This post is also available in: English (الإنجليزية)
قبل فترة وجيزة كنت بصدد استقبال شحنة جوية من إحدى الشركات إلى مقر إقامتي، ولأنّي لم أكن أمتلك بطاقة ائتمانية تواصلت مع صديقتي لتستقبلها بالنيابة عنّي، لكنني واجهتُ مشاكل في استلام الطلب لأن الشركة أخبرتني بعدم تطابق البيانات المدونة مع بطاقة الهوية الخاصة بصديقتي، وبعد عدة اتصالات والكثير من الغضب، اكتشفتُ أنّ اللقب الذي نعرف صديقتي به لم يكن مُختلفًا عن الاسم المدون في وثائقها الرسمية فقط، بل كان ينتمي إلى منطقة تقف الآن مع الطرف العدوّ لمحافظتها الأم في اقتتال يمن اليوم. لم تكن صديقتي في حاجة للشرح أكثر، فالعبث الذي يطال أسماء اليمنيين شائعٌ منذ مدة طويلة. وكالعادة كان تغيير اسم العائلة بغرض الاحتماء من البطش بعد أن فرّ والدها من محافظة إلى محافظة أخرى ثم إلى خارج اليمن لينجو بحياته قبل أربعة عقود.
ورغم صغر الحادثة، وأقصد هنا اكتشاف انتحال أسرة صديقتي اسم العائلة، إلا أنّها نقرة أخرى على طبول الحرب اليمنية القديمة/الجديدة التي تطرح السؤال المُنتزع من قلب اليوم اليمني: لماذا كان إخفاءُ الأسماء وتغييرها وفبركتها سلوكًا يمنيًا رائجًا؟
جسم الحرب، ظل الدولة
للحديث عن دور القبيلة في اليمن طولٌ فارع قد لا يصل لآخره الجميع، كما لم تستطع أغلب الدراسات الاجتماعية والسياسية ذات العين الواحدة أن تُقدم مُنتجًا معرفيًا مُحايدًا عن دور القبيلة في اليمن برقعته الجغرافية الشاسعة وفي فتراته المضطربة منذ زمن.
لكن الأمر الذي لا مجال لإشاحة النظر عنه هو أنّ الاحتماء بالقبيلة، والفرار منها، والالتجاء لها، كان دائما صنعة يمنية، خاصة في وجود دولة هشّة لا تصمد طويلًا أمام التوازنات، والمطامع، وحسابات التاريخ والجغرافيا.
وللقبيلة هذا الثقل الجاثم على تروس المتحاربين، وعلى سطور اتفاقاتهم، وكان المواطن اليمنيّ “العادي” هو المسئول عن حراسة نفسه من هذه التقلبات الضارية و”خبط العشواء” التي لا تفترّ، وعليه أن يجد له فجوات لينجو خلالها من سطوة المنتصر، وفاجعة المهزوم، وقد تعددت هذه “الفجوات” ولكن أسهلها، أو هكذا كان يبدو هو الاقتصاص من الذات، من الاسم الشخصي، أو اسم العائلة، أو اسم أحد الأجداد، إما بالإضافة أو الحذف أو التعديل، بالتشذيب، أو الحلق، أو الصنفرة، ففي وقت الحرب كان ذلك يعني النجاة من الموت، وفي السلام يعني مكانة ما، بحجمٍ ما، في السُلطة الجديدة.
ولستُ هنا بصدد تحليل دور القبيلة وعلاقتها بالدولة بقدر الحديث عن ظاهرة أُفرزت كنتيجة طبيعية لهذه الشكل العلائقي الذي يربط بين الفرد/القبيلة/الدولة.
إنّ الصراع السياسي في اليمن لا يطال وجود المواطن اليمني الفيزيائي، بل أيضا وجوده الرمزي؛ اسمه واسم عائلته. لكي ينجو عليه أن يموت على مستوى ما، وهل هناك موت أثقل من التنصل من الذات!
يقول المُفكّر عبد الباري طاهر: ” ليس هناك سبب واحد لظاهرة إخفاء الأسماء في اليمن، هناك عدة أسباب منها مثلا الهرب من الثأر، كما حدث مع أسرة أحد جلادي الإمام أحمد بن حميد الدين، إذ قامت أسرته بإخفاء اسمها خوفًا من الملاحقة، وهناك أيضًا عشرات الأسر الهاشمية الذين قاموا بتغيير أسمائهم خوفًا من الانتقام مع تنامي الكراهية ضدهم آنذاك، وهناك أسباب لها علاقة بالانتقال من الريف إلى المدينة وما ينتج عن ذلك من تغييرات سياسية واقتصادية، فكما قلتُ هناك أكثر من سبب، ولكن تظل الأحداث الكبرى مثل الثورات والحروب هي السبب وراء ذلك”.
وتقول الباحثة السياسية ميساء شجاع الدين: ” مازال تقييم الناس في اليمن يتم بناءً على أصولِهم وهو أمر قد تجاوزته معظم المجتمعات الحديثة، ولكن مصطلحات مثل “ابن أصول” و”ابن ناس” و”ابن عائلة” مازالت في الوعي الاجتماعي اليمنيّ، إنّ الأمر قديم ومُعقد وأنا لا أراه أمرًا سلبيًا بالمناسبة، لأنّه عن طريق اسم العائلة يمكنك معرفة الكثير عن هذا الفرد، وفي النهاية كان التمايز بالألقاب قديمًا له سياقات مختلفة”.
يقول الكاتب والشاعر محمد عبد الوهاب الشيباني: “المجتمع اليمني لم يزل محكومًا بعلاقات ما قبل الدولة والمواطنة، وأعني تلك العلاقات التقليدية المتخلفة (العشائرية والقبلية والبدوية ) التي تعيد تمثيل أدواتها على أساس مناطقي وطبقي واضح في موجات الصراع المتعاقبة في البلد غير المستقر، لهذا لا غرابة أن يتمترس الكثير من السكان خلف هويّاتهم، بما فيها أسماء العائلات التي توفر للأشخاص والمجموعات أنواعًا متعددة من الحماية الاجتماعية والسياسية، وبمقابل ذلك ايضًا يعمد آخرون الى إخفاء ألقابهم وانتماءاتهم حتى لا تنقلب وبالاً عليهم في ظل أوضاع محكومة بالضغائن والدم، أمّا النوع الثالث فيعمل على إضفاء انتساب جديد لعائلته لاكتساب منفعةً ما كان ليحققها لولا هذا الانتحال”.
ويؤيد الرأي السابق د. عادل الشرجبي، أستاذ علم الاجتماع في جامعة صنعاء، الذي يقول:” إنّ ظاهرة تغيير الأسماء قديمة في اليمن، حدثت في عهد الإمامة، وحدثت بعد خروج الأتراك من اليمن، وحدثت في الفترة التي تلت حرب 1994 بين الشمال والجنوب، وهي تدل على أننا مازلنا نعيش في مجتمع تقليدي، يتم تقييم الفرد فيه على أساس شخصي، ويتم تحديد مكانته الاجتماعية على حسب انتمائه العائلي والتقليدي”. ويضيف د. الشرجبي “هناك مناطق بعينها انتشر فيها ظاهرة إخفاء الألقاب مثل تهامة وإب وتعز، لأن فيها عدد كبير من المثقفين ومن الناشطين السياسيين، الذين كانوا ينشطون في أحزاب سرية، فكان الواحد منهم يعمد إلى إخفاء اسم عائلته حتى لا تعرف المنطقة التي ينتمي إليها، وكنا نستخدم الاسم الثلاثي بدون اللقب، يعني مثلا محمد عبده صالح، فارع محمد”
الهروب من عبء السلم الاجتماعي
يخضع المجتمع اليمني إلى التقسيم الطبقي من الأعلى إلى الأسفل. وهو تقسيم قديم تم تكريسه في شمال اليمن بقوة في عهد الإمامة. ولم تستطع دولة الجمهورية أن تقضي عليه رغم ما ورد في دستورها بأنها جاءت لـ “إلغاء الفواق والامتيازات بين الطبقات”.
فبينما يتصدر السلّم السادة الهاشميين وحاشد وبكيل في شمال الشمال، يقع في أدناه، قبل طبقة الأخدام أو المهمشين، بعض من يمتهنون مهنًا بعينها مثل الجزارة والحدّادة والحلاقة وغيرها، ويُطلق عليهم لقب “المزاينة”. وما يجعل الأمر أكثر تعقيدًا أن المناطق اليمنية لا تتفق حول علو ووضاعة ذات المهن!. فمهنة الحدادة في صعدة لا تُعتبر مهنة ناقصة، بينما لا يرى أهل حضرموت هذه المهنة كذلك.
فإذا أضفنا لذلك أنّ اليمن تتلقفه فكوك الحرب منذ نصف قرن فإننا ربما نستطيع تخيل ما يمكن أن يُمليه العيش في اليمن على حياة أبنائه.!.
لقد عمد بعض من يوصفون بكونهم “مزاينة” إلى إخفاء اللقب أو إلحاق أنفسهم في أحد الألقاب من العوائل اليمنية الشهيرة وواسعة الانتشار التي لا يُمكن الإمساك بحقيقة الانتماء لها واعتماد الكُنى حتى في أسماء محلاتهم التجارية. “ومن هنا، تقوم بعض العائلات ممن ينتمون إلى فئات الـ”مزاينة”، كالجزارين والحلاقين بتسمية محلاتهم بالكُنى وليس بالأسماء الصريحة، فنجد هناك محلات بأسماء أبو أحمد، وأبو سامي، وأبو نزار”. كما يقول د.عادل الشرجبي.
ويرى الأستاذ محمد الشيباني أنّ تقسيم المجتمع إلى طبقات من الأعلى إلى الأدنى مرتبط بالوعي الثقافي المشوّه ” فالحلاق والجزار والحجَّام والمقشِّم (زارع الخضروات) والمقهوي (بائع القهوة) في عُرف هؤلاء (أي من المؤمنين بضرورة هذا التقسيم الطبقي) ووعيهم خلقوا ليمارسوا هذه المهن، التي يتأفف منها “الأسياد”، لهذا صار الكثير من هؤلاء المنتمين لهذه المهن يخفون ألقابهم، ويتركون مهنهم هروبًا من هذا التحقير الذي يطال أبناءهم في المدارس والحارات”.
في المقابل عمدّ كثيرون من معاصري الثورة والحداثيين إلى التخلص من ألقابهم التي تدل على القبيلة أو الجهة التي ينتمون إليها كإمعان في مناصرة الدولة المدنية المُشتهاة آنذاك، ويؤيد هذا القول أ. طاهر و أ. الشيباني.
جدير بالذكر أنّ الاحتماء قد يكون من الأعلى إلى الأسفل، خاصة في قضايا الثأر، فقد اختبأ بعض أبناء القبائل من الموت الثأري عن طريق امتهان بعض المهن الوضيعة؛ إذ يرى الخصم أنه أرفع شأناً من أن ينتقم من شخص يقع في أدنى السلم الاجتماعي!
التمسّح بالسلطة الجديدة
بعد كل صراع عسكري في اليمن يتصدر تغيير الأسماء قائمة طويلة من التغييرات الاجتماعية التي قد تطال مناطق معينة أو فئات اجتماعية معينة. يحدث ذلك من أجل التمتع بالامتيازات التي يتيحها الانتصار المؤقت غالبًا. وقد ساعد عدم حصول عدد كبير من اليمنيين على شهادات ميلاد خاصة في الشطر الشمالي من اليمن على سهولة تغيير الأسماء، وانتحالها، ودمجها، بالإضافة إلى تفشي الرشوة بجميع مقاساتها في كل البلاد.
يستدعي د. عادل الشرجبي هنا ظاهرة تلت حرب 1994 عندما قام بعض أستاذة الجامعة بتغيير أسمائهم وإضافة ألقاب تنتمي إلى مناطق شمال الشمال للاستفادة من الانتصار العسكري آنذاك. ويقول عن ظاهرة “العبث” بالأسماء أنها كانت تختلف “حسب الفترة التاريخية، وحسب الطبقة الحاكمة التي سيطرت على السلطة. حيث حاول الهاشميون بعد ثورة سبتمبر أن يحموا أنفسهم بتغيير ألقابهم العائلية، وفي الثمانينات حاول أبناء تعز وإب أن يخفوا أسماءهم، أو ألقابهم العائلية، وهناك بعض العائلات التي غيرت طريقة نطق لقبها بحيث لا تُحسب وفق انتماءات تقليدية معينة. في فترة الحرب الحالية هناك من استخدم ألقاب قديمة لم يكن يستخدمها، وأعلن انتمائه لمناطق أخرى بينما هو يقيم في مناطق أخرى إما ليحمي نفسه، أو ليحصل على امتيازات، فهناك بعض الأسر في إحدى المحافظات الوسطى قامت بشراء ألقاب هاشمية بصكوك رسمية من النظام الإمامي!”.
وتقول الباحثة السياسية ميساء شجاع الدين: “إنّ غياب المشروع السياسي لدى أطراف الصراع في اليمني هو السبب في تأجيج مسألة الهوية، فإذا نظرنا إلى الحوثيين، ما هو مشروعهم السياسي؟ لا شيء. لذلك فإنهم يأججون الصراع على أساس الهوية الهاشمية. ونفس الأمر ينطبق على المعسكر الذي يقول بأنّه يُعارض الحوثيين لمصلحة النظام الجمهوري فليس لديه هو الآخر أي مشروع سياسي أو اقتصادي وهو بالتالي لا يُدير المعركة بشكل مختلف عن الحوثيين فيضغط كثيرًا على فكرة الصراع بأن الهاشميين اغتصبوا السلطة من اليمنيين وأنهم يحكمونا منذ ألف سنة، أي لا يقومون سوى بتصعيد خطاب الكراهية، وهناك عمومًا تصاعد لأزمة الهوية منذ حرب 1986 في الجنوب وحتى الآن، فالصراع السياسي بطبيعة الحال يتداخل مع البعدين الاجتماعي والمناطقي”.
يقول أيضًا الأستاذ محمد الشيباني:” بعد ثورة سبتمبر 1962 عمد الكثير من أبناء الأسر الهاشمية إلى إخفاء ألقابهم العائلية، خوفا من التنكيل والاضطهاد فكان الشخص المنتسب لبيت حميد الدين بقرابة بعيدة يكتفي بـ “حميد” وكذلك “شرف ” بدلاً عن شرف الدين” وهكذا، لكن مع الظاهرة الحوثية بدأ البعض يتحسسون انتماءاتهم السلالية وألقابهم العائلية ويكابدون لإبرازها لأنها صارت تحقق لهم مكانة اجتماعية وسياسية في ظل سلطة تكرِّس هذه الظاهرة وتمدّها بالحياة. أعرف كثيرين منذ سنوات طويلة بأسمائهم وألقابهم القروية البسيطة، وصاروا الآن – بعد سيطرة الحوثيين على مفاصل الدولة في شمال اليمن- ينتسبون في هوياتهم إلى بيوتات هاشمية كبيرة كالمهدي والمتوكل والشامي، ليحققوا من ورائها مكاسب أقلها الذوبان في جسم السلطة الطارئة”.
ويضيف:” بعد أحداث يناير في جنوب اليمن اضطر الكثير من أبناء مُحافظتي أبين وشبوة مثلاً إلى إخفاء هويّاتهم تجنبًا لعملية الإيذاء التي مارسها الطرف المنتصر على خصومه، لكنها صارت بعد جائحة الجنوب في 1994 مصدرًا للقوة والسطوة في المناطق التي أخضعها تحالف الحرب، وقبلها أخفى أبناء وأقرباء السلاطين والمشايخ ألقابهم ليتكيفوا مع الوضع الجديد الذي فرضته الثورة، لكنّهم بعد الوحدة بين الشمال والجنوب عادوا للمطالبة بسلطاتهم وثرواتهم التي أممتها الحكومة اعتمادًا على ألقابهم وانتماءاتهم”.
ثلاث موتات لحياة واحدة!
تحدثُت خلال الكتابة عن هذا الموضوع مع الكثير من اليمنيين، لكن أكثر القصص تأثيرًا كانت لمواطن يدنو من الثمانين، فضّل عدم ذكر اسمه أو ذكر انتمائه؛ يقول بأنه قام بتغيير اسمه ثلاث مرات، مرة لأسباب اجتماعية، وأخرى لأسباب سياسية، وأخرى لأسباب دينية. في المرة الأولى فضّل إخفاء اسمه غير العربي حتى يتوائم مع بزوع القومية العربية، وفي المرة الثانية قام بإضافة لقب في وثائقه الرسمية ينتمي لأحد محافظات اليمن الوسطى لينجو من القتل ولينجو بأسرته من جنوب اليمن الذي كان تحت حكم الحزب الاشتراكي وليدخل اليمن الشمالي ومنه إلى دول الجوار، وقد تحفظ عن ذكر تفاصيل المرة الثالثة لأسبابه الخاصة. لقد تعرض هذا الرجل للكثير من المواقف المحرجة، والمؤلمة، والخطيرة، والمُهينة لكنه يقول اليوم بأنّه لم يعد يشعر بالألم من هذه الأحداث الثلاثة، فقد كانت نجاته وعائلته أثمن من أي شيء آخر!