This post is also available in: English (الإنجليزية)
ينظر للوقت الذي بدأ بعده التنازلي لوجوده بينهم، إنه وقت طويل، ولكنه يراه مهترئاَ كملابس قديمة يرتديها منذ الأزل ولم يستطع تبديلها!
حتى أقلامه بدأت تجف عن البوح، و أوراقه لم تعد تتقبل ما يسطره من أنين حياة التزم فيها بما يُملى عليه، كيف يتكلم، و يلبس وكيف يفكر.
لقد استحالت الحياة قيودا تخنقه. أصبح غريبا عن بيته، عن عمله، عن كل ما يحدث حوله، الألم الذي يشعر به الآن بعد كل هذه السنين لا يطاق، وها هو يقرر الآن أن يعتزل الناس وواقعه ويعود إلى ذاته التي ضاعت. ومع أول خيط لظهور الفجر بدأ يسير في الطريق المؤدي إلى خارج المدينة، لم يكن يشعر بالمسافة التي يقطعها بقدميه، لا شيء سوى الرياح ترافقه، والرغبة في الابتعاد.
وفي منطقة تتناثر فيها المنازل وسهول ممتدة من سنابل القمح، جلس متكئا على صخرة، يفكر في حياته وما الذي أنجزه، كل شيء معتم، ثار مرات كثيرة في تلك الأوقات التي كان يرى فيها صورته تختفي عن نفسه، محاولا أن يجدها وسط كل ذلك الضجيج، وفي النهاية استسلم للمشاهدة من بعد.
هل يترك كل شيء وراء ظهره ويرتاح، حياة لم توهبه ما كان يحلمه، بل أصبح ينحت في صخر لا أمل فيه. هل يقرر الرحيل، وعدم العودة؟
أمسك بهاتفه وهو يفكر لو أنه مات هل سيفتقده أهله وأصحابه ومعارفه، لكنه يعلم أن لا أحد سيأبه برحيله.. فما المانع لو أنه يرسل رسالة لأهله يخبرهم بموته.
ضج منزله من خبر موته وعلا صوت الصراخ والعويل فكان يحاول أن يميز الأصوات وسط ذلك البكاء! تجمهر جيرانه وأصدقاؤه، صوت المقرئ أضاف لوعة الفراق، الكل يسرع في تجهيز جنازته وهو يرى جسده مسجا عاريا، تصب عليه الماء يد الشيخ، يشعر بالسخط وهو لا يملك أن يصرخ، أو ينادي أبناءه ليخبرهم أنه ما زال موجودا، من أذن لهم أن يجردوه من ملابسه، ويضعوه على خشبة ليغسِّلوه من أخطائه، أليسوا هم أخطاءه؟
وبين جموع المشيعين خرج نعشه مبللا بأحاديث مودعيه، كثيرون هم من يراهم لأول مرة، ما الذي يجعل حواسه ممتزجة بين كلماتهم التي يحاولون انتقاءها للتعبير عن مآثره، هل الرحيل هو ما يعيد تكوينه بينهم؟
لم يكن ينال من حقيقته تلك إلا المتاعب، لم يصدق ما يسمع وهو محمول على نعشه، ما الذي حدث بعد موته؟ ما بال هؤلاء يكتشفون حقيقته وتلهج ألسنتهم بالدعاء له.
حاول النهوض ليعود إلى الحياة، التي قد تصبح أجمل حين أدرك هؤلاء حقيقة الصور المتعددة لحياته، ولكنه لم يكن يرى أمامه سوى سنابل القمح، وتلك السهول الواسعة، و يسمع تراتيل المشيعين في صور تنعكس في ظلال بعيدة. وهو يحاول اللحاق بجنازته .
سهير السمان كاتبة صحفية، وقاصة. تعمل مديرة لإدارة النشر في الهيئة العامة للكتاب. وهي باحثة أكاديمية في مجال النقد الأدبي الحديث. لدى سهير العديد من المقالات الصحفية الاجتماعية والسياسية والنقدية. و قد صدرت لها مجموعتان قصصيتان هما: (موعد آخر 2011) و (جزء من النص مفقود 2017). و لها مجموعة قصصية جديدة تحت الطبع.
* قصة قصيرة لـ”مجلة المدنية”