ثقافةرأي
أخر الأخبار

الميمز؛ هل تصبح محاكاتنا الساخرة مصدرا للتاريخ ولبحوث العلوم الاجتماعية؟

This post is also available in: English (الإنجليزية)

على الرغم من تطور مفاهيم الحرية في أدبيات هذا العصر وتطبيقاتها على مجالات الإعلام، فإننا مازلنا نجد تحيزًا وصورة تنافي الواقع في طرح قضايانا من قبل وسائل الإعلام التقليدية؛ أي تلك المؤسسات الإعلامية المعروفة كالتلفاز، والجرائد، والإذاعات، و الانترنت. لقد بات في مقدورنا القول إن معظم الأطروحات الاجتماعية والسياسية التي تناقشها هذه الوسائل المؤسساتية لاتضع أمامنا الصورة الحقيقية لرأي المعنيين. والمعنيون هم فئة عظمى من الشعوب. غير أن هذه الفئة التي تشكل السواد الأعظم من سكان دول العالم تجد وسيلة أخرى تمكنها من وضع آرائها الحقيقية بصورة مجهولة كي لا تطالها يد القمع في ظل وجود نُظم ديكتاتورية يعيش في كنفها شباب كثيرون حول العالم!

الميمز، ومفردها “ميم”  هي وحدة نقل أو نسخ الأفكار. وهو مصطلح بدأ في علم البيولوجيا التطورية وتقاطع مع علوم طبيعية وإنسانية واجتماعية مختلفة مثل الأنثروبولوجيا والدراسات الثقافية. تعود أصول هذا المصطلح اللغوية- Meme-  للإغريقية وهو يطلق على تلك المفاهيم، الأفكار أو التصرفات التي تنتقل من شخص لآخر عبر المحاكاة. يستعمل الشباب المعاصر هذا المصطلح في سياق آخر ككلمة تطلق على تلك الصور، و الفيديوهات، والنصوص المضحكة  التي تحاكي شأنا، أوهدفا أو رأيا معينا. تنتشر الميمز بسرعة عبر الانترنت. لم توجد حتى اللحظة أي كلمة معربة شائعة لهذا المصطلح وبات الشباب العربي يستخدم ذات الكلمة، وإن أطلقوا لفظة الجمع “ميمز” على المفرد في بعض من الأحيان.[1]

للميمز حضورٌ بين الشباب اليمني، لاسيما في خضم حرب خلقت العديد من القضايا، والموضوعات التي تعتبر بيئة خصبة لفعالية توجه فني كهذا. مع ذلك، و في كثير من الأحيان لا يتبنى هذا التوجه الفني رأيا معينًا أو واضحًا حيال كثير من تلك القضايا. وعلى حد تعبير البعض منهم، فإن الشباب اليمني يستخدم هذا الفن كثيرا بشكل عبثي، فهم لا يملكون هدفا تحريضيا أو توعويا بشأن مشاركاتهم تلك ولا يعدو ذلك سوى مهارة تجد طريقها بأسلوب ساخر للتعبير عن مشاعرهم، وآرائهم أو استياءهم  من الوضع الحالي. وهدفها الأهم والرئيس هو الضحك!

FunnyBeing.com الصورة بإذن من

تخلق العفوية التي يمارسها أولئك الشباب في صنع هذه الميمز صورة أقرب ما تكون للحقيقة عن الرأي أو الضمير الجماعي لهذه الفئة. والتي بدورها تجعلها مصدرًا مناسبا للدراسات والبحث. يقول أستاذ الحضارات الرقمية ريتشارد كلاي في هذا الشأن: “بعد نصف قرن  سينظر المؤرخون في هذه الميمز التي صنعت خلال أزمة البريكست وحملة ترمب الانتخابية، وسيستخدمونها برهانًا ليستنبطوا رؤية حول كيفية تفكير الناس في تلك الفترة الزمنية حول تلك النزاعات”[2]

رغم وجود محاولات فردية لصناعة الميمز في اليمن؛ إلا أنها لاتزال محدودة من حيث العدد والتعدد والانتشار. تحتكر صفحة صانة ميمز معظم الميمز اليمنية. صانة وهي لفظة بالدارجة الحضرمية اليمنية تعني حساء. ولربما تشير لتخصص الصفحة في جمع الميمز المختلفة كما تجمع مكونات الحساء ببعضها. تقف خلف صناعات هذه الصفحة مجموعة تضم العديد من الهواة، لهم خلفيات سياسية وانتماءات دينية متعددة. يتشارك هؤلاء مواهبهم بصفتهم الحقيقية أو بصفة مجهولة من خلال حسابات ذات أسماء مستعارة. تتقبل هذه المجموعة الصناعات على اختلافها، ولا يبدو أن هنالك خطوطا حمراء واضحة تفرضها الصفحة على صناع الميمز وهو ما يفسر التعارض المنطقي و الفكري والقيمي الكبير من منشور  إلى منشور آخر.

الصورة بإذن صانة ميمز

من يلق نظرة خاطفة على منشورات الصفحة، يجد أن الشباب يشاركون آراؤهم في مختلف القضايا ذات الصلة بالمستوى المحلي الصغير أو الوطني أو الدولي. استطاعت الصفحة أن تصنع لها أسلوبا خاصا باستخدام الدارجة المحلية و ملفات الوسائط ذات الطابع المحلي مما مكنها من جدولة مواضيع شائعة “ترندات” حول قضايا معينة يتعايش معها المجتمع اليمني. ناقشت الصفحة الاختلافات السياسية كالتوجهات الدينية ومنظومة العادات والتقاليد اليمنية وغيرها.

نجد مثلا، من ضمن منشورات الصفحة الحديثة، فيديو يتزامن مع أحداث عدن الأخيرة عند إعلان المجلس الانتقالي الجنوبي النفير العام ضد حكومة هادي. يتعاطى الفيديو بشكل هزلي وبسيط مع آثار هذه الأزمة على الصراع اليمني بكل أطرافه. يعتبر هذا الفيديو من أكثر المنشورات تفاعلا ليحصد مايقارب 5.5 الف مشاهدة وعدد من التعليقات، والمشاركات، والتفاعلات. ولربما يعكس هذا التفاعل ضبابية الرؤية للوضع السياسي كما نقلها الفيديو التي يتشاركها معه فئة كبيرة من المتابعين.

الفيديو بإذن من صانة ميمز

 

لا يبدو مستوى التفاعل إيجابيًا دائما مع منشورات الصفحة. وخاصة تلك التي تناقش الآراء الدينية، والتوجهات الجنسية، أو تلك التي تتعدى ذلك إلى المساس ببعض الشخصيات أو الطبقات الاجتماعية. يبدو لي من الملاحظة أن فئة لابأس بها من الميمز تتسم بالضبابية الاجتماعية، والسياسية، والدينية. وهو مايثير استياء جزء من متابعي الصفحة؛ إذ أنها –كما يبدو- تمس حاجزا مقدسًا أو خطًا أحمر لدى بعض المتلقين.

لدى الصفحة منصات رسمية موحدة على مواقع التواصل الاجتماعي وتوثق حقوق الملكية الفكرية غالبًا لصانع الميمز في منشوراتها. وهو مايجعل دراستها أمرًا سهلًا، على العكس من محاولات صناع الميمز اليمنيين الفردية. مع إيماننا بوجود هذه المحاولات من خلال ملاحظة انتشارها في وسوم ” هاشتاغات” رائجة يمنية أو في منصات المراسلة الفورية كوتساب وغيرها إلا أنه يصعب توثيقها لقلة انتشارها نسبيًا وغياب المعلومات عن صانعها.

يحتشد الانترنت اليوم بمنشورات بحثية تعتمد هامشيًا أو جزئيًا على الميمز كمصدر لدراستها وخاصة تلك الأبحاث المعنية بقياسات الرأي العام أو مستويات التأثير الأجتماعي. يختص الميم عن غيره من الموارد بعفوية صناعته وعفوية تناقله كما أن عنصر المجهولية وغياب حق الملكية الفكرية يسهم في جعل الميم غير منحاز في غالب الأحيان. الميم يعالج غالبًا قضايا مجتمعية معينة بطريقة ساخرة –وإن حملت فكرة سلبية في مضمونها- قابلة للرأي وسريعة الانتشار منشورة بدون مراجعة أو تدقيق أو ضوابط أو تدخل من طرف آخر غالبًا. وليست الميمز كالموضوعات الإعلامية الأخرى، فهي متحررة كليًا من سطوة المؤسسة والتنظيم المؤسسي. تنتشر الميم ويتفاعل معها المجتمع الافتراضي سلبًا وإيجابًا. وهذا يجعل منها مصدرًا حقيقيًا تفاعليًا مهمًا لقياس الرأي العام في مجتمع ما.

الصورة بإذن من صانة ميمز

تلك الصور لأشخاص حقيقيون!، و قد لايعني أبحاث الرأي العام ما يشوب هذه الحركة من سلبيات وتشويهات. و إن كان بعضها قد يدخل تحت طائلة المسائلة القانونية. الحرية الممنوحة في هذا المجال تفتح المجال لموجات التنمر على الأشخاص والعنصرية على الفئات والجماعات؛ وحتى الآن لم نجد صانع ميم خضع للمسائلة القانونية بعد انتشار ميمته المجهولة ومشاركتها لآلاف المرات. تستخدم هذه الصناعة صورا لأشخاص في وضعيات لربما لا يرغبونها ولا يرغبون انتشار صورهم على ذلك النحو. في السياق اليمنـي الذي نتحدث عنه مر بي عدد من صور الآسيويين والأفارقة وظفت في محتوى قد لا يوافق أصحاب تلك  الصور على الظهور فيه. ففي هذا النوع من المحتويات أنماط من الإشارات والتضمينات العنصرية.  غير أن رغبة أصحاب هذه الصور  وحقوقهم لا تخطر على بال من وظفوها في تلك السياقات أو بال المتداولين لها.

في أوروبا  هناك سعي إلى إقرار قانون لمنع تداول الصور بصورة تخل بحقوق الملكية؛ وذلك لمنع تداول أي محتوى لايمتلك ناشره حقوق نشره بما في ذلك الصور التي تستخدم في صناعة الميمز، إلا أن ذلك القانون لم يجد طريقه إلى التطبيق بعد[3]. علاوة على ذلك؛ تتسم الحركة الميمية هذه بالذكورية، وعلى الرغم من وجود صانعات ميمز شابات فأنهن يلقين استهجانًا  من الذكور قد يرقى إلى درجة التنمر. وذلك لصعوبة تصور العقل الذكوري تواجد الشابات كصانعات محتوى و متابعات  في صنعة تقوم باستعمال محتويات بصرية وتعبيرات لغوية تُعدها النظرة الذكورية “فاحشة” إن استعملتها النساء ومقبولة أو “أقل فحشًا” حين يستعملها الرجال.

والسؤال الذي يفرض نفسه هنا أمام فقهاء الحقوق وباحثي الرأي العام هو هل يمكننا التضحية بحقوق الأشخاص المتضررين من هذه الصناعة من أجل الحفاظ على قاعدة ضخمة من البيانات التي يمكن أن يكون من شأنها التغيير في واقع العلوم الاجتماعية والإسهام في معرفة إيقاع الرأي العام ومشاعر فئات مهمشة عن وسائل الإعلام التقليدية؟. هذا السؤال الأخلاقي سيظل معلقا حتى إجابة شافية كافية، أما الميمز أو الميمات، إن نحن عربناها حسب القياس النحوي العربي، فهي في طريقها للانتشار.

الصورة بإذن من الكاتب

 

 

 

علي البطاطي، ناشط ثقافي مهتم بمجالات القانون والسياسة والاجتماع.

 

 

 

 


[1]ترجم للعربية من  قاموس ميريام ويبستر؛ بتصرف. Merriam Webster, Definition of Meme:  https://www.merriam-webster.com/dictionary/meme

[2] ترجم للعربية بواسطة الكاتب من المصدر الأصلي:

Chalk, W. (2019, September 6). Why We Need Internet Jokes and Memes More Than Ever. BBC News. Retrieved from https://www.bbc.com/news/newsbeat-49604745

[3] للمزيد عن التوجيه الأوروبي بحق المؤلف في السوق الرقمية الموحدة:

Reynolds, M. (2019, May 24). What is Article 13? The EU’s divisive new copyright plan explained. Retrieved from

https://www.wired.co.uk/article/what-is-article-13-article-11-european-directive-on-copyright-explained-meme-ban

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى