This post is also available in: English (الإنجليزية)
تشبه شخصية “أمير العيد” كما هي في الثقافة الشعبية في اليمن، شخصية “بابا نويل” في المسيحية، فكلاهما: شخصية خيالية يجري تجسيدها في أيام العيد بزي مخصص وقناع تعرف كمصدر للبهجة وترتبط رمزياً بالعيد وأجوائه الفرائحية.. بيد أن ثمة فروقاً بينهما فبينما بابا نويل يقدم الهدايا، فإن أمير العيد يستقبلها، وبينما جمهور بابا نويل من الأطفال فجمهور أمير العيد من الأطفال والكبار، وبينما تحضر شخصية بابا نويل عالمياً وأصبح لها حضورها العصري، تنحصر شخصية أمير العيد في بعض مناطق اليمن وفي سياق فولكلوري، بيد أن لهذا في حد ذاته قيمته العلمية، من حيث أن “أمير العيد” والاحتفالات المرتبطة بها قد تكون محتفظةً بملامح أصلٍ ثقافي ديني قديم، خصوصاً أنها ذات طابع درامي يبدو لنا أقرب إلى ما يعرف بالدراما الطقسية كما عرفتها الحضارات الإنسانية القديمة كجزء من شعائرها وطقوسها الدينية وإليها تعود الجذور الأولى للمسرح.
وترتبط شخصية “أمير العيد” بالاحتفالات الفولكلورية الخاصة بعيد الأضحى في أرياف بعض محافظات وسط اليمن إب وذمار والبيضاء والضالع، حيث اعتاد الناس الاحتفال بهذا العيد بطريقتهم الخاصة فيما يسمى “النفس” (أي: المتنفس)، وقد يسمى أيضاً “أمير العيد”، وهو تقليد سنوي عبارة عن احتفال جماعي كبير يحييه كل تجمع قرى (قبيلة/ مخلاف) على حدة، حيث على كل قرية أن تستضيف “النفس” يوماً واحداً على مدى أيام العيد العشرة، في كل يوم يتدفق الناس من جميع القرى التجمع/ المخلاف إلى ميدان القرية المستضيفة وهناك يحتفلون من خلال إنشاد الزوامل الشعرية، ورقص “البرع” على إيقاع الطبول وعزف المزمار في كرنفال أو مهرجان كبير جمهوره من الرجال والأطفال ونجومه الفنانون والشعراء والراقصون.. لكن أبرزهم جميعاً شخصية “أمير العيد” بل هو الشخصية المركزية في هذا المهرجان.
وأمير العيد أشبه بمهرج شعبي يظهر في الاحتفال بلباس تنكري يميزه عن كل الناس في الغالب يلبس قناعاً من رأس ثور وباروكة من صوف الأغنام ورداءً من جلد حيوان وممسكاً في يده ذيل ثور (من الأثوار المذبوحة في العيد)، ويظهر متقدما الجمع (عندما يكون قادماً من خارج القرية) أو على رأس المستقبلين (عندما يكون من القرية المستضيفة)، وخلال ذلك يرقص أمير العيد ومن حوله الأطفال يركضون وهم يضحكون بينما يطاردهم ملوحاً ب”ذيل الثور” في يده لإخافتهم وأحياناً ضربهم به إن هم أخلوا بالنظام ويسري ذلك على الكبار دون أن يعترض أحد، فالجميع يضحكون وهم يتلقون الضرب من “أمير العيد” صاحب السلطة المطلقة: يعاقب المخالفين ويجبر الجميع على الرقص والمشاركة.
يخلق أمير العيد جواً من المرح في هذا الاحتفال ويمنحه حيويةً ويضبط إيقاعه.. سواءً من خلال رقصه أو أدائه الكوميدي ودوره الذي قد يصل إلى أداء مشاهد تمثيلية مثل القيام، ومعه آخرون، بعقد محاكمة هزلية يحاكم فيها الأشخاص الذين تخلفوا عن المشاركة في الحفل حفاظاً على مكانتهم الاعتبارية أو أناقتهم، وعند ذلك تنتهي المحاكمة بإصدار حكم يتضمن عقاباً هزلياً. على سبيل المثال: يتم تمريغهم في دم الحيوان المذبوح المسكوب على الأرض أو في حفرة مليئة بالماء الممزوج بمركز شراب التوت ليكسبه اللون الأحمر.
ملامح الطقس وأشكال حضوره
ولم تحظ احتفالات أمير العيد بالتوثيق العلمي المتخصص بحسب علمي، وما ذكرته قبلاً اعتمدت في أغلبه على ما احتفظت به ذاكرتي عن هذه الاحتفالات كما شهدتها في طفولتي في قرية “الجوران” مخلاف بني قيس مديرية الرضمة محافظة إب[1]، ويعود ذلك إلى أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات من القرن الماضي لأنها سوف تختفي منها بعد ذلك، مثلما كانت قد اختفت من مناطق أخرى يبدو أنها عرفتها، بيد أنها لحسن الحظ ما تزال حيةً في بعض المناطق أو أن بعضها كان ما يزال يحتفل بها إلى وقت قريب، ولدينا محتوى لا بأس به على شبكة الانترنت يؤكد ذلك، وهو عبارة عن مواد إخبارية بالإضافة إلى عدد من الفيديوهات على موقع يوتيوب وعدد من المنشورات في “مجموعة معتقدات وتقاليد يمنية قديمة” في موقع “فيسبوك” وكلها تقريباً موضوعها الرئيسي “أمير العيد” وهي لذلك مادة مهمة جداً، صحيح أنها لا تغني عن التوثيق الميداني وسماع كبار السن، ولكنها تمكننا على الأقل من تكوين فكرة واضحة عن الظاهرة.
ويبدو لنا، وفقاً لتلك المادة، أن احتفالات أمير العيد معروفة أو كانت معروفة في مناطق قرى مديريات الرضمة ويريم والنادرة والشعر وبعدان والعدين التابعة لمحافظة إب، ودمت وبعض مديريات الضالع، ومديريتي عنس والحداء بذمار، وصباح وولد ربيع بقيفة بمحافظة البيضاء، ما يشير إلى أنها كانت شائعة أو معروفة على نطاق واسع في هذه الأربع المحافظات على الأقل، وهي في كل ذلك تختلف من منطقة إلى أخرى، ومن زمن إلى آخر، ولكن الاختلاف يكمن في التفاصيل لا في الملامح الكبرى الرئيسية لهذه الاحتفالات التي تبدو ذات أصل واحد، وإجمالاً يمكننا استخلاص المحتوى المشار إليه في عدة عناصر أو نقاط رئيسية:
المناسبة: يتم ذلك في احتفالات كبيرة ترتبط بعيد الأضحى ويصادف العاشر من ذي الحجة من كل سنة هجرية، وفيه يضحي اليمنيون مثل كل المسلمين بأضاحي من الأبقار والأغنام. ويحتفل بأمير العيد في أيام العيد العشرة على أن بعضهم يحتفل بها خمسة أيام فقط بداية من أول أيام العيد وأحياناً من ثاني أو ثالث أيام العيد.
النطاق: يتم الاحتفال بأمير العيد في إطار تجمع قرى يجمعها رابط قبلي (مخلاف، قبيلة)، ويتم ذلك بالاحتفال كل يوم في قرية. وفي النادر يتم في قرية واحدة، وقد يعود ذلك إلى التحولات التي شهدتها الظاهرة.
المكان: في الأغلب ميدان القرية المستضيفة، وإن كانت الاحتفالات تبدأ من خارجها بسير الناس من قراهم، أو من نقطة تجمعهم وصولاً للميدان حيث يبدأ الحفل الفعلي. بيد أن بعض الاحتفالات يتم فيها زيارة مكان عام يتوسط المنطقة، أو تختم آخر يوم من أيام العيد بالاحتفال في مكان جامع ورمزي.
الزمان: يختلف وقت الاحتفال ففي بعضها يكون في الصباح حتى الظهر، وفي بعضها من العصر حتى المغرب، وفي أخرى من بداية المساء حتى الساعة العاشرة مساءً.
الجمهور: جنس الجمهور من الكبار والصغار الذكور، وتكتفي النساء بالمشاهدة من أسطح البيوت ونوافذها.
الممثلون: أمير العيد هو الشخصية المركزية في هذا الاحتفال على أنه يختلف في مسمياته (أمير العيد، المعجب، السعلة، القعشي، الطوشي) إلا أن له ذات الأوصاف والدور، وقد تظهر إلى جواره شخصيات أخرى: الجارية، العبد، والعجوز، ونادراً يظهر إلى جوار أمير العيد أمير عيد آخر من منطقة أخرى (عند ذلك يحدث صراع بينهما).
اختيار الممثلين: لا يعرف ما هي معايير اختيار أمير العيد، فهو شخصية غامضة (لكننا نتوقع أن يكون شخصاً لديه حس فكاهي وكوميدي وقدرة جسدية على أداء الدور) أما شخصية “الجارية” فهو رجل في زي امرأة، قد يكون ممثل إلا أنه في بعض المناطق عادةً ما يكون رجلاً كانت أضحيته من “أنثى” البقر.
الأزياء والقناع:
أمير العيد: القناع رأس الثور والزي التنكري من جلد الحيوان وفي يده ذيل ثور من الأضحية. ويبدو أن هذا الزي سوف يتم استبداله إذ يظهر في بعض الفيديوهات بملابس ملونة ومرة واحدة ورد أنه (لبس ملابس صيانة). ورأينا أقنعة حديثة لرؤوس حيوانات وكذلك سوطاً من المطاط بدلاً من ذيل الثور.
الجارية: شخصية الجارية كما قلنا هو رجل في الأساس يتم إلباسه زي امرأة ويلبس “لوية/ طرحة” كقناع من أغطية الوجه والرأس الخاصة بنساء المنطقة، وكذلك الملابس التي تختلف بحسب أزياء المنطقة، ولكنها في معظمها ملابس عروس، وتستخدم في ذلك الزينة بمختلف أنواعها بما في ذلك الورود والشقر والكحل.
العبد: ملابس مميزة عن ملابس الناس المعتادة وتوضع على وجهه مساحيق سوداء.
الطقس أو وقائع الاحتفال:
تبدأ الاحتفالات من تجمع الناس وفي مقدمتهم الفنانون (عازفو المزمار وضاربو الطبول) ثم انتقالهم من قريتهم إلى القرية المستضيفة، أو تجمعهم في نقطة خارجها، ثم سيرهم معاً إلى ميدان القرية المستضيفة، يتقدمهم أمير العيد (أو أمير العيد والجارية والعبد) وهم يرقصون جميعاً على ايقاع المزمار وايقاع الطبول، ويختلف دور أمير العيد بين الرقص وتنظيم الرقص والتمثيل واللعب مع الأطفال ومطاردتهم. لكن من أهم أدواره أيضاً هو البحث عمن تخلفوا عن الحفل وإجبارهم على المشاركة، أو محاكمتهم محاكمة هزلية ومعاقبتهم.
ترقص الجارية وفي حمايتها إما الأمير أو العبد، وقد يتم اختطافها، وعندها على الأمير أن يخوض معركةً حتى يستعيدها، وأحياناً تقام ما يشبه المسابقة الشعرية لمجموعة من الشعراء حول نظم قصائد في التغزل بالجارية ومن يفز بأفضل قصيدة يصبح عريسها، ويشارك الجمهور (إلى جانب الشخصيات الرئيسية في الحفل: أمير العيد والجارية، والعبد والعجوز)، في بعض المشاهد التمثيلية أو ذات الطابع المسرحي (محكمة، مبارزة،..) وهي كلها ارتجالية بينما قد تتخلل هذه الاحتفالات بشكل عام بعض الألعاب. بالإضافة إلى طقوس أخرى تختلف من منطقة إلى أخرى، بينما يعود بعضها إلى التغيرات التي مست الظاهرة.
في بعض المناطق يقال أن أمير العيد يزور القرى، أو المنازل، ويعطيه الناس بعض المال. وربما يعود ذلك إلى أن الطقس الجماعي اختفى وبقي بعض الناس يلعبون هذا الدور.
بين الدراما الشعبية والطقسية
تشير الخصائص أو العناصر الرئيسية لاحتفالات أمير العيد كما رأيناها قبل قليل، إلى أننا أمام نشاط درامي أو احتفال ذي طابع درامي شعبي، من حيث أن الدراما الشعبية تتكون بشكل عام من المناشط الدرامية لعامة الناس في الاحتفالات الشعبية والشعائر الدينية والمناسبات الأخرى[2]. بيد أن السمات الدرامية تتجسد في احتفالات أمير العيد من خلال الشخصية التي تكتسب فنيتها من الأداء الذي يتجاوز الفعل العادي إلى التجسيد أو التشخيص ليس فقط من حيث القناع الذي يعد سمةً في شخصية الممثل/الممثلين، بل أيضاً ما يتخلل ذلك من أداء وفي ظل وجود جمهور يتلقى هذا الأداء في مختلف طقوس الاحتفال أو في الفقرات ذات طابع درامي التي تتخللها: التغزل بالجارية، اختطافها، الصراع حول ذلك، المحاكمة، المبارزة بالسيوف..
ومع ذلك لا يمكننا اعتبار أمير العيد مسرحاً متكاملاً إذ تغيب العناصر الأساسية للمسرح مثل: النص، الحبكة، الصراع، البداية والخاتمة، فليس لدينا نص هنا بقدر ما لدينا أداء ارتجالي لشخصية واحدة ثابتة، وقد تتعدد في بعض المناطق حين تحضر شخصيتا الجارية والعبد إلى جانب أمير العيد، ولكنها كلها تبقى شخصيات نمطية تؤدي أدوار شبه ثابتة، حيث لا وجود للحبكة، ولا ترابط في الأحداث، ولا بداية أو نهاية درامية، بقدر ما نحن أمام احتفال كبير تتخلله فقرات استعراضية قد يتضمن بعض اللمسات الدرامية مثل المحكمة واختطاف الجارية والصراع حتى استعادتها، إلا أن هذه الأحداث مكررة أو نمطية.
وتتسم علاقة الممثل بالجمهور بذوبان الحدود إذ ليس أمامنا: ممثل _جمهور، بالمعنى الذي نجده في المسرح، فمع أن شخصية أمير العيد (وكذلك الجارية والعبد..)، مميزة تماماً عن الجمهور من خلال التنكر/ القناع، إلا أن العلاقة بين الممثل والجمهور تبدو تفاعلية تتمثل في مشاركة الجمهور في الحدث سواءً بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال الاستجابة لما يقرره أمير العيد في رسم الأحداث أو تحديد طبيعة تصرفات وسلوكيات الجمهور باعتبارهم مؤدين وجزءاً من العرض. وهذه المرونة في العلاقة تمتد إلى طبيعة المكان الذي يبدو أنه مائع أو متحرك وغير ثابت، فيما عدا المشاهد التمثيلة كالمحاكمة، أو المبارزة التي تبدو أكثر وضوحاً من خلال “دائرة” محددة.
وتخفت العناصر الدرامية في ظاهرة أمير العيد مقارنة بأشكال أخرى من الدراما الشعبية مثل الحكواتي في الشام وبلاد المغرب العربي والشاعر في مصر.. إننا في حالة أمير العيد أمام دراما شعبية هي في أبسط صورها أو أقربها إلى المسرح البدائي، ولهذا في حد ذاته أهمية كبرى إذ قد تكون نموذجاً حيا لأقدم أشكال الدراما وجذورها، وهي الدراما الطقسية المعروفة في حضارات العالم القديم والمتمثلة في الاحتفالات الدينية والشعائر والطقوس التي عرفها الإغريق وحضارات الشرق، وكانت تحتوي على مشاهد تمثيلية تعبدية وأناشيد ابتهالية وعنها تطورت الدراما بمفهومها الأرسطي وإليها تعود جذور المسرح بشكل عام.
ولا يقوم هذا النوع من الدراما على الشخصية أو الحبكة بل على الطقس ككل، ولذلك يتسم بالجماعية أي مشاركة الجمهور في الطقس بشكل عام بما يحقق طبيعة الطقس كفعل من أفعال العبادة. وما يتميز به الفضاء العام في هذا المسرح الطقسي من كونه فضاء مفتوحاً يتسع لتفاعل الجمهور والمؤدين، والجمهور بعضهم البعض ما يعزز دور المكان كحيز تعمق مثل هذه الاحتفالات قدسيته أو مكانته الرمزية ودوره بالنسبة للجماعة لأنه سيظل ساحة للعب واللقاءات الاجتماعية والمناسبات بكل أشكالها.
تتميز احتفالات أمير العيد بالموسيقى والرقص والأقنعة وهي ثلاثة عناصر تحضر في الدراما الطقسية حيث للإيقاع دوره في تجسيد اللحظة الاندماجية والسمو عن العادي ولذلك يحضر في كثير من الطقوس الدينية المصحوبة بحركات الجسد التي ترمز لتوحد الإنسان مع ذاته وجوهره الحقيقي، بما تعنيه ثنائية الموسيقى- الرقص من تمثيل حقيقي لهذا السمو. فنياً يشير الرقص إلى أبرز سمات المسرح البدائي وجذور الدراما، حيث الرقص يتضمن عناصر الدراما في شكلها البسيط: فعل يجري تشخيصه، وممثل يشخص هذا الفعل وجمهور يشاهد هذا التشخيص[3]، ويتحقق هذا في حالة أمير العيد حين يكون الرقص مركزيا في أدائه بيد أن ارتباطه بمناسبة دينية يشير إلى تلك النقطة التي تحول فيها الرقص في الثقافات البدائية من التعبير عن انفعالات خاصة إلى طقس ديني، ربما من أجل ذلك يتعدى دور أمير العيد فعل الرقص إلى إجبار الناس على الرقص، أي إدماجهم في الطقس الديني، واعتبار ذلك مخالفة تستحق العقاب، تماماً كما هو الحال مع العبادات.
من هنا يتجلى دور أمير العيد في احتفالات يقصدها الناس وغرضهم هو الفرح والتسلية، ويلتقون وقد رموا خلفهم كل الخلافات والنزاعات بل وأسقطوا كل مظاهر التراتبية الاجتماعية ليتسلمها أمير العيد صاحب السلطة المطلقة والكلمة العليا التي لا يمكن اعتراضها، وهو شخص غير معروف ولا يمثل أي فئة أو قبيلة أو عشيرة أو قرية، إنه يمثل الجميع ولا أحد في نفس الوقت، وهذا تحديداً ما يمنحه صفة الممثل الطقسي، باعتبار الممثل الطقسي “ليس بمحترف بالمعنى المفهوم وإنما هو مجرد فرد / مكلف من قبل الجماعة بمهام سامية ألا وهي الحفاظ على أهم لحظات الوجود الدرامية”[4].
وللقناع دوره الرئيسي في كل ذلك، فأمير العيد ما هو إلا إنسان عادي تخلى عن شخصيته الاجتماعية ليكتسب مظهراً جديداً من خلال القناع ودلالته في المسرح الطقسي كونه يشير إلى الذات، فبمجرد أن يرتديه الممثل يكون قد تخلى عن جسده الاجتماعي وأصبح القناع تمثيلاً لأعماقه الدفينة في نفس الوقت الذي يجسد فيه رمزياً صورة للأنا بالنسبة للمجموع/ الجمهور، ولذلك يتبلور دورهم في التفاعل معه، أو الاستجابة بدون أي اعتراض لأحكامه. حيث يمكن للقناع أن يلعب دوراً مهماً “في تنظيم الهيكل الاجتماعي، فقد كان همزة الوصل بين العالم الإنساني والإلهي الذي هو صورته الحية علي الأرض”[5].
هل لأمير العيد أصل في اليمن القديم؟
يظهر أمير العيد بقناع عبارة عن رأس (ثور) ورداء من جلد الذبيحة وفي يده ذيل ثور، في مناسبة أبرز ما فيها التضحية، ويحيلنا هذا إلى “الثور” ورمزيته في الديانات اليمنية القديمة من حيث أن الثور هو التجسيد الفعلي لصورة الإله (القمر) على الأرض وقد كان رمزا للخصب والزراعة. ووصلنا من اليمن القديم الكثير من التماثيل والرسوم الصخرية التي تجسد هذا الحيوان المقدس بعضها يظهر فيها “إنسان” بقناع رأس ثور أو وعل وفي هيئة رقص (وهناك أشخاص بأذرع نصف مرفوعة؛ الجسم والساقان على شكل جانبي، يحملون في بعض الأحيان أقنعة يبدو أنهم يشاركون في رقصات تصور مشاهد صيد طقسي و/ أو ثقافي)[6]، بما قد يشير إلى طقوس دينية، خصوصاً أن هذه الممارسة ما زالت حاضرة في الثقافة الشعبية في حضرموت، وفي تقاليد أمير العيد.
وثمة لوحة ذات دلالة مهمة في سياقنا هذا، ويظهر فيها شكلان بشريان أحدهما لذكر يبدو في هيئة رقص وقريب من مظهر أمير العيد حيث الرأس مزين من جانب واحد بقرنين سميكين وقصيرين. له زائدة ممثلة بطول فخذه الشمال مطولة بخط بادئ من الإبط، يبدو كذيل أو مقبض أداة أو سلاح.. وعلى مستوى الحزام يظهر نوع من الهراوة الطويلة محمولة بالظهر تتجاوز أطرافها كلا الجانبين. يبدو الشكل البشري مرتديا ثياباً من جلد الحيوان الذي يتدلى من كلا وركيه. بينما الشكل الآخر لأنثى، تبدو فيه الرقبة مزينة بعقد بشكل v، بأذرع وأيدي مرفوعة وأصابع مرسومة. الوجه مزين بثلاثة زوائد: قرنا وعل وبذروة دقيقة سهمية الشكل[7].
والشكلان مقنعان وفي هيئة رقص فيما يبدو أن ثمة أصلاً قديماً لشخصيتي أمير العيد والجارية تعود إلى دراما طقسية عرفها اليمن القديم وبقيت حيةً في الثقافة الشعبية. والقناع عنصر مهم في أقدم أشكال الدراما فالاحتفالات التي كانت تقام للإله ديونيسوس مثلاً كانت “شخصياتها مقنعة تجمع بين ملامح الإنسان في الوجه وملامح الحيوانات بباقي الجسد، فيكون لها وجه إنسان وذيل حصان وأرجل ماعز”[8] بحسب أرسطو، وفي مصر القديمة كانت شعائر العبادة تتمثل في أداء طقس التضحية بعروس النيل في موسم الفيضان، واحتفظت لنا الثقافة الشعبية في اليمن بما يشير إلى وجود مثل هذه الطقوس قديماً، ففي حضرموت وضمن تقاليد صيد الوعل يؤدي بعض الصيادين رقصات شعائرية بعد العودة من الصيد ملوحين بقرون الوعل على رؤوسهم كما لو كان ذلك من بقايا الطقوس الوثنية القديمة[9]. ومثلها طقوس زيارة قبر النبي هود التي يذهب (فيرنر داوم) إلى أنها من بقايا طقوس الحج في اليمن القديم بما يمكن أن يكون له علاقة بطقوس الزواج المقدس[10].
وتبدو طقوس زيارة قبر النبي هود في حضرموت قريبةً على نحو ما بتقاليد احتفالات أمير العيد، إذ تشبه شخصية أمير العيد بقناع رأس الثور شخصيةَ “الشيبة” وهو تمثال لشخص مسن برأس وعل في طقوس قبر هود بما يعنيه كل من “الثور” “الوعل” كرمزين دينيين في اليمن القديم، وأما الجارية فيقابلها في طقوس قبر النبي هود العروس “وسيلة”، على أن شخصية العريس تبدو غير محددة في الحالتين، فتمثال الرجل المسن ليس العريس بحسب (فيرنر داوم)، لأنه رمز للوعل الذي يجب أن يكون مقتولاً، ولهذا فإن العريس قد يكون هو الشخص الذي نجح بقتل/ الوعل/ الرجل المسن، وكذلك ليس في أمير العيد ما يشير إلى كونه عريساً، يمكننا أن نفترض هنا أنه الشخص الذي ينجح في اختطاف الجارية أو التغزل بها، كأن يكون ذلك ثيمة تدل على نسق متحول كان فيما مضى أكثر عمقاً واتصالاً بالطقس الديني.
“أمير العيد” وطقوس الحج في اليمن القديم
ترتبط احتفالات أمير العيد -حصراً- بعيد الأضحى، وهو عيد الحج والتضحية في الإسلام، واليمنيون يضحون مثلهم مثل كل المسلمين، غير أن تقاليد التضحية عندهم بقيت محافظة على بعض السمات الوثنية مثل: تزيين الأثوار بالشقر والريحان وتبخيرها والطواف بها والدوس على دم الذبيحة اعتقاداً بأن فيه شفاء وغير ذلك مما يتصل بالمعتقدات حول الثور وتقديسه وتقديس قرونه، وهي تقاليد ترتبط بالتضحية كطقس من طقوس الحج في اليمن القديم لا كما هي في الإسلام، خصوصاً إذا عرفنا أن اليمنيين لا يضحون بالأنثى فيما يبدو أن لذلك علاقة بالمحظورات في الحج قديماً كما يشير نقش الإله تألب الذي حظر على أتباعه صيد الوعول الحوامل والمرضعات، وحظر إيذاء الناقة الحامل[11]، ولا نستبعد أن ذلك يشمل الأنثى من الأبقار، ففي عيد الأضحى لا يضحي اليمنيون بالأنثى، ومن قام بذلك يشهرون به علناً في عادة تسمى (الحراوءة) في بعض مناطق إب، وطقوس التشهير جزء من تقاليد أمير العيد إذ يقع الاختيار في من يلعب دور “الجارية” على الشخص الذي كانت أضحيته أنثى.
ويستمر الاحتفال بأمير العيد في اليمن على مدى عشرة أيام من أول أيام العيد غالباً، وهي قريبة من المدة التي كانت تتم فيها طقوس الحج في اليمن القديم وتستمر حوالي 9 أيام، والتشابه يتعدى ذلك إلى بعض التفاصيل الأخرى، فاحتفالات أمير العيد يتخللها عنصران رئيسيان هما: السير في مواكب سواءً أثناء خروجهم من القرى أو بعد تجمعهم في مكان ما خارج القرية المستضيفة أو في مكان رمزي يتوسط المنطقة، والاحتفال من خلال إنشاد الاشعار والرقص على عزف المزمار وايقاع الطبول، ولا يختلف هذا كثيراً عن طقوس الحج في اليمن القديم التي كان من شعائرها السير في مواكب دينية، وهناك طرق في اليمن القديم “تربط بين معابد داخل المدن وخارجها، يمكن اعتبارها طرق مواكب دينية، مثل الطريق الذي بين معبد أوام ومعبد برآن”[12]. وكان الحج إجمالاً يتسم بكونه احتفالاً إذ يصاحبه بشكل عام “بعض الطقوس التعبدية المتعارف عليها في الاحتفالات الدينية من حرق للبخور ورقص وتحلق حول المعبود، وإنشاد يصاحبه استخدام الآلات الموسيقية السبئية مثل السمسمية والعود، والطبل”[13].
وكان الحج في اليمن القديم معروفاً على مستوى القبائل الصغيرة التي تحج لآلهتها، في إطار وظيفة الحج السياسية والاجتماعية في تعزيز الروابط بينها، غير أنه بعد أن تندمج هذه القبائل في اتحاد قبلي كبير تختفي هذه المراسم داخل القبيلة ويتم التوجه إلى الإله القومي للاتحاد الذي يعد الإله الحاكم لهذا الاتحاد، بل إن الآلهة القبلية هي من توجه عابديها للحج إلى الإله القومي بدلاً عنها[14] ونحن نفترض أن عكس ذلك سوف يحدث في حالة تفكك الدولة/ الاتحاد أي أن القبائل سوف تعود إلى الحج لآلهتها القبلية، ربما هذا ما حدث بعد تفكك مملكة حمير ويبدو أن أمير العيد تجسيد له، من حيث أننا أمام تقليد سنوي يقوم به تجمع من القرى (قبيلة/ مخلاف) بما لذلك من دلالة على الرابطة القبلية بينها وتعزيزها من خلال هذا الاحتفال، صحيح أنه لا وجود لإله هنا وربما لذلك نرى القرى تحج إلى بعضها تجسيداً لعدم سيادة أي منها على الأخرى، ومع ذلك فإننا نجد أن بعض المناطق في اليمن في احتفالاتها بعيد الأضحى تزور مكاناً رمزياً داخل المنطقة إما قبل أن يتوجهوا إلى القرية المستضيفة أو في آخر يوم من احتفالات العيد بما يشير إلى مكان قدسي أو جامع للقبيلة بل إن هذا المكان قد يكون مزاراً لولي أو ساحة أو صخرة ذات دلالة رمزية.
وكان الحج مناسبة لتنصيب ملك أو حاكم جديد أو تجديد الولاء للحاكم القائم وفيه يتم تنصيب هيئة للحج أو الإعلان عن مناصب تتصل بالكهانة أو ممثل للإله[15] وظيفته تنظيم الحج وشؤونه وترتيب صفوف الناس وهو ما يفعله أمير العيد على أنه يتجاوز ذلك فهو صاحب السلطة المطلقة في هذا الاحتفال الذي يبدو أنه كل ما تبقى من الجانب الاحتفالي والرمزي وطقوس التنصيب التي عرفت في الحج لدى اليمنيين قديماً وكان للإله سلطته وسيادته عليه التي قد تتجسد في ممثليه.
وكان إله قتبان (أنبي) يوصف بأنه (بعل حجت) أي سيد الحج (إله الحج) [16]. وفيها كان أحد الشهور اسمه (ذحجتن) أي (ذو الحجة) وربما عرف في اليمن على نطاق أوسع، ولا يبدو أنه يوافق شهر “ذي الحجة” الذي كان معروفاً لدى أهل مكة[17] وأصبح فيما بعد هو موعد (عيد الأضحى)، والمهم هنا هو أن الحج عرف في اليمن القديم، وكان له شهره المعلوم، وليس بعيداً أن تكون طقوسه قد انتقلت إلى تاريخ الحج الإسلامي محتفظةً بكثير من تفاصيلها، وحاضرةً في المجتمع في هيئة فولكلور تتوارثه الأجيال منذ أزمنة بعيدة في ظل إمكانية أن تكون العديد من أشكال الفولكلور في أصولها القديمة ذات جوهر ديني وهو ما يبدو أن أمير العيد كانت عليه، فبالإضافة إلى كل ما قلناه سابقاً.. فإن خارطة انتشارها أو مركز حضورها في إب والضالع هي نفسها مركز الدولة الحميرية آخر الممالك اليمنية القديمة وأقربها زمنياً إلينا، ويدهشنا دائماً فولكلور هذه المنطقة وهو يزخر بالعناصر الثقافية والتقاليد والطقوس التي تبدو محتفظةً بالكثير من ملامحها الأصلية التي كانت عليها في اليمن القديم.
[1] عشت في قرية الجوران جزءاً من طفولتي، فهي مسقط رأس والدي وفيها يعيش جانب من عائلتنا حتى الآن، وقد حظيت هناك بمعرفة الكثير من ألوان الثقافة الشعبية التي لم تكن موجودة، أو أنها اندثرت في مسقط رأسي “عرام” (مديرية عنس محافظة ذمار) مع أن المسافة بينهما حوالي 10 كيلو متر فقط.
[2] معجم المصطلحات الأدبية، إعداد: إبراهيم فتحي، الموسوعة العربية للناشرين المتحدين، صفاقس، تونس، 1988م، ص: 160.
[3] ياسين اعطية: الطقسي الديني والشعري الدرامي في نشأة المسرح وامتداده، مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، على الرابط: https://www.mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D8%B7%D9%82%D8%B3%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%86%D9%8A-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B9%D8%B1%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%B1%D8%A7%D9%85%D9%8A-%D9%81%D9%8A-%D9%86%D8%B4%D8%A3%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D8%B1%D8%AD-%D9%88%D8%A7%D9%85%D8%AA%D8%AF%D8%A7%D8%AF%D9%87-4570
[4] تقنيات المسرح الطقسي ، ص: 57
[5] تقنيات المسرح الطقسي ، ص: 54، 55
[6] ينظر مديحة رشاد, ماري-لويز إينزان: فن الرسوم الصخرية واستيطان اليمن في عصور ما قبل التاريخ، المركز الفرنسي للآثار والعلوم الاجتماعية، 2007م، ص: 35 وما قبلها.
[7] ينظر: مديحة رشاد, ماري-لويز إينزان: فن الرسوم الصخرية واستيطان اليمن في عصور ما قبل التاريخ، مرجع سابق، ص: 208، 209.
[8] معجم مصطلحات الأدب، د. مجدي وهبه ، القاهرة 1972 ، ص 144 ، ص 499
[9] مديحة رشاد, ماري-لويز إينزان: فن الرسوم الصخرية واستيطان اليمن في عصور ما قبل التاريخ، مرجع سابق، ص:117، 118.
[10] فيرنِـر داوم: عودة إلى قبر هود.. ديانة ما قبل الإسلام في حضرموت ومكة، ترجمة: محمد عطبوش (غير منشورة).
[11] فتحية بنت حسين عقاب: الحج في الفكر الديني عند عرب جنوب وشمال الجزيرة العربية من القرن السابع قبل الميلاد إلى القرن الرابع الميلادي، دراسة مقارنة في ضوء النقوش، مداولات اللقاء السنوي الأول: السعودية المملكة العربية السعودية عبر العصور، الجمعية السعودية للدراسات الأثرية، الرياض، 2010م، ص: 208.
[12] فتحية بنت حسين عقاب: الحج في الفكر الديني عند عرب جنوب وشمال الجزيرة العربية من القرن السابع قبل الميلاد إلى القرن الرابع الميلادي، مرجع سابق، ص: 207.
[13] فتحية بنت حسين عقاب: الحج في الفكر الديني عند عرب جنوب وشمال الجزيرة العربية من القرن السابع قبل الميلاد إلى القرن الرابع الميلادي، مرجع سابق، ص: 204.
[14] سعد عبود سمار: حاكمية الإله وتمظهرها في أداء حكام اليمن لطقوسهم الدينية، مجلة كلية التربية، جامعة واسط، العدد 38، الجزء الأول، شباط 2020م، ص: 238.
[15] ينظر: حسين محمد القدرة وإبراهيم صالح صدقة: طقس الحج في النقوش المسندية، دراسات العلوم الإنسانية والاجتماعية، المجلد 21، العدد 1، 2004م.
[16] جواد علي: الفكر السياسي عند العرب قبل الإسلام، ص: 401. بواسطة: سعد عبود سمار: حاكمية الإله وتمظهرها في أداء حكام اليمن لطقوسهم الدينية، مرجع سابق، ص: 242.
[17] فتحية بنت حسين عقاب: الحج في الفكر الديني عند عرب جنوب وشمال الجزيرة العربية من القرن السابع قبل الميلاد إلى القرن الرابع الميلادي، مرجع سابق، ص: 197. أيضاً: جواد علي: الفكر السياسي العربي قبل الإسلام، ص: 401. بواسطة: سعد عبود سمار: حاكمية الإله وتمظهرها في أداء حكام اليمن لطقوسهم الدينية، ص: 242.