شاهده قيس لا قام من القبر ِ

 

ويلاحظ أن هذا الوصف المستقصى لمفاتن المرأة يشيعُ عندشعراء المنطقة اليمانية والوسطى ويكاد ينعدمُ عند شعراء المنطقة الشامية من تهامة .

وعلى الرغم من وجود بعض الأوصاف النمطية التقليدية المستهلكة ، سواءٌ كان الوصف مستقصياً لمفاتن الجسد كله أو قانعاً بالوقوف عند أجزاءٍ بعينها ، إلاّ أننا نلاحظ أن الشاعر التهامي يصدر في كثير من أوصافه عن اعتقاد راسخ وقناعة تامة بأن حبيبته تشكل نموذجاً مثالياً للجمال المتكامل كهذا النص مثلاً :

خِلـّي الذي في امكنانْ رُبِّي
وذا الحسن كم كامَـلهْ رَبِّي
رودُ عليهْ امقليص ساق صبْ
صفي من امْراسْ لمْساق صبْ

بل أنها – أحياناً – تكون مصدراً لجمال الطبيعة كقول الشاعر صالح تاجو:

جيد امغزال منـّكْواعيان لك بامسماج ماجنْ

 

لكن الفتاة التهامية لم تكتف بدورها التقليدي كمعشوقة وكموضوع للغزل وحسب ، بل كانت فاعلة ومبادرة أحيانا في التعبير عن مشاعرها وما يعتمل في داخلها من عاطفة ، لكن الحرج الاجتماعي الذي منع الشاعر العاشق عن البوح باسمها منعها أيضا عن التصريح بمشاعرها فلجأت إلى الكناية والرمز تخفي خلفهما مشاعرها وعواطفها كما فعلت هذه العاشقة التي رمزت إلى محبوبها بالعصفور ( امزعفور ) :-

بالله اشهدوا لي على امزعفور       قصقص جناحه بمه شينفر ؟

هيا يا بنات نتلاقى  له                  شنّمسكه في دنا  مزقر

                  (في دنا مزقر : في أي زقاق )

فهذه الفتاة تشكو إلى رفيقاتها هجر وانصراف حبيبها الذي ربما أصيب بالأحباط والكآبة من قسوة المجتمع وسطوة التقاليد الاجتماعية التي حالت دون تحقيق أحلامه فانكفأ على نفسه وقصقص جناحيه ثم هي تدعو رفيقاتها إلى مساعدتها في البحث عنه لعلها تلتقي به في أي زقاق وتعيد إليه الأمل مرة أخرى .

3 . 2 – المغدورة / الغادرة :-

وكما عاشت المرأة التهامية الحب الحقيقي عاشقة ومعشوقة ،فقد كانت أحيانا تقع ضحية للحب الزائف وفريسةً لبعض الذئاب البشرية الذين ينسجون من خيوط الوهم والعاطفة الزائفة مصائد للوصول إلى جسد المرأة كهذه الفتاة التي وقعت في حبائل أحدهم فلما قضى منها وطره تنكر لها وللجنين الذي في أحشائها :

   المرسم :     بي طعنتين في وسط جنبي ولا ادمن

                    وكلما هبيت له الدوا زاد والما

الردود :         طعنتني واليوم تقول لي وَلَدْ مَنْ ؟

                   واحنا تعاهدنا على الزاد والما

وأحيانا أخرى تنقلب الأدوار فتكون المرأة هي مصدر الغدر ، فهي الغادرة واللاهية والعابثة بمشاعر الرجل كهذه التجربة العاطفية القاسية التي مر بها الشاعر بلغيث القنبعي أحد شعراء جزيرة بكلان وسجلها في هذا النص :

المرسم :

أيضاً على شرّابته دار شفاف
ما يشربنّه إلاّ بمعنى وله كيف
بُنْ في الدلاّت يتلافظ الماء
رتني معاهم في مقيل وسمرا

الرد :

قاضي الغرام في محكمه دار شفاف
فكري على ( المرت ) المؤمّن قرح كيف؟
محبوس حبس الزور واْتلاف ظلما
أكبّهم وأروح ( محايل ) و( سمرا )؟

[ والمَرْتْ أو الما رتينا باللغة التركية – هي البندقية ]

العمل الفني ل رفيدا أحمد

فالشاعر – كما تقول الرواية المصاحبة للنص(*) – كانت تربطه علاقة غرامية مع بنت أحد مشائخ بكلان التي كانت كما يبدو تقيم علاقات أخرى مع غيره , وعندما حملت سفاحاً من أحدهم ألصقت التهمة بالشاعر، ففي المقطع الثاني من النص يشكوا الشاعر من حبس الزور وتهمة الزور , ومن تعنت القاضي واتباع هواه في حكمه عليه , حتى كاد الشاعر أن يتلف ظلماً ويتمنى أن يرحل ( أكبهم ) إلى منطقتي محايل وسمرا لكن فكره مشغول يريد أن يصل إلى الحقيقة ويتعجب من هذه البندقية كيف قرحت – في إشارة إلى ضياع بكارة هذه الفتاة – وهو المؤمّن بالعهود والمواثيق الغرامية أو مؤمّن بالأخلاق والأعراف الاجتماعية .

أخيرا هذه بعض الخطوط العريضة لصورة المرأة في الموروث الشعري الشعبي التهامي حاولت أن تلم بها هذه الورقة المتعجلة لعلها بهذه الألمامة تلفت أنظار الدارسين والمهتمين إلى خصوبة الموضوع وحاجته إلى المزيد من الدراسة والبحث والله ولي الهداية والتوفيق .

 

 

 

 

 


 

  • ورد النص وذكر المناسبة في دراسة للأستاذ عبدالباري طاهر بعنوان ( الأدب الشعبي في المخلاف السليماني ) منشورة في مجلة الكلمة سنة 1973م .
اظهر المزيد

Khaled Al-Ahdal

was born in Zabid in 1965. He works as a lecturer in the College of Education in Zabid. He wrote his Master’s thesis on popular poetry in Tihama and his doctorate dissertation about the structure of speech in the folktale of King Saif ibn Dhi Yazan. Al-Ahdal is the head of the Yemeni Authors and Writers Union branch in Zabid, and he has two short story collections. The first, The Case of the Birth of an Ancient Cemetery, was published in 2000, and the second is called Modern Ogre.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى