This post is also available in: English (الإنجليزية)
الكاتب والكتاب
مؤلف هذا الكتاب هو فريتس زيته Fritz Sitte (1924-2007م) صحفي وكاتب نمساوي عمل لدى عدة صحف غربية في مناطق مختلفة من العالم حيث ما وجدت الصراعات والحروب كأنغولا واليمن وتشاد والسودان وكمبوديا وبورما وأفغانستان. وعرضت تقاريره محطات تلفزيونية كـ BBC البريطانية و NBC الأمريكية و ZDF الألمانية. وقد صدر له ما يزيد على عشرين كتابا وثق فيها الأحداث التي عايشها في مناطق الصراع التي زارها ومنها هذا الكتاب الذي نحن الآن بصدد عرضه؛ اليمن: بؤرة صراع، الصادر عن دار كريماير شيريو، فينا- النمسا سنة 1973م.
Brennpunkt Jemen, Wien : Kremayr & Scheriau 1973.
أهمية الكتاب
ينقل لنا هذا الكتاب الأحداث التاريخية التي عايشها فريتس -الصحفي الأجنبي الوحيد في اليمن الشمالي حينها- أثناء زياراته لليمن بتفاصيل دقيقة ورؤية واضحة ومحايدة. ويغطي بالأساس ثورة 26 سبتمبر والعشر السنوات التي تليها بصورة واقعية وموضوعية تعلي من شأن هذا الكتاب وتجعله من أهم الروايات التي تعرضت لتلك الفترة. وما يميز هذه الرواية هو أنها لم تكن أسيرة لسرد وجهة نظر النخبة العسكرية والسياسية أو وصفا حالها بل تعدى الكتاب ذلك إلى نقل صورة مفصلة وذات أبعاد متعددة عن تلك الفترة؛ فمثلا من طريف ما نقرأه في الكتاب حال المتسولين بل حتى حال الكلاب الضالة في مدينة صنعاء في ذلك الزمن. وما يزيد من أهمية هذا الكتاب في الوقت الراهن هو تشابه وضع اليمن ومعاناته اليوم مع تلك الفترة التأسيسية والحساسة من تاريخ اليمن. نجد في الكتاب، كما هي الحال اليوم على نحو ما، بلدا منقسما بين أطراف داخلية متنازعة ومتحالفة مع قوى إقليمية مشترِكة في الصراع بشكل مباشر وتزيد من تأجيج الصراعات الداخلية إلى جانب شركات أسلحة عالمية مستفيدة من كل هذه الفوضى.
بنية الكتاب وأسلوبه
يتألف كتاب “اليمن بؤرة صراع” من 30 مقالة، لم يتقيد الكاتب بتسلسلها التاريخي بل جعل الأولوية للحبكة التي تجعل روايته أكثر تماسكا. ولا شك بأن لدى هذا الكاتب حسا روائيا يجعل سرده أكثر تناغما وتشويقاً. تتميز بعض المقالات بدراسة قضايا اجتماعية واقتصادية يمنية مؤثرة مثل القات والنفط ووسائل النقل كالطيران وغيره. بينما تركز غالبية المقالات على الصراع الذي كان دائراً بعد الثورة بين القوى الجمهورية والقوى الملكية أو الصراع الذي نشب بين اليمن الجنوبي واليمن الشمالي والجهات الإقليمية المتورطة في تلك الصراعات كالسعودية ومصر وكذلك القوى العظمى متمثلة في الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي.
ونشير هنا إلى أن هناك 62 صورة فوتوغرافية فريدة التقطها فريتس بنفسه تزين هذا الكتاب وتختزل بين حوافها ما تعجز عن وصفه الكلمات؛ وهي بمثابة التعزيز الوثقائي المصور لما أورده المؤلف من أحداث.
وتنتهي رواية فريتس بـ “التصالح الكبير” الذي حدث بين اليمن الشمالي واليمن الجنوبي عام 1972م بعد المناوشات التي نشبت بين الطرفين وبعد أن ساءت العلاقات بين عدن وصنعاء بسبب ما قام به الجمهوريون من عقد معاهدة سلام مع القوى الملكية المدعومة من السعودية. ويروي لنا الكاتب في بداية هذا الكتاب واقعة مقتل المشايخ التي كانت كفيلة بالقضاء على أي فرصة لهذا “التصالح الكبير” من أجل توحيد اليمن، وسنتطرق لهذا الحدث في فقرة لاحقة من هذه المقالة. وبعد ذلك يقدم لنا فريتس مقدمة تاريخية مقتضبة عن “العربية السعيدة” تصل بنا إلى ثورة 26 سبتمبر 1962. ولأن الكاتب يقدم هذا الحدث الثوري التاريخي بصورة جادة ومجردة من صبغة القداسة القوموية، فإن هذه الرواية غير المألوفة ستكون بالنسبة للقارئ اليمني المشحون بالعواطف و الإيمان بسرديات الماضي المكرسة صادمة ومحفزة على التفكير. ونحن لا نستبعد ابداً أن الكاتب قد حبك روايته التاريخية هذه من مشاهداته العينية ومن مجموع الشهادات التي اطلع عليها وخصوصا تلك المتعلقة بالثورة، واسترسل في سرد هذا الحدث حتى هروب الإمام واندلاع الحرب الأهلية التي اشتعلت بعد ذلك بين الجمهوريين والملكيين. وفي خضم هذا السرد يتعرض الكتاب للتدخل المصري الذي كان ينتظر الثورة على أحر من الجمر وانتهى ذلك التدخل نهاية مخيبة للآمال عند تسليمه ملف اليمن للاتحاد السوفييتي ليتولاه بشكل مباشر.
امتزاج الشخصي بالموضوعي
بعد هذا السرد، الجريء في نقده لبعض رموز الثورة، الذي قدمه فريتس حتى الآن ينتقل بنا إلى تجربته الشخصية وتبدأ بدخوله إلى اليمن أول مرة. وهذه التجربة لم تبدأ بملامسة قدمه أرض اليمن بل بدأت قبل صعوده على طائرة خطوط طيران اليمن؛ ففي تلك اللحظات قرر فريتس المغامرة بحياته عندما عزم على أن يستقل طائرة متهالكة لا يمكن لأحد أن يصدق أنها قادرة على الحركة وهي تبدو كقطع من الخردة رُقِع بعضها بالبعض الآخر. ولكنها طارت بالفعل وغيرت وجهتها وهبطت في تعز لتذهب في مهمة خاصة إلى عدن وبالتحديد ذهبت كي تجلب صناديق الديناميت وتحملها إلى صنعاء المحاصرة. وانتظر فريتس في تعز الطائرة العائدة من عدن لتقله إلى صنعاء لأنها الوسيلة الوحيدة القادرة على اختراق الحصار الذي كان مفروضا على العاصمة حينها. عادت واستقلها ثانية، ثم يحكي أنها تعرضت لإطلاق نار كثيف قبل دخولها صنعاء وأنها أصيبت بطلقة نارية ولكنها لم تنفجر بما فيها من ديناميت وركاب. وما إن وصل فريتس إلى صنعاء حتى بدأ بالتجهيز لمقابلة الجنرال حسن العمري. وبعد أن أجرى لقاءه الأول مع الجنرال العمري، أذن له العمري بأن يرافق فرقة من الجنود ليوثق القتال حول جبل عيبان. وبعد أن التقى فريتس بعدة شخصيات وجمع ما يحتاجه من المعلومات جاء الوقت ليغادر صنعاء إلى تعز في مغامرة لا تقل إثارة عن مغامرته عند دخول صنعاء المدينة المحاصرة. وبعد وصوله إلى تعز ينقل لنا فريتس ما دار بينه وبين طبيب الإمام أحمد الخاص في اللقاء الذي جمعهما في المدينة التي كانت عاصمة للبلد. وبعد مغادرته إلى أسمرة استقل من هناك طائرة أخرى لتقله إلى أوروبا وعلى متن تلك الطائرة التقى بأمريكي يعمل لدى إحدى الشركات الأمريكية التي تنقب عن النفط في المنطقة. ويكشف لنا فريتس من خلال الحوار الذي دار بينهما، الجانب المجهول والغامض فيما يتعلق بثروة اليمن النفطية التي تحاول شركات النفط إخفاء أي شيء متعلق بها والاستيلاء عليها بأية طريقة.
وما إن يصل بنا فريتس إلى هذه النقطة من السرد حتى يعود بنا إلى قلب الصراعات الدائرة في اليمن دون الحاجة لمزج كل ذلك مع تجربته الشخصية. وهنا يبدأ فريتس بتسليط الضوء على جذور الصراع والتنافس بين اليمن الجنوبي والشمالي على السلطة. ومن وجهة نظر الكاتب، فقد نبت هذا الصراع في مدينة عدن التي كانت لا تزال قابعة تحت الاحتلال البريطاني. ففي عدن نشأت حركتان يساريتان هما جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل والجبهة القومية للتحرير. واستعر الصراع بين هاتين الجبهتين ما أدى إلى نزوح أنصار جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل إلى المناطق التابعة لليمن الشمالي. وفي نفس الوقت كانت هناك تيارات يسارية متطرفة في اليمن الشمالي تميل إلى الجبهة القومية للتحرير التي كانت أكثر تشدداً. وبينما كان الصراع الداخلي والإقصاء في الجنوب يزداد احتداماً كانت الظروف في الشمال قد زادت نضوجاً لترضخ القوى السياسية هناك للحل السلمي. فبعد لقاء سري جرى بين الجنرال حسن العمري والشيخ قاسم منصر توصل الطرفان إلى أن يلتحق الشيخ قاسم منصر بالقوى الجمهورية وهذا ما رجح قوة الجمهوريين العسكرية. واحتفلت صنعاء بقدوم قاسم باعتباره انتصار كبير للجمهورية. ولكن هذا التقارب بين الملكيين والجمهوريين زاد تأجج الصراع بين اليمن الجنوبي والشمالي.
وما إن أخمدت نيران الحرب الأهلية في شمال اليمن حتى فُجعت القوى الجمهورية بعدة أحداث مأساوية منها اغتيال الشيخ قاسم منصر الذي يسرده فريتس بمزيج من الواقعية والدرامية التي تأخذ بتلابيب حس القارئ. وبعد ذلك يروي لنا الكاتب قصة أفول نجم الجنرال العمري المأسوية بدقة لا نكاد نجدها في أي من مصادر التأريخ التي كُرست لهذه الفترة التأريخية. وما إن ينتهي فريتس من هذين “البطلين” اليمنيين حتى يروي لنا ما حدث بالكمين الذي نصبه القادة في الجنوب لعدة مشايخ من شمال اليمن اهتزت لفظاعته اليمن بأسرها. حيث قام الجيش الجنوبي بقتل ما يزيد عن 65 شماليا كان بينهم مشايخ نافذين وكان هذا الوفد متوجها بالأساس إلى جنوب اليمن للتحالف مع السلطة في الجنوب ضد السلطة في شمال اليمن. كانت هذه الحادثة سببا للاشتباكات التي اندلعت في المناطق الحدودية بين اليمن الجنوبي والشمالي والتي تمكن اليمن الشمالي على إثرها من السيطرة على جزيرة كمران الواقعة على الساحل الغربي بمحاذاة ميناء الصليف، وكان فريتس أول صحفي يقوم بزيارة هذه الجزيرة. ومن الجزيرة انتقل الى قعطبة لتغطية الأحداث التي كانت تجري هناك. حيث كان يبدو أن الطرفين على أهبة تطبيق شروط “التصالح الكبير” وتسوية كل العقبات من أجل يمن موحد. إلا أن هذا التصالح آل -كما هو الحال مع كل التصالحات الكبيرة في اليمن- إلى كمين آخر لا يقل فظاعة عن سابقه، نفذته القوات الجنوبية ضد وفد من المشايخ الشماليين وراح ضحيته هذه المرة حوالي 79 شخصا. وهكذا يكون فريتس قد عاد بنا من حيث ابتدأ لينتهي هذا الكتاب بدائرة مغلقة من الصراعات التي لا نهاية لها.
أما بالنسبة لشخصيات هذه الرواية التي يقدمها لنا فريتس فهي متنوعة بتنوع المقالات، فمنها الصحفي وكابتن الطائرة وموظف الفندق ونزيل الفندق والجندي والشيخ والمقاتل القبلي والقائد العسكري والطبيب والمتسول وغيرها من الشخصيات التي هي من الذكور. أما المرأة، فتكاد تكون غائبة تماما إلا من ذكر عرضي لها؛ مثلا عند ذكره لعدد العاملات في مصنع الغزل والنسيج الذي أنشأه الصينيون، وكذلك احتواء الكتاب صورة عروس يمنية. وهذا الغياب للمرأة في كتاب فريتس يعكس الواقع اليمني تقريبا في تلك الفترة. وتقوم بعض هذه الشخصيات بأدوار بطولية لا تقل عن الأدوار البطولية التي يقوم بها أبطال الروايات الخيالية. ولكن الفرق هو أن الأدوار البطولية في رواية فريتس أحداث تاريخية حقيقية والأبطال أفراد ينتمون إلى الواقع لا يخلون من العيوب وفي الغالب تنتظرهم نهايات مؤلمة متوقعة لمثل هؤلاء الرجال بموقعهم المقدر لهم في صناعة التاريخ وتحديد مسار الأحداث اللاحقة.
وفي آخر هذا العرض أود الإشارة هنا إلى أن هذا الكتاب قد ترجمه من الألمانية إلى العربية البرفسور محمود قاسم الشعبي أستاذ التأريخ والعلاقات الدولية في جامعة صنعاء وعمر عبد الله محمد الدعيس عضو هيئة تدريس في الجامعة الألمانية الأردنية، وسينشر قريبا.