ثقافةفن

أحمد بن أحمد قاسم: لمحة عن حياته وجهوده في تحديث الأغنية العدنية

This post is also available in: English (الإنجليزية)

هنالك فنانون ترتبط أسماؤهم بأسماء مدنهم وترتبط أسماء مدنهم بأسمائهم، أحمد بن أحمد قاسم من هذا النوع من الفنانين ارتبط اسم هذا الفنان بمدينة عدن وأصبح جزءا من تراثها ومعالمها المهمة كتراثها المدني وكقلعتها الشهيرة صيرة وكصهاريج مياهها العتيقة.

تقول ندى عوبلي: ” المسيقارأحمد بن أحمد قاسم فنان عدن الأول بامتياز أغنى الذوق الفني  للمستمعين وهو من أوائل من أدخلوا الفرق الموسيقية إلى بنية الأداء الغنائي في اليمن. و يُعد، بذلك، رائد التحديث الموسيقي في مجال الأغنية اليمنية المُعاصرة. و إلى جانب ذلك يُعد قاسم أول من أدخل الآلات الموسيقية الحديثة  مثل الجيتار وآلة “الاكورديون على الأغاني اليمنية.

جدد  قاسم بنية الأغنية في عدن وحاول تطويرها لتضاهي النمط الغنائي السائد في بعض المراكز العربية كمصر وبلاد الشام. كان، أبعد من ذلك، يطمح إلى الوصول نحو العالمية لكن الظروف الموضوعية في البلد لم تساعده على ذلك. لم تحفل الدولة ممثلة بوزارة الثقافة والجهات الأخرى المعنية بدعم  هذا الطموح الذي لن يستطيع أن يحققه بمجرد امتلاكه للموهبة.

حياته و ولعه بالفن

ولد أحمد قاسم  في 11 مارس عام 1938م في مدينة عدن جنوب اليمن. تمتع أحمد بصوت جميل منذ  حداثة سنه. كان  يؤدي الآذان في مسجد بانصير أحد المساجد القريبة من الحي الذي يسكنه في عدن. أحبت أمه صوته الشجي و كانت تأمل أن يكون مقرئا للقرآن وأن يتتلمذ على أيادي مشايخ الدين المعروفين في عدن في ذلك الحين.  ولهذه الغاية أرسلته لتعلم القرآن وحفظه لدى الشيخ محمد بن سالم البيحاني(ت.1972).  كان أحمد يُلحن القرآن وفقا لمقاماته المعلومة في التراث العربي مع ميل نحو الابداع في الأداء. وعندها، مثلما يروي أفراد أسرة أحمد قاسم، نصح الشيخ البيحاني الأم بأن تترك للصبي الطريق الذي يحب أن يسلكه ويرغب فيه. وحينها قالت الأم قولتها المعروفة في اليمن: “ظننت ظناُ فخاب ظني أردته شيخاً فخرج مغني”.

 العمل الفني بإذن من بسمة راوي
العمل الفني بإذن من بسمة راوي

 وعن صفاته تذكر لنا آثار علي ابنة الأخت الوحيدة للموسيقار أحمد قاسم ما سمعته من والدته أنه ” كان رقيق القلب مُرهف المشاعر طموحا وايجابيا في توجهه لايسمح للظروف أن تكون حجر عثرة في طريقه”.

وتضيف “كان لايزال طفلا عندما  اكتشفت أمه موهبته الفنية في المنزل حيث كان يأخذ المجلس الخشبي الذي كانو يجلسون عليه لتناول الغداء يطرق عليه عددا من المسامير ويضع عليها الأوتار التي تستخدم في صيد السمك ثم يأخذ من ريش الحمام ريشة يعزف بها”.

في أسرة متوسطة الحال نشأ  قاسم يتيم الأب و كان ترتيبه الأوسط بين إخوته الثلاثة. التحق بمدرسة بازرعة و تتلمذ على يد المرحوم يحيى مكي ليتعلم منه الكثير من الفنون الموسيقية كالعزف على آلة العود. ومن هناك بدأت عبقريته ونبوغه في التفتح ليشكل بعدها مع رفيقي دربه محمد عبده زيدي وعبدالرحمن باجنيد فرقة أحمد قاسم التجديدية التي كانت المنطلق الأساس لمسيرته الفنية الغنية.

 تأثر بالحوارات الثقافية حول الفن التي كانت تدور في الندوات الموسيقية والأدبية في مبارزعدن. وكان لتلك الجلسات والحوارات دورها في  تطوير الاداء الفني لدى قاسم وزملائه.

ابتعث لدراسة الموسيقى إلى مصر عام 1956م، فالتحق بالمعهد العالي للموسيقى، وحصل منه على شهادة الدبلوم عام 1960م. عاد  بعدها إلى مدينة عدن وكانت تشهد نهضة فنية في مجال الغناء؛ فأسس فرقة موسيقية في نفس العام، أطلق عليها اسم (فرقة أحمد قاسم التجديدية). أقام عددًا من الحفلات في مختلف المناسبات، كما قام بتسجيل معظم أغانيه، تنقل في عدد من دول الخليج العربي، مما أكسبه شهرة واسعة، ثم واصل دراسة الموسيقى في موسكو وباريس.

و إلى جانب الغناء خاض قاسم تجربة التمثيل السينمائي أثناء دراسته في القاهرة، فقام بدور البطولة في فيلم حبي في القاهرة مع الفنانة زيزي البدراوي الذي عرض في العام 1966. وما أشيع من أن الفلم لم ينجح  هو كلام عارٍ من الصحة؛ فالفلم نجح وتم عرضه في التلفزيون المصري و اليمني لكنه للأسف لم يحقق الايرادات المالية المتوقعه.

عزز أحمد قاسم تواصله الدائم  مع الفنان الكبير فريد الأطرش الذي التقاه في اليمن، وأتاح له الأطرش العزف افتتاحا لحفلاته في مصر. شارك قاسم في حفلات (أضواء المدينة) والتي كان يحييها كبار الفنانين في مصر. وحينها سجلت له إذاعة صوت العرب أغاني لحنها مستلهما الطرب الفني المصري في ذلك الوقت؛ ومن تلك الأغاني (الكوكب الساري) و (كم أحبك).

كان فريد الأطرش يحرص على مشاركة أحمد قاسم في احتفالات مواسم الربيع في مصر. وفي إحدى الحفلات المكتظة بالجماهير المعجبة بالموسيقار فريد الأطرش شارك قاسم بعزف رائع تسلل من وراء الستارة المستدلة على خشبة المسرح ليصل إلى الجمهور الذي ألهب القاعة بالتصفيق.

قاسم الأب و المسيقار المجيد

تقول نجاة الابنة الصغرى للموسيقار عن أبيها: “هو الجميل صوتاً وروحاً. هو الأب بكل مافي الكلمة من معنى. كان صديقي ومعلمي وقدوتي في الحياة. كل دروس حياتي تعلمتها على يديه. ببساطه كان معي في كل خطوة من خطوات حياتي”.

ولا تنسى نجاة يوم أن سقط مغشيا عليه وتحكي: “حضرت معه عدة بروفات وشاركتُ معه ببعض اللوحات الغنائية اذكر منها (قدر الشعب) للشاعر الكبيرعبدالله عبد الكريم وفي إحدى البروفات لهذه الملحمة الغنائية شاهدت مدى تفاني أبي وإخلاصه في عمله. فأثناء البروفات كان يجب أن يدقق على كل فرد من الكورال وكل فرد من العازفين كان لا يحب الخطأ أو التقاعس. وفي تلك البروفه نشز الصوت عند أحد العازفين؛ فتفاجأ الجميع بصوت أبي يصرخ بشدة ليسقط بعدها على الأرض. تملكني الرعب خوفاً عليه وكان هذا أصعب موقف شعرت به . كان أبي ملقى على الأرض هرع الجميع إليه ونُقل إلى المستشفى. وكان تشخيص الأطباء يشير إلى أنها نوبة قلبيه بسيطة”.

 وتضيف نجاة ” في تلك الفترة كنتُ أتعجب من تدقيق أبي في هذه التفاصيل. غير أني بعدما كبرتُ ورأيتُ أعمال أبي خالدة يترنَّم بها  الفنانون والناس عرفت سبب حرصه الشديد على ضبط الأداء”.

 الاسهام والتجديد  والميراث

 في أبريل الماضي 2017 أحيا بيت العود العدني ذكرى وفاة الفنان أحمد قاسم. وقُدمت في المناسبة عدد من مقطوعاته عزفاً على آلة العود أدَّاها أربعة من العازفين الشباب.

كثيرون هم الذين تأثروا بالفنان أحمد قاسم. ومنهم تلميذه الأول الفنان الكبير وعازف العود المرموق أحمد فتحي الذي ذكر في مقابلة تلفزيونية أنه كان معجبا بفن قاسم منذ صغره، و أنه التقاه للمرة الأولى وهو في  الثانية عشر من عمره عندما أحيا قاسم حفلا فنيا في مدينة الحديدة غرب اليمن التي ينحدر منها فتحي. حينها أصر فتحي على مقابلته وعرض عليه موهبته؛ فانبهر قاسم من عزف الطفل أحمد الذي أطلق عليه هو اسم أحمد فتحي. نصحه قاسم بالنزول إلى عدن وتنمية موهبته هناك. وبالفعل عمل فتحي بنصيحته وسافر إلى عدن ونزل في بيت قاسم الذي أولاه رعاية واهتماما كبيرين.

يقول الفنان الشاب عازف العود أمير عبدالله  الذي تأثر كثيرا بالموسيقار قاسم والذي شب على أنغامه ” إن قاسم أحد مؤسسي الفن العدني؛ سخَّر علمه وخبرته التي اكتسبها من دراستة في الخارج من أجل تحديث وتطوير الأغنية في اليمن.  وقد تميز فنه بالمزاوجه بين المقامات الموسيقية الشرقية و الايقاعات الغربية. وجمع بين الأغنية  الشعبية اليمنية والأغنية الطربية؛ فانتج توليفة جميلة و نادرة أضافت للاغنية العدنية إضافة نوعية”.

 ويضيف عبدالله “بخلاف معاصرية الذين كانوا يعتمدون على الموهبة والاحساس الفطري دمج قاسم موهبته واحساسه الانطباعي بالمعرفة النظرية العالِمة. ومن تجديداته أنه أدخل الأدوات الموسيقية الوترية و ألزم فرقته ارتداء زيِّ موحَّد و هو الأمر الذي لم يكن معمولا به في تلك الفترة. ومن هنا، بدت الأغنية العدنية بقالب مختلف تماماً و أصبح لها قواعد ومقامات فنية وصورة عرضية منظمة ونسقية  تربطها بنية لحنية طربية واحدة. فتجاوزت بذلك الصفة الشعبية إلى الصفة الاحترافية، و إنْ ظلت تغترف من معين الشعر الشعبي و ألحانه وايقعاته الغنية”.

 العمل الفني بإذن من بسمة راوي
العمل الفني بإذن من بسمة راوي

توفي الفنان أحمد قاسم بالقرب من مدينة ذمار في حادث مروري في 1 أبريل 1993م بعد أن قدَّم للفن اليمني روائع يتذكرها اليمنيون ويتغنون بها. ومنها ” من العدين يالله”، و ” يا عيباه” و ” أسمر وعيونه”، ” حقول البن” وغيرها الكثير.

اليوم يخشى المهتمون بتراث قاسم أنْ يضيع الأرشيف الفني له وسط حالة الفوضى والاهمال التي يعاني منها تلفزيون وإذاعة عدن والذي يعتبر المكان الوحيد الجامع لكل الأغاني والألحان التي قدمها هذا الفنان المجدد.

ومن هنا، فلا بد من التذكير بأنه لا بد من الوفاء للفنان أحمد قاسم الذي ظل وفيا لبلده. فقد  تغنّى للوحدة و تغنى لبسطاء الشعب ومثقفيه و تغنى لثورة الشعب في الجنوب ضد الاستعمار البريطاني وغنى لسبتمبر و أكتوبر وكان صدى أغانية أقوى من المدفع حين قال:

!صرخة المجد التليد من فم الطود العتيد هي نار وحديد .. ومتى كنا عبيد؟

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى