المجتمع المدني
أخر الأخبار

مهمشو اليمن وقرون من الإقصاء والتغييب

This post is also available in: English (الإنجليزية)

      “هرول بالفتى بعد أن أسلم الروح من طوارئ المستشفى الى المسجد القريب إثر تعرضه لحاث مروري، ووضعه عند المحراب حتى يتم الصلاة عليه بعد صلاة العشاء، رفض خطيب المسجد وكان أحد الزعامات القبلية والسياسية وعضواً في مجلس النواب، وأمر بوضع الجثمان في الخلف بدعوى أنه خادم لا يصلي ولا جماعته (أقارب الطفل) الذين أحضروه للمسجد. فثارت ثائرة خال الطفل وأصر على الصلاة عليه لوحده مندداً بالخطيب أن الأخدام الذين يتهمهم بعدم الصلاة هم سبب فوزه في الدائرة الانتخابية، ومحاججاً أنه لو كان الميت أبيض اللون ويعاقر الخمر فسيصلون عليه، فما بالك بطفل في الثانية عشرة لكنه خادم أسود اللون”.[1]

      “نحن بلا وطن، بلا جنسية، بلا حقوق. لا يعرفوننا إلا في الانتخابات. صوتي ثمنه قطمة أرز[2]، ” عندما ارتبط أحد المهمشين بفتاة من المجتمع إثر مشاعر متبادلة في جبل حبشي في تعز تم هدم منازل أو عشش 60 أسرة وطردهم وتشريدهم في 2013“.[3]

تتنوع ألوان زجاج قمريات المنازل في مناطق عديدة في اليمن بشكل قد يوحي بالتنوع الديموغرافي الاجتماعي والثقافي لبلد تأثر بكل الثقافات التي مرت عليه تاريخيا وأثناء الغزوات والحروب السابقة، لكن الحقيقة أن انعكاس أضواء القمريات الزاهي يظل انعكاساً للشمس لا علاقة له بالتشظي الاجتماعي والسياسي للمجتمع اليمني. ومن تلك الشظيات التاريخية فئة المهمشين إنسانياً ومجتمعياً وتاريخياً.

العمل الفني ل سعد الشهابي

تشغل قضية المهمشين مجتمعيا في اليمن حيزاً ضئيلاً من الدراسات والبحوث والتحقيقات الصحفية التي من حين لآخر تسلط الضوء على حادثة انتهاك مجتمعي أو التمييز المؤسسي ضد هذه الفئة وما تلبث أن تنطوي الصفحة دون أن يعقبها أي جهود جادة لبحث قضية الانتهاك أو لإثارة قضايا المساءلة والمسؤولية المؤسساتية والمجتمعية تجاه أنماط التمييز والإقصاء المتأصلة تاريخيا في جذور المجتمع.

من هم المهشمون

أصل هذ الفئة المقهورة يخالطه القليل من الواقع والكثير من الأساطير.  هنالك عدد من الروايات التاريخية، وبعضها متداول شفهياً في الأوساط الشعبية، حول أصل المهمشين من ذوي البشرة السوداء والملامح الأفريقية في اليمن. هنالك من يشير إلى أنهم ينحدرون من جيش الأحباش الذين قدموا لغزو اليمن قبل الإسلام بقيادة أبرهة الحبشي؛ أي في القرن السادس الميلادي، وهزموا على يد سيف بن ذي يزن وحلفائه من الفرس، وبقي البعض منهم في اليمن لكنهم تعرضوا للنبذ والإقصاء من حينها كرد فعل على انتهاكات الأحباش. وروايات أخرى تؤكد أنهم بقايا جماعات مدنية رافقت ذلك الاحتلال الحبشي لليمن وبقيت في اليمن. وعلى الرغم من ندرة الوقائع التاريخية الموثقة لأصل هذه الجماعة، فإن بعض المؤرخين كعبد الرحمن الحضرمي يرون أن الأخدام هم من بقايا الموالي الأحباش من دولة آل نجاح التي حكمت خلال الفترة (403 – 553 هـ/ 1012-1158 م).[4] وكانت أصول مؤسسها فاتك بن نجاح حبشية. ويقول محمد عبد الرحيم جازم:

 “نسب كل من حكم زبيد من الوزراء العبيد، وحواشيهم من العبيد إلى (فاتك بن محمد بن جياش بن نجاح) وهو آخر من حكم زبيد من آل نجاح الملوك العبيد، ومات مسموماً سنة 554 هجرية الموافق1159م، وعندما قضى علي بن مهدي الرعيني على دولة وزراء آل نجاح العبيد، تشتت ذراريهم وذراري حواشيهم في وادي زبيد فعرفوا في البداية بـ(عبيد فاتك)، وفي عصور تالية بـ(الأخدام)”[5].

المهمشون، كما جرت تسميتهم في الخطاب الحقوقي المعاصر، أو “الأخدام”، كما تشيع تسميتهم في الأوساط الشعبية، هم إحدى الفئات الاجتماعية الإثنية المغلقة والمنغلقة في أسفل السلم المجتمعي التراتبي والتي تطوقها عزلة اجتماعية خانقة لقرون عديدة. ويتسم أفرادها بملامح إثنية أفريقية كالبشرة السمراء والشعر الأكرت، ولكن أبرز ما يميزها هو التمييز والنبذ الاجتماعي لمئات السنين نتيجة لمعتقدات وأساطير حول سماتهم وسلوكياتهم الاجتماعية. ويختلط الخيال بواقع الإقصاء والنبذ في رسم الصورة الاجتماعية عنهم. كما تمعن الثقافة المهيمنة في تشديد خناق الحصار الاجتماعي عليهم. ويؤكد تقرير اليمن حول تنفيذ الاتفاقية الدوليـة للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري[6] أن سبب تهميش هذه الفئة هو أنها حُرمت تاريخياً من الاشتغال بالنشاط الزراعي ومن تملك الأراضي الزراعية وهي أهم الأصول الإنتاجية. فُحرمت بالتالي من المشاركة في القرار. وقد تخصص أفرادها في الخدمات والمهن الدنيا. واستمر الحال حتى بعد ثورة 26 سبتمبر 1962 حيث تم جلب العديد من أفراد هذه الفئة من منطقة تهامة وإيكال أعمال البلدية (تنظيف الشوارع) إليهم[7].  اليوم يمثل المهمشون السواد الأعظم من عمال البلدية ويعملون بدون عقود دائمة أو تأمين أو إجازات أو غير ذلك من الحقوق.

وقد كان أفراد هذه الفئة أكثر حظاً في جنوب اليمن خلال فترة حكم الحزب الاشتراكي، فبعد انتفاضة لعمال البلدية في مطلع سبعينيات القرن الماضي كان شعارها “سالمين قدام قدام.. سالمين محناش أخدام: في إشارة ومناشدة إلى الرئيس سالمين (سالم ربيع علي المتوفى عام 1978) خلال تلك الفترة.[8]  وبالفعل فقد صدرت بعض القوانين والإجراءات التي تحارب التمييز وتدمج هذه الفئة في المجتمع وفي أعمال مختلفة في جهاز الدولة، وتسّن عقوبات ضد من يمارس التمييز حيث اعتبر استخدام كلمة خادم جريمة يعاقب عليها القانون [9]، وقد اضمحلت هذه الإجراءات المساندة والقوانين مع قيام دولة اليمن الموحد وخصوصاً بعد العام 1994. وعلى الرغم من أن دستور دولة الوحدة ينص على أن جميع المواطنين سواسية أمام القانون، فإنه لا يوجد حتى اليوم أية إجراءات أو قوانين من شأنها معالجة التمييز الاجتماعي ضد المهمشين بصورة خاصة، وتجريم عزلهم والاعتداء عليهم وتعنيفهم مادياً أو رمزياً.

يتعايش غالبية المجتمع اليمني مع فئة المهمشين أو “الأخدام” كعالمين متوازيين لا يلتقيان، علاقة تسودها قطيعة اجتماعية تامة إذ لا يختلط المهمشون بفئات المجتمع الأخرى في المناسبات الاجتماعية والدينية، ولا يتزاوجون مع غيرهم، ولا ينخرطون في الأنشطة السياسية والاجتماعية العامة أو الخاصة. تمارس فئة المهمشين طقوسها وأفراحها وأتراحها بعيدا عن بقية أفراد المجتمع. وأكثر من ذلك، فإن أطفال المهمشين لا ينتظمون في المدراس أو الجامعات إلا فيما ندر وخاصة من استطاع منهم الصمود في وجه ممارسات التنمر والنبذ والإقصاء من أقرانهم. وقد فشلت العديد من المبادرات الخجولة للدولة وللمجتمع المدني في تحقيق نجاح لدمج أبناء هذه الفئات في التعليم المنتظم وفي المجتمع بشكل أوسع.

غالباً ما يتخذ المهمشون ضواحي المدن والأراضي الخالية أو جوانب الطرق السريعة قريبا من الأسواق أحياء وتجمعات سكنية لهم. تتكون تلك التجمعات من أكواخ “عشش” من الصفيح وطرابيل البلاستيك والأقمشة المهترئة التي تنعدم فيها أبسط مقومات الحياة الآدمية الكريمة وتفتقد كافة الخدمات من كهرباء ومياه وصرف صحي. وغالبا ما يجرفها السيل عند اشتداد الأمطار. وقد تجرف الدولة مساكنهم في حال كان لديها مشاريع عامة. وينتشر المهمشون في كافة أنحاء اليمن وعلى وجه الخصوص في ضواحي المدن الكبرى حيث يمكن تأمين بعض من القوت والأجر اليومي في العاصمة صنعاء وعدن وتعز وإب والحديدة وحجة ولحج وذمار وشبوة ومارب.

العمل الفني ل سعد الشهابي

العداء معك.. كونك مختلف

يتشح سكان السواحل بسمار محبب ويشترك في درجات سمرة البشرة العديد من اليمنين ولا تُعد مشكلة. غير أن البشرة السمراء الداكنة المرتبطة بسمات الوجه المختلفة التي يتسم بها سكان العشوائيات ونمط عيشهم المختلف، وطدت العلاقة بين لون البشرة الأسود وعدم النظافة، وبين لون البشرة وممارسات الإقصاء والتمييز. وأصبح من الشائع مجتمعياً تأنيب الأطفال لحثهم على النظافة بمقارنتهم بالمهمشين” قدك ساع الخادم” أو عند اعوجاج السلوك والتصرف العنيف على الرغم من سلمية المهمشين وجلّدهم الصبور على التمييز العنصري ضدهم. حتى أن تسمية التجمعات السكنية للمهمشين تُسمى محوى. وكلمة “محوى” تعني مكان الكلب. ويزخر الإرث الشعبي بالعديد من الأمثلة الشعبية التمييزية التي تبرز عنصرية غير مفهومة مثل ” من جالس الخادم نادم”، “إذا أكل الكلب من طبقك اغسله وإذا أكل الخادم فاكسره”. رغم ارتباط الكلب في الثقافة الدينية بالنجاسة والتي تتطلب تطهراً مغلظاً إلا أن الخادم في هذا المثل الشعبي الجائر يعتبر أشد في النجاسة ويؤكد عنصرية مجتمعية غير مبررة.

 ينسج المجتمع اليمني أساطير حول المهمشين ترسخ ممارسات التمييز العنصري مبررةً بخرافات حول الممارسات اليومية والدينية والأخلاقية لهذه الفئة المغلوبة على أمرها. على سبيل المثال هنالك زعم بأن المهمشين يأكلون موتاهم لأنهم لا يتبعون مراسيم وطقوس الدفن العلنية للموتى. ولا يتجشم العديد من قادة الرأي في المجتمع مشقة تفنيد هذه المزاعم ونشر ثقافة الاحترام والمساواة. وفي هذا الصدد، فقد شرح أحد المهمشين ببساطة أنهم لا يملكون المال لدفع تكلفة مراسيم الدفن وحفر القبور؛ ولذلك فإنهم غالباً ما يدفنون موتاهم بصمت مستترين بظلام الليل على عجالة.

استراتيجيات تكيف ودفاع: الاندماج المؤجل

مع تعاظم شعور المهمشين بالدونية والنبذ، ثمة استراتيجيات تكيف بديلة تم تبنيها منذ قرون وهي الانكفاء على الذات والتقوقع ورفض أي محاولات، وإن كانت نادرة، من قبل المجتمع المدني لإدماجهم بالمجتمع ودمج أطفالهم بالمدارس أو تقديم مساعدات مؤقتة. وقد كان هناك جهود خجولة قدمتها الدولة قبل العام 2010 لا تتناسب البتة مع حجم الإقصاء التاريخي لهذا الفئة وحجمها السكاني وانتشارها الجغرافي في عرض البلاد وطولها. ومن هذه الجهود ما تم عام 2010 كتخصيص بعض المقاعد في جامعتي صنعاء وتعز للمهمشين، علاوة على بناء بعض المساكن لهم، وتخصيص مراكز صحية لهم في صنعاء يقدم فيها العلاج مجاناً. وكان هنالك أيضاً دعم سياسي وقانوني لإنشاء الاتحاد العام للمهمشين الذي وجد طريقه إلى النور في عام 2007.

وتتمثل استراتيجيات دفاعية أخرى في استدعاء بعض المتعلمين في صفوف المهمشين لهويات دينية أو تاريخية تسد الشعور بالنقص. ومن هنا، نشأت حركة الدفاع عن الأحرار السود بقيادة القيرعي في 2005، فيلسوف المهمشين والأب الروحي ومؤسس حركة أحفاد بلال[10] قبل أن يتم استخدامها سياسياً مؤخرا. كما ظهرت حركة أخدام الله من قبل نعمان الحذيفي في محاولة لمغازلة الظهور السياسي والعسكري للحوثيين في مطلع العام2014. وثمة استراتيجية دفاعية أخرى تتمثل في النكوص إلى الماضي المجيد[11] كاستدعاء بعض الناشطين لمجد دولة آل نجاح في الثاني عشر الميلادي حين كانت تمسك بمقاليد الحكم “” قد حكمنا اليمن “.[12] ولكن هذه النشاط لا نلمس له أثرا على مستوى الواقع إذ لم يتجلى إلا بأنشطة احتجاجية برزت في عام 2013 نتيجة أحداث قتل واعتداءات على أفراد مهمشين في مدينة تعز، وكذا صفحات في الفيس بوك لعدد من الناشطين. وقد اتخذت هذه الاحتجاجات مسار الاحتجاجات المنظمة في ساحة الحرية بتعز، حيث كانت تقام صلاة الجمعة في الشارع ويتم رفع لافتات وخطب ترفض تسمية المهمشين وتدعو للتمسك بكلمة “أخدام” كون هذه التسمية تميز هذه الفئة مجتمعيا وتبرز معاناتها، “غالبية المجتمع اليمني مهمش وتسميتنا بمهمشين عمدًا سيميع قضيتنا“.[13]

العمل الفني ل سعد الشهابي

الإنسان الحر أم الإنسان المستباح؟

ومع هذا فإن هذه الاستراتيجيات لم تنجح في تحقيق حراك أو إحداث تغيير حقيقي في حياة المهمشين أو تغيير في النظرة المجتمعية النمطية عنهم أو التعامل الجائر الذي يطالهم. يعمد بعض من تناولوا تحليل أوضاع هذه الفئة إلى لوم أفرادها؛ لأنهم رفضوا التغيير. ويؤكد بعض أفراد المهمشين هذه الرؤية النقدية؛ فهم لا يريدون التقيد بضوابط وسلوكيات فوق طاقتهم وتحدّ من حريتهم في ممارسة حياتهم كما يرغبون، وبذلك فهم لا يبذلون جهوداً حقيقية لتغيير أوضاعهم ولا يجعلون الدولة والمجتمع يسعون إلى ذلك التغيير ويتقبلونه. ويستدل هؤلاء الناقدون بـمثال “مدينة النور” التي أنشئت خصيصاً لتسكين المهمشين في مدينة صنعاء، لأن هناك من عمد من المهمشين إلى بيع المنازل بحجج مختلفة منها عدم توفر خدمات المياه والكهرباء والصرف الصحي في هذه المنازل. وفي الوقت نفسه احتج بعض الناشطين من المهمشين موضحين أن المدينة هي واحدة من طرق العزل الاجتماعي الموجهة ضد المهمشين. وبالمثل أشار بعض من ناشطي المهمشين الذين التقيت بهم إلى أن هناك توجهاً لدى غالبية المهمشين بعدم تغيير سلوكياتهم؛ وهو الأمر الذي يضطر البعض منهم للرحيل بعيدا عن تجمعات المهمشين والسكن داخل الحارات كي يتمكنوا من العيش بطريقة مختلفة وخاصة بعد رجوع البعض منهم أثناء من السعودية أثناء حرب الخليج عام 1990.[14]

وقد يرجع عدم القبول بالاندماج لدى بعض المهمشين كون البعض منهم يحبذ البقاء بعيداً عن أية قيود وإن طاله التمييز والانتهاك في حياة عارية من القيود لكنها تبيح انتهاك الحقوق.  يعزى مفهوم الحياة العارية (Zoe أو La vie nue) إلى جورجيو أغامبين Giorgio Agamben ويعني هذا الاصطلاح أن نعيش فقط ونبقى على قيد الحياة بدون تطلعات أخرى. وضمن مفهوم الحياة العارية يأتي مفهوم الإنسان المستباح (Homo sacer) [15]. وقد نجد في قول أحد المهمشين ما يوضح هذا المفهوم؛ يقول أحدهم “ما أشتيش أكون متطور ولا اشتي أكون خادم ولا اشتي أكون قبيلي. أنا الآن ما احد يلومنا اسكر يقولوا خادم أروح اشحت يقولوا خادم ما احد يلومنا لكن لو أنا إنسان محترم قال شيجروا بعدي كلهم. أنا عايش كذا اهم شي إن أنا عايش“.[16]

غير أن هذه الصورة التي يتبناها البعض تؤكد الممارسات القائمة على قناعات عنصرية تبيح لأصحابها انتهاك حقوق المهمشين تحت ذرائع مختلفة، منها أن المهمشين بدون استثناء لا يلتزمون بقواعد السلوك المجتمعي ولا الديني. ويشير أحد الأمثال المجتمعية التي تبيح الانتهاك والتحرش الجنسي إلى هذه الممارسات العنصرية الاستعلائية “الخادمة حلاوة سيدها”. وثمة اعتقاد لدى الكثير من العامة أن نساء الفئة المهمشة مستباحات كونهن يمارسن علاقات مفتوحة بدون ضوابط شرعية كما يشاع مجتمعياً بدون دلائل. ولذا فإنهن وفق هذه النظرة مستباحات ومتاحات. ويدعم هذا الاعتقاد قدرة المهمشات الدخول على مجالس الرجال المفتوحة للتسول أو طلباً لبعض القات، وانتشارهن في الأسواق والشوارع؛ بعكس قواعد المجتمع التي تضيّق على تواجد النساء بشكل مطول في الأماكن العامة.

 ونفس الثقافة المجتمعية التي تحول دون دمج الفئة المهمشة في المجتمع، تمنع حق امتلاك الأرض أو أدوات الإنتاج على هذه الفئة. ويذهب البعض من أفراد المجتمع اليمني المهيمن إلى تحميل الأخدام مسؤولية العزلة الاجتماعية المفروضة عليهم وعدم قدرتهم على الاندماج في المجتمع رغم مرور مئات السنين. ورداً على هؤلاء يؤكد القيرعي أن العنف المجتمعي ضد فئة المهمشين تاريخي، والمجتمع اليمني المهيمن لا يبيح لأفراد هذه الفئة امتلاك الأرض أو أدوات الإنتاج، ويقيدهم في أسوار أخلاقية ومهنية وضيعة تحول دون قدرة المهمشين على النهوض بأنفسهم أو تغيير واقعهم.

حراك سياسي واجتماعي تقيده الظروف العامة للبلد

رُصدت ملامح لحراك سياسي واجتماعي خجول يمس مجتمع المهمشين أفرزه الزخم السياسي للانتخابات والتعبئة السياسية قبل عام 2010، دعم ذلك الحراك السياسي العام لانتفاضة عام 2011 وما تلاها من محاولات لضم جميع المكونات السياسية والاجتماعية في الحوار الوطني 2013-2014. وقد منح كل ذلك ناشطي المهمشين ومضات أمل في تحقق خلاص وجودي لفئتهم. غير أن الحوار الوطني لم يضم إلا ممثلاً واحداً لفئة المهمشين وهو نعمان الحذيفي، رئيس الاتحاد العام للمهمشين. وقد جاء هذا التمثيل غير الكافي بعد احتجاج وضغط متواصلين من ممثلي فئة المهمشين. وتلاشى الأمل في تحقيق حلم المواطنة الحقيقة والفاعلة لفئة المهمشين مع استمرار الحرب المضنية التي فاقمت تشظيّ البنية الاجتماعية والسياسية بشكل غير مسبوق. وأصبح مفهوم المواطنة والحقوق أداة تناور بها المكونات السياسية وأطراف الصراع لتحقيق مكاسب طارئة.

إن مداميك المواطنة الحقة لن تُبنى إلا عبر استنادها على عقد اجتماعي ومعايير أخلاقية مجتمعية يحددها المجتمع ويصنف الشرائح الاجتماعية بمقاييس العدالة والإنصاف الاجتماعي وبحسب ما تمتلك من رأس المال الأخلاقي عوضا عن مفهوم المواطنة التقليدي الذي يستند على الحقوق والواجبات كأساس للعضوية السياسية والاجتماعية في سياق سياسي اجتماعي ذو ثقافة وممارسات غير منصفة.[17] لذا فإن أي حراك أو نشاط سياسي لفئة المهمشين لن يكتب له النجاح مالم تتظافر المعايير الأخلاقية والبنى والبيئات المؤسسية لتحقيق المواطنة الاجتماعية العادلة.

 


[1]  مقابلة معمقة أجرتها الكاتبة في عام 2014 مع نعمان الحذيفي رئيس الاتحاد العام للمهمشين في حينها، وهو خال الطفل محور القصة.

[2]  كيس أرز (يقارب 5 كيلو).

[3]  مقابلات تمت مع عدد من ناشطي الفئة المهمشة في 2014 في محافظة تعز. ونشر الصحف حينها القصة نتيجة الاعتداء الذي طال فئة المهمشين. انظر https://www.newsyemen.net/news6055.html .

[4] نعمان الحكمي (2010). فئة الأخدام في اليمن. دراسة ممولة من الاتحاد الأوروبي ومنظمة DIA، ويرى رئيس الاتحاد الوطني للمهمشين نعمان الحذيفي أن تهميشا تاريخيا طال فئة الأخدام منذ زوال دولة أل نجاح (النجاحيين) في القرن الثاني عشر كما ذُكر في ورقة مركز صنعاء للدراسة الإستراتيجية https://sanaacenter.org/ar/publications-all/analysis-ar/7532

التهميش التاريخي والممنهج لمجتمع المهمشين في اليمن | مركز صنعاء للدراسات الإستراتيجية

https://sanaacenter.org/ar/publications-all/analysis-ar/7532

[5] ارتفاع الدولة المؤيدية : جباية بلاد اليمن في عهد السلطان الملك المؤيد داود بن يوسف الرسولي المتوفي سنة 721 هـ / 1321 م / تحقيق محمد عبد الرحيم جازم. تأليف : مؤلف مجهول، المعهد الفرنسي للآثار والعلوم الاجتماعية : المعهد الألماني للآثار، 2008م الفصل الأول، هامش رقم 39.

[6] الأمم المتحدة (2005). الاتفاقية الدوليـة للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري. تقرير اليمن CERD/C/YEM/16  http://hrlibrary.umn.edu/arabic/CERD-C-YEM-16.pdf

[7] مقابلة مع محمد القيرعي رئيس حركة الدفاع عن الأحرار السود عام 2014.

[8] مقابلة مع محمد القيرعي رئيس حركة الدفاع عن الأحرار السود عام 2014.

[9] نعمان الحكمي (2010). فئة الأخدام في اليمن. دراسة ممولة من الاتحاد الأوروبي ومنظمة DIA

[10]  محمد القيرعي سياسي بارز في فئة المهمشين حيث كان عضو لجنة مركزية سابق في الحزب الاشتراكي حتى عام 2008، وعضو اللجنة الدائمة للمؤتمر الشعبي العام، وعضو في اللجنة الثورية العليا التي شكلها الحوثيون في صنعاء، قبل استقالته مؤخراً.

[11] مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور، مصطفي حجازي

[12] مقابلة مع القيرعي

[13] مقابلة مع نعمان الحذيفي، رئيس الاتحاد العام للمهمشين في عام 2014.

[14] مقابلات تمت مع ناشطين من مدينة تعز وصنعاء والحديدة في عام 2014.

[15]  هو مصطلح استعاره أغامبين من القانون الروماني القديم، كصفة للشخص مستباح الدم، بمعنى أن أيا كان يمكن له أن يقتله من دون أن تتم معاقبته على ذلك أبدا. توجد ترجمة للكتاب بعنوان “المنبوذ: السلطة السيادية والحياة العارية”، ترجمة عبد العزيز العيادي في 2017، منشورات دار الجمل.

[16] مقابلة مع أحد ناشطي المهمشين في نعر عام 2014، في شرحه لرفض بعض أفراد الفئة الاندماج.

[17] نفس المرجع السابق

اظهر المزيد

Sabria al-Thawr

A university lecturer and researcher in the fields of development, humanitarian work, and gender studies, with studies and research papers published in the academic and developmental fields.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى