رأي
أخر الأخبار

جدَل المدَنيِّة والعَلمانيِّة في اليمن (2)

This post is also available in: English (الإنجليزية)

توقفت في المقال السابق عند الحديث حول “جدل المدنية” في الشارع اليمني وفي الفضاء الالكتروني منذ ثورة فبراير 2011 إلى أيامنا هذه، وذكرت تحول الجدل منذ العام 2015 إلى “جدل حول العلمانية”، ومع ذلك التحول ظهرت أسئلة وإشكالات أخرى، هي ليست جدالات جديدة، وإنما هي امتداد لجدل الإسلاميين والعلمانيين منذ عقود مضت، ولكنها دخلت الحقل اليمني متأخراً نوعاً ما، وأتحدث عنها عن جدل استجد مع ثورات الربيع العربي، بعد بروز فريق من الإسلاميين تخفف من خطابه القديم وبدأ تفهم المشكلات والتخوفات الحقيقية عند خصمه، وبالمثل كذلك عند العلمانيين الذين برز فريق منهم لم يعد يتحدث عن قطعية كاملة مع الدين، كل هذا مع بقاء فريق من الإسلاميين والعلمانيين على مواقفهم التقليدية السابقة.

جدل التعريف:

أكثر الجدالات يمنياً وعربياً كان ولازال حول “العلمانية” هو في تعريف المفهوم ذاته، ذلك أن المفهوم غير متفق عليه في الأدبيات السياسية الغربية ذاتها، فما بين تعريف إجرائي يهدف إلى تنظيم الحياة السياسية وهو التعريف المشهور بـ”فصل المؤسسات الدينية (الكنسية) عن المؤسسات السياسية (الدولة)، والذي يختصر بـ”فصل الدين عن الدولة”، وتعريف فكري فلسفي يتوسع ليشمل مناحي الحياة المختلفة بما فيها السياسة والاجتماع، وأشهر تعريف له هو الذي صاغه الإنجليزي هوليوك في العام 1851 حيث عرف العلمانية بأنها: “الإيمان بإمكانية إصلاح حال الإنسان من خلال الطرق المادية، دون التصدي لقضية الإيمان، سواء بالقبول أو الرفض([1]).

العمل الفني لهيا مرتضى

كان الجدل اليمني حول هذين المفهومين للعلمانية على مستويين: الأول وهو الغالب، جدل سطحي يدور بين كثير من الشباب بدوافع أيديولوجية، وهذا الجدل السطحي لا يحرك المياه الراكدة، ولا يدفع للأمام في سبيل التعايش، وإنما يحقق وهم انتصار عن صاحبه أنه استطاع أن يستغل الموقف أو الحدث ليقول “انظروا العلمانية هي الحل” أو “انظروا الإسلام هو الحل” دون تقديم دراسة وتحليل لكيفية كونهما حلاً، ذلك أن الشيطان يكمن في التفاصيل كما يقال، والحل لمشكلات مركبة في مجتمعاتنا ليس حبة “بندول” يمكن أن تعطيها إياه فيشفى، وإنما يحتاج لحلول مركبة مبنية على دراسة معمقة، وفهم للواقع ومشكلاته.

عادة هذه الجدالات السطحية الشعبوية موجودة في كل مجتمع، ولكنها في كثير من المجتمعات وخاصة تلك التي صار وعيها أكبر تخضع وتنصت لجدالات المستوى الثاني: وهو المستوى المعرفي الذي يدرك الإشكال الحقيقي حول المفاهيم، وهذا مع وجوده في مجتمعنا اليمني إلا أنه ضعيف ولم يتحول بعد لظاهرة توجه المجتمع.

 وقد تركز الجدل في المستوى الثاني على ثلاث إشكالات: أولها ما المقصود بالعلمانية هل ذلك المفهوم السياسي أم المعرفي الفلسفي، لأن ما سيبنى على ذلك سيكون مختلفاً، فالإسلامي “المتنور” لن يقبل بالمفهوم الفلسفي لأنه يلغي مرجعيته في الأخلاق والسياسة والاجتماع، بينما سيقبل النقاش والتفاوض في صيغة سياسية تلغي سلطة رجال الدين، وتنحيهم جانباً إلا عبر الأطر الديمقراطية، لكن المرجعية الدينية ستبقى أساساً في بقية مناحي الحياة، ومكان جدلها هو المجتمع المدني لا النضال السياسي، إذ هدف النضال السياسي هو تسوية الأرض بين الفرقاء لينالوا حقوقهم الأساسية ثم ليتركوا الباقي لإقناع المجتمع وما تفرزه قناعات وإيمان المجتمع، على أن يكون المجتمع مفتوحاً لسماع الخطابات المختلفة. وهذا الالتباس حول مفهوم العلمانية ما بين الإجرائي السياسي والمعرفي الفلسفي هو ما جعل ذلك الفريق المتنور إسلامياً لأن يدعو لاستبدال “العلمانية” بـ “المدنية” لتكون “المدنية” أكثر ضبطاً للمقصود السياسي الإجرائي دون غيره.

هذا ما يخص الفريق الإسلامي، أما الفريق العلماني فهناك من يوضح مقصده بالعلمانية بالمعنى السياسي، وهناك من يقصد المعنى المعرفي الفلسفي، وهناك من يتنقل بين هذا وذاك بحسب المزاج العام في المجتمع، أو لأنه ينكر وجود مفهومين للعلمانية، وهذا الاختلاف بين أفراد هذا التيار عمًق الجدل، وباعد نقاط الالتقاء.

العمل الفني لهيا مرتضى

مشكلات الترجمة:

من يعود إلى دراسة سياقات الصراع الكنسي السياسي في تاريخ أوروبا منذ اعتنقت الدولة الرومانية المسيحية ثم العصور الوسطى ثم عصر النهضة وعصر التنوير إلى الوقت المعاصر سيتضح له لماذا برز مفهومان للعلمانية، فالسلطة الكنسية كانت مهيمنة على نواحي الحياة المختلفة، مما جعل السياسة في حرب دائمة معها حتى تمكنت من الحكم المطلق الجامع بين سلطتين دينية وسياسية، ثم جاءت الثورات ضد ذلك الحكم المطلق وتكونت المفاهيم الفكرية ثم صارت قوانين تنظم الحياة السياسية،([2]) وربما تكشف لنا المصطلحات الغربية جزءاً من ذلك، فالعلمانية ترجمة لمصطلحين في التراث الغربي هما “اللائكية””  le laïcité و”السكيولارية” Secularism، وكان الأولى أن تكون ترجمة العلمانية للائكية، أما “السكيولارية” فالترجمة الأدق لها هي “الدنيوية” أو “الزمنية” أو “الدهرية” وهذا ما أكده كثير من الباحثين([3]) .

ولكل من المصطلحين تأثر بالسياق الاجتماعي الأوروبي فاللائكية مفهوم نشأ في المجتمعات الكاثوليكية التي كانت فيها سلطة الكنيسة قوية ومستبدة، ولذا كان صارماً مع سلطة الكنيسة ونادى بفصلها، وهذا ما جعل المفهوم إجرائياً سياسياً، رغم اختلافهم فيما بعد حول صرامته، هل تبقى بعد أن ضعفت الكنيسة أو يتخفف وينفتح أكثر وهو ما دعا له بشدة الفيلسوفان الألماني هابرماس والكندي تشارلز تايلور، وفرنسا هي المثال الأبرز لتلك الصرامة العلمانية، لأنها كانت الأكثر معاناة من استبداد الكنيسة، أما السكيولارية فمفهوم نشأ في المجتمعات البروتستانتية، وهي مجتمعات لا تتسلط فيها الكنيسة بل تعيش على وفاق مع السلطة السياسية، وقد تديرها السلطة السياسية ذاتها، وهذا ما أدى إلى بروز المفهوم المعرفي والفلسفي للعلمانية، فمع كونها مرنة في التعامل مع الدين إلا أنها تشمل استبعاد أفكاره من شتى النواحي وتستبدل مكانه مطلقات جديدة، ونموذج بريطانيا هو الأقرب لذلك.

وقد كُشف مؤخراً عن مخطوطات عربية مسيحية قديمة استخدم فيها مصطلح “العلماني” تعود للقرن الرابع الهجري، وقد استخدمتها الكنائس المشرقية في التمييز بين رجال الدين والعامّة (وغالبًا ما تستخدم الكنائس لفظ الشعب أيضًا). وهو مختلف عما صار يحمله اليوم مصطلح “علمانية” المجرد بوصفه مصطلحًا (للدلالة على تيار فكري أيديولوجي بشأن علاقة الدين بالدولة وغيرها من المسائل) فلم تستخدمه الكنائس الغربية ولا الشرقية، بل استُخدم من طرف منظّري هذا التيار نفسه في القرن التاسع عشر ([4]).

ولعل اختيار صاحب أول قاموس عربي/فرنسي وهو المصري القبطي إلياس بقطر ترجمة ((Secularism بـ العلمانية في معجمه عام 1818المطبوع عام 1827 كان اتصالاً بالتراث المسيحي العربي، فاختار تلك الترجمة التي كان يقصد بها الرجل العامي مقابل رجل الدين في الكنيسة، وليس العَالم الدنيوي المقابل للعَالم الأخروي.

العلمانية والعلم:

هذا سيقودنا إلى جدل آخر حول “العلمانية والعلم” فبعض المفكرين العرب كعبدالله العروي يرى أن “العِلمانية” بكسر العين، وأنها مشتقة من العِلم، ولا يخالفه عزيز العظمة بل يراها صالحة بالكسر وبالفتح، أما الكسر فكون النظرة العلمية هو البديل عن النظرة الدينية([5]). بينما يرى أغلب المفكرين أنها بالفتح اشتقاقاً من العالم، ولكن هذا الجدل هو أخف الجدالات في المجتمع اليمني، وربما كان الجدل الأكبر في علاقة الدين بالعلم، هو حول النظريات العلمية التي قد يراها إسلاميون وعلمانيون متناقضة مع الدين، ويراها آخرون أنها غير متناقضة، وهذا جدل لا مجال لتفصيله في هذا المقال، ويتبعه أيضاً جدل ما يسمى “الإعجاز العلمي” الذي يتبناه بعض الإسلاميين.

العلمانية والديمقراطية:

من الجدالات المهمة حول العلمانية هو علاقتها مع الديمقراطية، فبينما يرى فريق من الإسلاميين أن العلمانية كانت غير ديمقراطية في بلدان مثل الاتحاد السوفيتي (ستالين) وألمانيا (هتلر) وإيطاليا (موسوليني)، يرى الفريق العلماني أن تلك الدول غير علمانية أساساً، لأنها غير ديمقراطية، بينما يرى آخرون أنها علمانية أخلت بالديمقراطية، وعلاقة الديمقراطية بالعلمانية إشكال يوقع الخطاب العلماني في تناقض، لأنه إن أفرد العلمانية كقيمة ولم يعد يربطها بالديمقراطية، فإنه سيكون مؤيداً ضمناً للاستبداد ضد الدين والمتدينين، أو لا يهمه ذلك الاستبداد في خطابه، وهو ما يراه إسلاميون متنورون نية سيئة تجاه الإسلاميين عموماً، وإن أدرجها ضمن الديمقراطية باعتبارها مبدأ من مبادئها فقد شعار “الدولة العلمانية” الذي يرفعه في مقابل خصومه، إذ سيكون الشعار “الدولة الديمقراطية” والتي تشمل عدة مبادئ منها العلمانية، وهذا ما ينبغي برأيي أن يتجه له العلماني العربي عموماً واليمني خصوصاً حتى يكون أكثر اتساقاً، وأكثر اهتماماً بتحقيق مضمون المفاهيم لا شكلياتها وخاصة في الشأن السياسي.

العمل الفني لهيا مرتضى

العلمانية والإلحاد:

ومن جدالات العلمانية علاقتها بالإلحاد، وهذا هو أكثر الجدالات بين عموم الإسلاميين والعلمانيين، وهو الجدل الذي وجد له متطرفون من الفريقين، دفعوا بتلك العلاقة للتأكيد، فالخطاب الإسلامي التقليدي في عقوده الماضية رسخ في الأذهان أنه العلمانية هي الإلحاد والعلماني هو الملحد، دون دراسة للمفاهيم وسياقاتها، وأنواعها وفروقها، فبرغم أن كل الملحدين علمانيون، لكن ليس بالضرورة أن كل العلمانيين ملحدون، إذ هناك من يتبنى المفهوم السياسي للعلمانية برغم إيمانه وبقاءه على دينه، ويرى هؤلاء أن مسمى علمانية يطلق على الدولة ونظام الحكم لا على الفرد، وإزاء هذا الخطاب الإسلامي كان هناك خطاب علماني يسخر من كل ما هو ديني، ويربط بين سخريته تلك وعلمانيته، بل وصلت أحياناً لتأييده أي انتهاك لحقوق خصمه الإسلامي ويعتبر ذلك علمانية، وهذه حالة زائفة ظهرت بعد الربيع العربي لا يهمها التعايش، بقدر ما يهمها النكاية بالخصم أو الانتقام منه، وهي حالة لا يسلم منها أي تيار سواء كان إسلامياً أو علمانياً.

إن من حق أي فرد أن يختار الدين أو المذهب الذي يريد، ومن حقه أن يجادل في إطار المجتمع المدني بما يراه الأصح أو الأنسب، ولكن في المجال السياسي الأخلاقي علينا أن نحفظ الحقوق الأساسية للإنسان، أي إنسان كان وعلى أي مذهب أو دين، فإذا تأسست الحريات والمواطنة المتساوية وصارت أرضيتها صلبة تحفظ وجودنا جميعاً، فلندع حينها للمواقف المعرفية مرونتها في إطار المجتمع المدني.

تلك القيم الأساسية من الحرية والمواطنة المتساوية لن يختلف عليها الإسلامي العاقل ولا العلماني العاقل، وتعزيزها أولاً يحفظ حقهما الأساسي في الحياة، ومن ثم يبقى جدلهما السياسي والمعرفي في إطاره الطبيعي بعيداً عن لغة القوة والعنف، سواء كانت ذلك العنف والإرهاب عن طريق تكفير الخصم والحكم بارتداده، وما يتبع ذلك من دعوة لمعاقبته بما سموه حد الردة والذي يرفضه إسلاميون آخرون، أو عن طريق التواطؤ مع الأنظمة الاستبدادية والسياسات الإقليمية لإقصاء تيارات الإسلام السياسي في المنطقة، وأقصد تحديداً المؤمنة بالديمقراطية منها، والتي شكلت أحزاباً وخاضت انتخابات مع خصومها.

ومن الجدالات التي أخذت مساحة لا بأس بها في الإعلام هو مدى وجود المظاهر الدينية في الدول العلمانية، ومدى التصريح بمصطلح العلمانية في الدساتير، وإلى أي مدى ينبغي إعادة التفكير في العلمانية من خلال التركيز على مبادئها من حرية الضمير والمواطنة المتساوية، لا إجراءات الفصل التي ستختلف من مجتمع لآخر بحسب ثقافته، وهذا ما يدعو إليه الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور([6]) ويقبله فريق من الإسلاميين المتنورين، وهذا الجدل أخذ مساحة كبيرة، ولا تستطيع هذه السطور اختزاله، لكن يكفي الإشارة له هنا باختصار، وتكمن أهميته في دخوله مباشرة في التفاصيل التي تحدد بوضوح حدود المفاهيم، ومدى واقعيتها، وكيف يؤثر الواقع الاجتماعي في تعديلها، وكيف أن التطبيق في الواقع وتلمس الصعاب يجعل المتصارعين أكثر عقلانية وأخف صرامة. 


([1]) انظر العلمانية تحت المجهر، عبد الوهاب المسيري ص14.

([2]) انظر العلمانية والدولة المدنية، عبد الرحيم علام ص407.

([3]) انظر نحو الدولة المدنية، سليم إبراهيم ص 30.

([4]) انظر مقال عزمي بشارة (لفظ “علمانية” من القرن الرابع الهجري) على موقع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.

([5]) انظر العلمانية تحت المجهر، عزيز العظمة ص156.

([6]) انظر العلمانية وحرية الضمير تشارلز تايلور ص33.

 

اظهر المزيد

Abdullah Al-Qaisi

An academic and a researcher in thought and philosophy. He holds a doctorate in Islamic Thought and is the president of the Tamden Organization for Intellectual Development (Yemen). He writes for a number of magazines and websites, and has published several books on Islamic thought.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى