This post is also available in: English (الإنجليزية)
أشار بعض من كتب في تاريخ الزيدية باليمن إلى طبيعة نوع من مصادر هذا المجال، وهي “الحوليّات التاريخية اليمنية” وما يوجد عند أصحابها من ميول أو تحيزات. في سياق حديثه عن مصادره ومنها الحوليات، قال فرانك مَرميه: “حرّر هذه الحوليات كَتَبَة زيديون مناصرون للشرعية الإمامية، لذلك فإنها ليست خالية من الانحياز العقدي الذي يمنع من امتلاك رؤية واضحة للصراعات السياسية التي كانت المدينة مسرحَها ورهانَها”[i]، ويبدو أن أهمية هذه الفكرة قد جعلت مرميه يعيد التأكيد عليها في بحثه “كومونة صنعاء، السلطة الحضرية والشرعية الدينية”[ii]، وصف مَرميه –مؤلّف كتاب “شيخ الليل، أسواق صنعاء ومجتمعها”- أصحاب الحوليات بأنهم “زيديون مناصرون للإمامة”، ويمكن تحديد ميل المؤرِّخ هنا بأنه “الميل العام للمذهب”، غير أنَّ المؤرخ محمد بن إسماعيل الأكوع قد تناول الأمر بصورة أكثر تفصيلا؛ إذ قال في تقديمه لأحد كُتب الحوليات “صفحات مجهولة من تاريخ اليمن”: “فقد كان مؤرّخو كل دولة ينظرون إلى الوقائع والحوادث من الزاوية الضيقة التي نظر منها ممدوحهم، فلا يرون الحقّ إلا له ومعه وإن أساءَ، ولا يقيمون لغيره وزنا ولا شأنا وإن أحسنَ، لأن هؤلاء المؤرخين كانوا يصدرون فيما يكتبون تحت تأثير الولاء للعقيدة أو المذهب الذي ينتمي إليه ملكُه أو إمامُه”[iii]. في نهاية النصّ يذكر الأكوع تأثّر أصحاب الحوليات بالولاء العام للمذهب، وهو يوافق ما سلف، بل يزيد أيضا بذكر خصوص ميل صاحب الحوليات إلى الملك أو الإمام المعاصر له، وقد عبّر عن خصوصية العلاقة بين الطرفين بالبنية الإضافية “ملكه أو إمامه”، ولكنه في مطلع النصّ كان أكثر تحديدا؛ إذ جعل كَتَبة الحوليات “مؤرّخي دولة”؛ أي أنه، هنا، يحدد موقعية المؤرّخ التي تكشف عن ميول أخصّ بكثير من مذهبٍ جامعٍ بين المؤرِّخ والمؤرَّخ له، وزاد الأكوع أن أكّد العلاقة بين الطرفين بوصف المؤرَّخ له بأنه “ممدوح”، ثم أتبع ذلك بأن كاتب هذا النوع من التدوين التاريخي قد تنازلَ عن رحابة الحياد المُفترض ليحصر نفسه في زاوية ضيقة تحكمها طبيعة نظرته الذاتية إلى الملك. والأكوع يحدد، بذلك، الجنس الكتابي أو الغرض الأساسي لهذه الحوليات، وهو المديح، فليست قضية الحوليات مؤرِّخ وتاريخ، بل مادح وممدوح.
تختار هذه المقالة أحد كُتب الحوليات للكشف التفصيلي عن أنماط من الميول التي تظهر فيها، وهي ميول متداخلة؛ فهي -في كثير من الأحيان- أخصّ من مذهبٍ يجمع المؤرّخ مع الإمام، وأعمّ -أحيانا- من ميول المؤرّخ لملكه أو إمامه المعاصر له، بل يلتبس الأمر بقضايا أخرى ذات أبعاد جهوية واجتماعية، أو لعله يمكن وصف الأمر بأن هناك ميولا أساسية تتداخل مع ميول أخرى أقلّ شأنا منها.
حول كتاب “حوليات يمانية” ومؤلّفه
صدر كتاب “حوليات يمانية: اليمن في القرن التاسع عشر الميلادي” بتحقيق عبد الله محمد الحبشي في طبعته الأولى سنة 1980م، ثم صدر بطبعات أخرى منها طبعة دار الحكمة 1990م. ولم يُثبت المحقّق على صفحة الغلاف الأمامي اسمَ مؤلف، نظرا للإشكال الحائم حول هوية المؤلف، وهو الأمر الذي أشار إليه الحبشي في مقدمة تحقيقه. وقد وقع مجمل الكتاب في 575 صفحة، ويمكن تقسيمه إلى قسمين، القسم الأول منه ينتهي عند قوله: “توفي المصنّف في تلك السنة في شهر رمضان سنة 1288 القاضي العلامة النحرير والمجد في الخير الأكبر والقدوة الفهامة الأشهر، وكان من أوعية العلوم لمنطوقها والمفهوم القاضي محسن بن أحمد الحرازي”[iv]، وقد وقع هذا القسم في 270 صفحة تقريبا (مع استبعاد الصفحات الأولى المتعلقة بما أضافه المحقّق مما يلزم تقديما للكتاب)، ويقع القسم الثاني في 285 صفحة، وهي فيما يرجّح الحبشي وكذلك المحقق حسين عبد الله العمري لأحمد عبد الله الزبيري الذي يردُ اسمُه في صفحة عنوان المخطوط[v]. ونحن في هذه المقالة سوف نكتفي بالاشتغال على القسم الأول المنسوب إلى الحرازي؛ إذ تتجلّى فيه التحيزات أكثر من القسم الثاني، وفي الوقت نفسه، فإن ذلك هو القدر المناسب لحجم مثل هذه المقالة.
إذا حاولنا اكتشاف شيء عن شخصية المؤلف “محسن الحرازي” من خلال حولياته، فإن في تاريخه إشارات تُفيد في هذا الصدد، ولعل أهمها ما يشير إلى موقعه وعمله، وذلك أنه -بعد وصف ظلمِ الوزير يحيى بن محمد السحولي- قال: “وهذه الأفعال الشنيعة وحاكم الحُكّام مُعرِض، والحُكّام الذي [كذا] تحته -ونحن منهم- لا قدرة لهم ولنا على شيء مع هذا الظالم الغشوم المشؤوم، ومَن نهى المنكر عاقبوه”[vi]. في هذا ما يثبت أن المؤلّف من “الحُكّام” الذين يقعون في رتبة ثانية بعد “حاكم الحُكّام”، ومعنى ذلك أن الحرازي من العاملين مع الدولة في سلك القضاء. وهذا يُعيدنا إلى ما أشار إليه الأكوع من أن بعض كتبة الحوليات هم من “مؤرّخي الدولة”، وإنْ كانت العلاقة هنا لا تعني أن المؤرّخ ألّفَ تاريخه باستكتاب رسمي من الدولة، ولكن تعني انتماء المؤرّخ إلى نخبة السلطة وتأكيد علاقته بخاصّتها.
ونجد في موضع آخر من الحوليّات -بعد مدحِ الإمام الهادي مدحا رفيعا مطولا- “… هذا بإخباري له سنين وأشهر ملازمة في جميع الأوقات…”[vii]، غير أن هذا الكلام قد جاء في ضمن نصّ أوسع وضعَه المحقّق بين معكوفين، وهي إشارة إلى نوع من الإدراج على الأصل، وقد كان أشار المحقق إلى أن للزبيري إضافات على “الأصل” المنسوب للحرازي[viii]، فإنْ كان كاتب ما تقدّم هو الحرازي فإنّ ملازمته للهادي سنين من القرائن المرجّحة لكونه من العاملين الذين نالوا شيئا من القرب منه، وإن كان للزبيري، فهو يشير أيضا إلى أن صاحب القسم الثاني وما زيد على الأصل ينتمي أيضا إلى النخبة.
نشير أخيرا إلى أنّ “حوليات يمانية” قد كُتبت بلغة تمتزج فيها الفصحى بالمحكية الصنعانية، وأنّ كاتبه لا يلتزم القواعد النحوية المعيارية المعتادة نحو رفع الفاعل ونصب المفعول والحال وغير ذلك، وتأتي المطابقة بين الصفة والموصوف أحيانا على طريقة الصنعانية لا الفصحى. ونحن، في هذه المقالة، ننقل الاستشهادات على حالتها تلك، وإذا ورد في الاستشهاد من المحكية الصنعانية ما يحتاج إلى توضيح فإننا نبيّنه في الهامش، وقد نؤكّد -عند الحاجة- ذلك الأمر بوضع كلمة [كذا] لتأكيد أنها كذلك في الأصل، ونشير كذلك إلى أنه قد وقع في النسخة المحقّقة بعض الأخطاء والأوهام، فإن صادفنا شيء من ذلك في النصوص المُستشهد بها، أثبتنا الصواب، وبيّنا ذلك في الهامش.
[i] – شيخ الليل: أسواق صنعا ومجتمعها، ترجمة: محمد السبيطلي، رندة بعث، قدمس للنشر والتوزيع، دمشق، 2005م: 48.
[ii] – يُنظر: اليمن كما يراه الآخر، مراجعة وتحرير: لوسين تامينيان، المعهد الأمريكي للدراسات اليمنية، 1997م: 294.
[iii] – يُنظر تقديم الأكوع لكتاب: صفحات مجهولة من تاريخ اليمن، تحقيق: حسين بن أحمد السياغي، مركز الدراسات والبحوث اليمني، صنعاء، الطبعة الثالثة، 2008م: 5.
[iv] – حوليات يمانية، من سنة 1224ه إلى سنة 1316ه، (أو اليمن في القرن التاسع عشر الميلادي)، حقّقه واستخرجه من مسوّدة المصنّف: عبد الله محمد الحبشي، دار الحكمة اليمانية، 1991م: ص290.
[v] – يُنظر: حوليات يمانية (مقدمة المحقق): ص 8، ولكلام السياغي، يُنظر: فترة الفوضى وعودة الأتراك على صنعاء، تحقيق ودراسة: حين بن عبد الله العمري، دار الفكر-دمشق، دار الحكمة اليمانية-صنعاء، الطبعة الأولى، 1986م.
[vi] – حوليات يمانية: ص69
[vii] – حوليات يمانية: ص270، وقوله “بإخباري” الظاهر أنه يقصد خبرتي، ولعلها “اختباري”، وفي الأصل “مسنين” والصواب ما أثبت.
[viii] – يُنظر: حوليات يمانية (مقدمة المحقق): ص 8.