This post is also available in: English (الإنجليزية)
دمــــــــوع رجـــــل
كنت نائما، مستغرقا وأحلم بأشياء متداخلة، لا أتذكرها جيدا، لكنني أتذكر الهلع الذي أصابنا، حين أفقنا على صوت ارتطام قوي، فصل جزءا من بيتنا، كان صوتا قويا لمقذوف هز بيتنا، بل وكل المباني المجاورة، بعض أجزاء السقف سقط بجانبي، غبار ملأ المكان، صراخ أخويّ الصغيرين، أرى وجه أمي على ضوء مصباحنا الخافت، تحتضن أخويّ وتنظر إليّ. لست أدري هل تريد أن تواسيني، أم أن تستمد الصبر مني ؟!. كان الرعب يملأ قلبي، لكنني تجلدت ولم أصرخ ولم أظهر الفزع .
حين ودعنا أبي قبل القصف بأيام، قال لي:” لا تبك أبدا، أنت رجل البيت، اهتم بأمك وأخويك الصغيرين، أتعدني ؟” قلت نعم أعدك . أتذكر أنني أمسكت بقميصه، قلت له لا تذهب، ابق معنا، ولكنه أبعد يدي بهدوء وابتسم لي وقال :” من أجلك سأذهب، ومن أجلك سأعود!”.
كان أخوي التوأم يبلغان من العمر أربعة أعوام أما أنا فبلغت اثني عشر، صرت رجلا كما يقول أبي، علي ألا أبكي وأن أهتم بأسرتنا الصغيرة حتى يأتي إلينا .
وقفت، أخذت المصباح، اتجهت نحو الباب، فحاولت فتحه لكنه لم يفتح، ركام حجز الباب من الداخل، عدت إلى مكاني، كان أخوي الصغيرين قد هدئا ولكن وجه أمي مازال مرعوبا، قرأت في عينيها:”ماذا لو سقط مقذوف آخر علينا”؟
فقلت لها:”لا تخافي أمي، فقد نجونا والحمد لله”، هزّت رأسها ولم تنطق .
سمعت أنينا خلف الباب، فعدت مرة أخرى وحاولت فتح الباب ولكني لم أستطع، رأتني أمي أنازع الباب أتت إلي فجذبنا الباب حتى انكسر. تتبعت مصدر الأنين، أبعدت أكوام الطوب المتكسر، حتى وصلت، كانت تلك الطفلة هي هند ابنة جارنا علي، عمرها خمسة أعوام، جميلة وبريئة، رأيتها على ضوء مصباحي تبكي، وجرح في جبهتها ينزف قليلا، حاولت رفعها، ولكن إحدى قدميها عالقة، فذهبت لأحضر من يساعدني، كان الظلام دامسا، والمصباح إن استخدمته ستطالني رصاصة قناص، فهم يتتبعون الأضواء بالليل، أما بالنهار فهم يقنصون كل من رأوه بأعينهم التي لا ترحم . تلمست طريقي، ومشيت رويدا حتى خرجت من وسط الركام.
ناديت بعض جيراني وأتوا مسرعين، رفعناها من بين الركام ثم بحثنا عن باقي أفراد أسرتها، فوجدناهم كلهم، نعم كلهم، لكنهم كانوا قد فارقوا الحياة جميعا. هند الصغيرة مازالت تبكي، وحين تعلم صباحا أنها وحيدة في هذه الدنيا ستبكي أكثر، ولن تغفر لمن قتل أهلها ومزق حياتها.
كان ما تبقى من بيتنا آيل للسقوط، فسافرنا إلى القرية، عشنا في بيت طيني عمره تجاوز المائة عام، تلتصق به بئر كنا نستقي منها الماء تماما كما كان يفعل جدي .
فلحت الأرض ورعيت الأغنام، وركبت الجمل والحمار، وتسلقت الجبل المحاذي لبيتنا، أحسست بكثير من الحرية هنا، ولم يكن يفزعنا إلا أزيز الطائرات، فهي وإن كانت صديقتنا كما يقول لي أبي، إلا أنها تخطئ كثيرا .
كان الطريق بجانب المرعى، وحين رحل الحوثيون زرعوا الكثير من الألغام هناك، حذرنا الأهالي من المرور هناك، فقد انفجر لغم بأحد الرعاة، وآخر بحمار، أما الأغنام فكانت ضحاياه منهن ثلاث. لذلك فقد كنا نبتعد عن ذلك الطريق ونسلك بأغنامنا طريقا آخر يحاذي الجبل .
كثرت الجنائز التي تأتي إلى قريتنا من الجبهات، كل جنازة لها صفة أرض تموت بها، وكل جنازة يوقفونها قليلا أمام بيت صاحبها الميت، يودعها أهلها ثم تدفن بالمقبرة. دخل الحزن كل بيت، حتى أنني أكاد أسمع بكاء الأرض لفقد كل أولئك.
ذهبت السوق ذلك اليوم على حمار أسود، وعدت بكيس طحين، وعلبة زيت نباتي، وعلبة تونة كنا سنضعها على غدائنا، تعبت كثيرا في إقناع البائع، فقد كنا نستدين منه حتى يرسل أبي راتبه، والرواتب تتأخر كثيرا، كذبت عليه وقلت أن أبي سيرسل المبلغ غدا، الكذب خلق سيء، لكن الأسوأ منه جوع أمي وأخوي الصغيرين .
كان حماري بطيئا حين عدنا على غير عادته، فضربته بعصاي كثيرا كي يسرع. وحين وصلت أمام بيتنا كانت ثلاث سيارات تقف بجانبه، وجمع مازال صغيرا هناك، تشاءمت بل وزاد خفق قلبي، نزلت من على الحمار وركضت إلى هناك، سقطت الأغراض التي اشتريتها على الأرض.
الوقت ضحى، ولكني أرى ظلاما كئيبا يكسو بيتنا، حتى أنني أمشي ولا أدري أين أضع قدمي، “أهو أبي هذه المرة؟… لكنه وعدني أن يأتي من أجلي” “لا لا ، قد يكون رجل آخر”، ” لكنهم أمام بيتنا ” . دارت التساؤلات برأسي، ولم تنته إلا حين وقفت على جثمان أبي. كان مغطى بالكفن الأبيض ولا يظهر إلا رأسه، أمي تبكي على صدره، وخالي يجذبها ويقول “يكفي … الله يرحمه ، هو شهيد بإذن الله”. وقفت أمام جثمانه، وانهمرت دموعي بغزارة، تذكرت وعدي لأبي بأن أكون رجلا ولا أبكي، حاولت أن أكبح نفسي عن البكاء، لكنني لم أستطع …
هو أيضا قال إنه سيعود من أجلي ولم يستطع …!
قلب دافئ
في ناصية الشارع كنت تنادي
‘ثلاثة كيلو بعشرة”
وأحيانا
“اثنين كيلو بخمسة”
تدفع عربة خشبية صغيرة، بيديك القويتين، بيسر ودون أن تظهر على وجهك معاناة أو تعب .
حين رأيتك أول مرة سلمت عليك، واشتريت منك بثلاثة ريالات فقط. وقبل أن أمشي أعطيتني برتقالة أخرى، هدية منك.
لم تكن تلك البرتقالة هي التي جعلتني اشتري منك باستمرار، بل إبتسامتك التي تناديني بها، وحسن حديثك ، وحبي للبرتقال الطري الذي تأتي به أيضا.
“استغفر الله ، والحياة ستمضي”
قلتها لي حين رأيت وجهي مكتئبا
_ استغفر الله، هي ستمضي بكل الحالات ياصاحبي، وكل مُر سيمر حتما”
_ نحن مثقلون بالذنوب، وهذا الأوزار هي ما تجعل حياتنا عسيرة، الاستغفار يطهرنا ياصاحبي فنمضي وأنفسنا راضية مطمئنة .
كلما رأيتني غاديا أو رائحا في هذا الشارع، الذي حدثتني أنك جار له مثلي أيضا، تناديني ونتجاذب حديثا عابرا سطحيا أحيانا، وعميقا أحيانا أخرى ، وحين أتحدث عن العمق، قد يسخر مني البعض، فهم يرون أننا نحن البسطاء، لا نعرف معنى العمق في الحياة، وإن عرفناه فنحن نعجز عن ترجمته لكلمات .
حملت لك شايا في أحد الأيام، وجلسنا سويا على الرصيف، بينما نسائم باردة تهفو حولنا، تخبرنا بقدوم شتاء آخر، سيضرب عظامنا بزمهريره الجاف.
أخبرتني أنك من قرية بجبال البشتو الوعرة، تكسوها الخضرة في أوقات كثيرة من السنة، أخبرتني عن عاداتكم وعن زراعتكم ، وأسررت بأذني ” هناك من يزرع المخدرات” ، لكنك لست منهم، قلت وأنت تقهقه “ما كنت لأبيع برتقال على عربة مهترئة لو كنت منهم “
لم تقل لي أنك فقدت زوجتك، ولم تقل لي أنك كنت تاجرا فخدعك شريكك، وأخذ نصيبك كله، ولم تقل لي أنك تعاني من التهابات مزمنة في صدرك، وكل هذا عرفته من أقاربك ورفاق سكنك.
كنت تخبرني أن أولادك أربعة، ثلاثة أبناء وبنت واحدة، عددت لي أسماءهم، لكنني لم أحفظ سوى اسم “عائشة” ، تلك الطفلة التي تنظر للكاميرا وهي تلوح بكفيها، الصورة تخبرنا أنها ترحب، وتستقبل كل من ينظر إليها، ولا يملك إلا أن يحبها لبراءتها ، لجمالها، ولعينيها الدافئتين .
الصداقة تنشأ أيضا على الرصيف، ومن بين كل المارين حولك، كنت أنا صديقك، ولا أظنني مميزا بينهم، لكنها الأرواح التي تنجذب للبعض، وتنفر من أخرى ،
صافحتك منذ مدة، فكانت يدك حارة، وسمعت صوت أزيز صدرك.
“مابك”
“حمى والتهاب خفيف بالصدر …لا تقلق”
“دعنا نذهب للمستوصف..”
قاطعتني
“لا لا …أنا بخير وقد اخذت علاجا من الصيدلية”
“متأكد أنك بخير”
“نعم”
تركتك وأنت تهمس “استغفر الله ، استغفر الله..” تسعل قليلا ثم تعود لهمسك “
التفت بين كل مدة وأخرى، وقد رأيتك تجلس على الرصيف، بينما تستند بكتفك على عربتك الخشبية، ويدك ممسكة برأسك.
ما إن انتهى دوام عملي، حتى عدت بالطريق نفسه، وأنا أتمنى أن ألقاك، واطمئن عليك، لكنك لم تكن موجودا، وحين سألت أرباب المحلات الذين تقف أمامهم ، أخبروني أنك ذهبت منذ وقت مبكر، وكنت تمشي بصعوبة.
حاولت مرارا الإتصال بك، لكن هاتفك لا يجيب.
حين تنفس الصباح طرقت بابك طرقات متتابعات، ففتح لي رفيق لك، كان رجلا ضخم الجثة، له يدان ممتلئتان، ووجه منبسط، حياني بإبتسامة أخوية ، وأدخلني عليك .
كنت يا صديقي نصف نائم، ولكنك نهضت حين سمعتني، ورفعت رأسك ، وحين اقتربت منك وقبلت يدك، كنت تهمس لي
“أنا بخير ياصاحبي”
“الحمد لله “
كنت تقطف لي من قلبك اطيب الكلمات، وتنثر ورد ابتسامتك علي، رغم شحوب لونك، وآثار التعب البادية عليك .
هذه الراحة التي تهديها لي بكل لقاء، لا أجد عوضا لها، منذ أجبرك كفيلك على الرحيل إلى بلدك، لكنك تؤنسني بصوتك من حين لآخر:
“استغفر الله ، وستمضي الحياة !
ليس بالضرورة أن تمضي كأجمل ما يكون، ولا أن تمضي كما نحب، ولكنها ستمضي ونحن مطمئنون، الاستغفار طهارة، رضا، الاستغفار أمل يا صاحبي”
ها أنت ذا أمامي، خلف شاشة الهاتف يحوطك أولادك، والفرح يشع من عينيك ، وقلبي يبتهج لك، لكن كلماتي التي أعددتها لك لم أر من حاجة لقولها
“أفتقدك أنا وهذا الشارع، وأعمدة النور، والشاي الأحمر، وعربتك الخشبية”
أجمل ما عشته هنا هي صداقتك ، وخير ما سأحتفظ به هي وصيتك:
“استغفرِ الله وستمضي الحياة”
عيدروس الدياني : قاص يمني صدرت له مجموعة قصصية بعنوان ” انتقام صغير” عن دار لوتس، 2019م. وله قصص أخرى منشورة في مجلات ومواقع الكترونية مختلفة. للدياني رواية ستنشر مطلع العام القادم 2021م.