رأي
أخر الأخبار

في محبة رضوى عاشور

This post is also available in: English (الإنجليزية)

امرأة تحكي

برق اسمها أمامي وأنا أفتش عن روايات عربية مختلفة في زيارتي الأولى للقاهرة: رضوى عاشور. كنت وقتها في بداية مراهقتي، أتباهى أمام نفسي بقدرتي الجديدة على قراءة كتب “غير ملونة” تبدو أكثر تعقيدًا دون صور ورسومات. تشبه كتب الكبار التي أراهم يتحدثون عنها في محافلهم.

ولكن اللقاء بكلماتها حقًا لم يتم إلا بعدها بسنوات طوال. كنتُ أفكر كثيرًا وقتها خاصة في بداية مسيرتي مع القراءة الأدبية، في المساحة المحدودة التي فُرضت على النساء الأديبات وحصرت أعمالهن في قوالب معدة مسبقاً تقلل من قيمة أعمالهن الأدبية وتتهمها بابتداع البكائيات، والعواطف غير المبررة، والمنافية للمنطق والهيستيريا، والاستطراد في الوصف وإلى ما ذلك من صفات تتسم بها في الحقيقة كتابات بعض الرجال الأدباء؛ الذين على عكس النساء تقابل أعمالهم بالإطراء. ومهما حاولت الكثيرات تحدي هذه القوالب، فإنهن لا يسلمن من النقد على أية حال، سواءً إذا ما تناولن قضايا تختلف عن العناوين التقليدية التي “يجب” عليهن تناولها، أو قررن تناول ذات المواضيع.

رضوى… صوت امرأة وددتُ التعرف عليه بعد هوسي بأسماء أخرى كمي زيادة مثلًا، غير أنني حينها شعرتُ بارتباط غريب بها دون أن أفهم سببه بشكل واضح. مع الوقت فهمت السبب، فرضوى خرقت كل الحواجز والقوالب لتكتب عن كل ما تبنته من قضايا. هناك كاتبات قمن بهدم ذات الجدار بالتأكيد، ولكنني ارتبطتُ برضوى بشكل خاص ولأسباب كثيرة على رأسها شعورها بأحقية التحدث عن كل ما هو مهم بالنسبة لها.

كان أول كتاب أقرأه لها هو روايتها “غرناطة”[1]. قرأتها على مدار 3 أيام من شاشة جهاز الكمبيوتر لعدم حصولي عليها ورقيًا. كانت الكتب الإلكترونية قد بزغت آنذاك، ولم أفضلها على الكتب الورقية أبدًا كونها تجعل مهمة القراءة أكثر إنهاكًا، ولكن شعوري بالفضول كان أعظم من أي مشقة.

ظهرت شخصيات المرأة والرجل بالنسبة لي في روايات رضوى في أشكال مختلفة ومتنوعة، بعيدة نوعًا ما عن تلك الشخصيات النمطية التي اعتدت رؤيتها في قراءات عديدة. بدت لي واقعية إلى حد كبير، تمثل بشرًا عاديين يمتلكون جوانب وصفات مختلفة ومتناقضة في بعض الأحيان. كالكرة الأرضية مثلًا حين تدور حول نفسها جالبة الليل والنهار؛ فالأرض هي ذاتها ليلًا ونهارًا، وكون الشمس تشرق وتغرب عليها لا يعني أن ليست مضيئة ومظلمة في الوقت ذاته. فلم يُنظر للشخصيات على أنها ذات جانب وقالب أحادي فقط، وكأنها لا تستطيع أن تتسع للجوانب البشرية المعقدة الأبعد كل البعد من الأحادية؟ سألتُ نفسي حين انتهيتُ من تلك الرواية: كيف فعلتِها يا رضوى؟ كيف استطعتِ أن تجعلي معظم شخصياتكِ من لحم ودم؟ ازداد فضولي وشغفي بها منذ ذلك الحين، هذه المرأة التي تكتب عن أشياء تبدو مثيرة لاهتمامي.

العمل الفني لمنتهى جباري

رضوى الشاعرة التي لم تكتمل

تقول رضوى إنها حين التقت بمريد البرغوثي وسمعته يلقي قصيدة له في طرقات جامعة القاهرة، توقفتْ هي عن كتابة الشعر بعدها لفرط إعجابها بما سمعته. أعلم أن الحب والمشاعر الصادقة تبرز أجمل ما فينا؛ ولكن هل توقفتْ عن قرض الشعر حين وجدت بأن الإسهاب يناسبها أكثر؟ أشعر حتى الآن بالفضول إزاء ما كتبته رضوى من الشعر. هل قرأه مريد، أم أنها أخفته عن رفيق عمرها وحبيبها؟

علاقتي بالشعر -هذا اللون الأدبي المهضوم حقه- كانت علاقة المحب الذي لا يتقنه؛ فقد حاولتُ كتابة الأشعار كثيرًا في مراهقتي، ولكنني انتهيتُ لعالم القصة والسرد لفرط حبي للحكايات. فهل كانت رضوى مهووسة بالحكايات لتترك الشعر من أجلها؟

بحثتُ كثيرًا عن شيء من شعرها، ولكنني لم أجد سوى النثر، باستثناء المصادر التي حوت ترجماتها لشعر ابنها تميم البرغوثي. كان الأمر غريبًا عليّ قليلًا، فعلاقتي بالشعر العربي تحديدًا علاقة معقدة للغاية، حيث أتقبل قراءة كل ما يمكن ترجمته من الأدب للعربية أو الإنجليزية إلا الشعر! ارتبط الشعر عندي باللغة العربية فقط منذ وقت طويل، مما جعلني لا أتعرف على نتاج لشعراء من ثقافات أخرى إلا فيما ندر.

قرأت بعضًا من الأشعار، ثم بحثتُ أكثر حتى اهتديت إلى أنها ترجمت ديوان زوجها مريد “منتصف الليل” كاملًا إلى الإنجليزية. لم أجد الديوان المترجم، ولكنني وجدت قصائد منه. وضعتُ الترجمة بجانب القصائد العربية، وقارنتهما معًا.

فكرتُ مطولًا في ذلك الوقت عن ما إذا كان الشعر المترجم يستطيع الاحتفاظ بكيانه وكينونته. إذا كانت الكتب تفقد الكثير من معانيها عند الترجمة، فكيف بالشعر العربي المعقد في تركيباته، بحوره وأوزانه؟ انفتحت عينيّ بعد هذه الحادثة على عوالم الشعر غير العربي، وبدأت أفتش في مكتبة والديّ عن أشعار مترجمة من لغات أخرى، بعد أن كانت أشعار أمي الإنجليزية هي كل ما أقرأ بلغة غير العربية، والتي كانت في روحها عربية على أية حال. ليُترجم الشعر بهذه الطريقة، فعلى المترجم أن يتقمص النص وأن يتحدث باسمه، وفي الشعر تحديدًا عليه أن يقتصد بالكلمات. استطاعت رضوى أن تُسكت الروائية القاصة داخلها، وأن تلعب دور المترجمة المحترفة التي توجز وتختصر.

اكتفت رضوى بأن تترجم الشعر الذي أسرها في أول لقاء بمريد، ولم تعد إلى قرضه بعد ذلك. استمرتْ في إطلاق لفظ أكاديمية وكاتبة على نفسها دون أن تحكي عن تجربتها مع الكلمات المقتضبة. في إحدى اقتباساتها، تحدثتْ عن شعورها بالحسرة على عدم كونها شاعرة تستطيع وصف مشهد حالم (ميدان ثورة يناير 2011) بتفاصيله بالنسبة لها:

“قد يكون الشِعر وحده قادرًا على التعبير عنه، لأن لغة الشِعر تُجمّل وتُكثّف وتُحمِّل الكلمات مُمكنها الأقصى، كأنها تدفع بها دفعاً إلى حافة هذا الممكن ولا توقفها إلا وهي على وشك السقوط، تكاد تسقط ولا تسقط. لست شاعرة، أنا مجرد امرأة لها عينان مفتوحتان مكّناتها من أن ترى ما ترى”[2].

بقيتْ رضوى بالنسبة لي أكثر من امرأة ترى ما تراه، فهي ترى ما لا يُرى بسهولة، وبسببها، أصبحتُ حتى اليوم أتذوق الأشعار المترجمة وأنتشي بها.

رضوى تحمّل نفسها فوق ما تطيق

مَنْ يقرأ في سيرة رضوى أو يسمع عنها من كل مَنْ يعرفها شخصيًا يشعر بمدى قوة شخصيتها وعنادها حين يتعلق الأمر بأي قضية تتبناها. ولكن، ربما أكثر ما لفت نظري في كتاباتها هو وجود هذه العقدة المتأصلة في نفوس مَنْ يتوقعون الكثير من أنفسهم: عقدة الشعور بالذنب. لا أعرف إن كان من العدل إلصاق بعضًا من الصفات التي كانت في شخصيات رواياتها بها هي شخصيًا، فالكاتب في العادة ينفصل عما يكتبه ويدع شخصياته تتحدث عن نفسها؛ ولكن هناك هذا الخيط الخفي الذي كنت أقتفي أثره وصل بي لنفس الاستنتاج الذي يقول لي: رضوى تحمل نفسها فوق ما تطيق. حين يكون المرء برقة وحساسية رضوى، يتلازم مع هاتين الصفتين شعور عارم بالمسؤولية تجاه كل شيء. ويترتب على هذه المسؤولية إحساس متجذر بالذنب على عدم المشاركة دائمًا في التصدي للظلم المستشري في هذا العالم. شعرت في الكثير من كتاباتها بأنها تحكي عما كانت تريد فعله، ربما، فلم تستطع. ترفض إعطاء نفسها المبررات، فتصنع شخصيات موازية لها، علّها تقوم بما لم تفعله هي -لا تخاذلًا- إنما لظروف قاهرة ومؤلمة. في إحدى الروايات التي كتبتها، تقول على لسان البطلة:

“وأشعر بالذنب كلما مات زميل من زملائي كأنني تركته يتحمل عبئًا لم أشاركه فيه. ربما يكون كلامي وهمًا أخفي به حقيقة أنني أشعر بالذنب كلما نظرت حولي، فيتأكد لي أننا نترك للصغار خرابًا نطالبهم بالعيش فيه”[3].

في أكثر من عمل لها، تبدو شخصيات رضوى مثقلة بأسئلة يصعب الإجابة عنها تجاه عالمها، تحترف جلد ذاتها على أمور خارج سيطرتها، حاملة الكرة الأرضية بأكملها على رأسها أينما ولت. ورغم كل هذا الألم، فإن رضوى كانت تدهشني دائمًا في قدرتها على ممارسة الأمل وعدم الانهزام. لطالما أردتُ سؤالها: كيف يشعر المرء بالذنب دون عجز؟ كيف يمكنه ألا يستسلم لليأس واللا جدوى، فينهض من خيبة بعد أخرى؟

وجدتُ إجابة سؤالي في كلمات رضوى الكثيرة، في قدرتها على أن تعرض الآلام الغائرة وكأنها أمر طبيعي يمكن التعافي منه، بل يمكن عنادها والتمرد عليها بسهولة! رضوى تسخر من الواقع بأسلوبها الفريد، مَلكَةٌ مصرية أصيلة تعين المرء على تلافي الخيبات في الحياة تطبعتْ بقدرتها الأدبية على أن تسخر من كل الألم. رضوى كذلك تُسّخر كلماتها وخيالها لتصنع واقعًا مغايرًا لكل شيء، كعادة الكتاب الذين يجدون متعة ومعنى في خلق واقع جديد على الورق. في ذات الرواية تقول رضوى على لسان بطلتها:

“أحيانًا أقول: فيكِ يا ندى عنجهية وفيكِ غرور. لستِ بهذا القدر من الذكاء لتستشرفي القادم من السنوات، بل ببساطة، أغوتكِ أمومة الصغيرين فانهمكتِ على طريقتكِ ثم واصلت إلى آخر شوط، حده الأقصى ومداه الأبعد، جنون من جنوناتك، لا أكثر. أقول: ليس هذا صحيحًا، الصحيح أنني بالحدس عرفت أن حرفة البستاني المتواضعة أجدى في سنوات القحط. أيهما أفضل: الموت كمدًا، أم الانهماك في زراعة شتلة في حوض منزلي، أو حبات من الفول على قطنة مبللة في طبق قديم يستقر على النافذة؟”[4].

أدركتُ حينها في الكثير من الأوقات بأن حرفة البستاني البسيط أجدى في سنوات الجفاف والظلام من الموت كمدًا وهمًا، وفهمتُ كيف يشعر الإنسان بالذنب دون عجز.

العمل الفني لمنتهى جباري

التسامح عند الكتابة

الكتابة فعل وحيد جدًا، عملية مؤلمة ومثقلة بالوحدة والتوقعات التي تثقل كاهل مَنْ يكتب عن أي شيء؛ خاصة إن كان يحب هذا الشيء كثيرًا. كلما ازداد وله الكاتب بما يكتب عنه، أصبحت عملية توليد الكلمات وخلق الجمل أمرًا مليئًا بالشك والخوف والقلق. تزداد هذه المشاعر حدة مع العزلة والوحدة التي تتطلبها الكتابة في العادة، خاصة في المشاريع الطويلة التي تتجاوز الأيام والأسابيع.

لا يصل الكاتب إلى التسامح مع كتاباته إلا حين يدرك حقيقة أنه يكتب لولعه بالكتابة نفسها، وحين يتقبل نتاجه ويحبه بشكل أكثر واقعية؛ فقد يكتب ما لا يرضى عنه رغم إعجاب الآخرين به، وقد يكتب ما لا يعجب الآخرين كثيرًا ولكنه يتقبله بكافة إخفاقاته في تلك المرحلة. لا شك أن عملية الكتابة نفسها -رغم إجهادها- تورث في النفس شعورًا بالارتياح والرضى حتى وإن لم تكن مثالية أبدًا، وربما هذا ما يجعل الكاتب يستمر في الكتابة؛ مع اختلاف طبيعة هذا الشعور من كاتب لكاتب بالطبع.

تحدثت رضوى في إحدى كتبها عن الكتابة وعن طبيعة علاقتها بها، وتفاجأتُ بأنها كانت تجلد ذاتها أيضًا في بداية مشوارها مع الكتابة. لم أتوقع أبدًا أن شخصية كرضوى ينتابها هذا الشك والقلق تجاه ما تكتبه. خلق هذا داخلي نوعًا من الألفة، فرضوى تقلق أيضًا، وعملية الكتابة شاقة بالنسبة لها أيضًا من حيث استنزافها للمشاعر والروح. ورغم هذا، شعرتُ بشيء من هذا التسامح الذي وصلتْ إليه مع مرور الوقت تجاه كتاباتها وأعمالها، ورغبتها الصادقة في التعبير عما يخالجها، بل وإلقاء الضوء على هؤلاء الذين تود أن توصل أصواتهم للعالم. تقول عن الأمر:

“عندما غادرت طفولتي وفتحت المنديل المعقود الذي تركته لي أمي وعمتي وجدت بداخله هزيمتهما، بكيت.. ولكني بعد بكاء وتفكير أيضًا، ألقيت بالمنديل وسرت، كنت غاضبة. عدت للكتابة عندما اصطدمت بالسؤال: (ماذا لو أن الموت داهمني؟). ساعتها قررت أنني سأكتب لكي أترك شيئًا في منديلي المعقود وأيضًا لأنني انتبهت – وكنت في الرابعة والثلاثين من عمري – أن القبول بالنسبي أكثر حكمة من التعلق بالمطلق، وأن الوقت قد حان للتحرر من ذلك الشعور بأن عليّ أن آتي بما لم يأتِ به الأوائل، أو أدير ظهري خوفًا وكبرياءً”.[5]

رضوى وصلت إلى تلك المرحلة الجميلة من التسامح مع النفس مع الحفاظ على شعورها العالي بالمسؤولية تجاه الكتابة كفعل إنساني غير كامل؛ حتى أني أشعر بحبها تجاه كل ما كتبته رغم عدم كماله.

حين شرعتُ في كتابة هذا المقال، تذكرتُ هذا الاقتباس تحديدًا وحاولتُ التسامح مع نفسي أكثر؛ فقد كنت حبيسة شعوري بالقلق والخوف تجاه ما سأكتبه عن رضوى التي أحب، فتحررتُ من شعور بأن عليّ أن آتي بما يليق بمحبتي لها مع إدراكي التام بعدم كماله.

لقاء في الحلم

قبل عام تقريبًا من وفاة رضوى رحمها الله، كنت في زيارة قصيرة للغاية للقاهرة، مدينة أحلامي منذ الطفولة. عزمتُ وقتها على لقاء رضوى بأي طريقة، حتى أني بدأتُ أتخيل تفاصيل اللقاء قبل أن يحدث. كنت أشعر بالخجل من نفسي على إقدامي على خطوة كهذه ربما تبدو غير منطقية تمامًا، ولكن الرغبة في التحدث معها ونقاشها ومعرفة رأيها في كتاباتي الطفولية تغلبتْ على خجلي وجلدي المستمر لذاتي. أتذكر حتى الآن كيف ترقرقتْ في عيني الدموع حين أخبرتني سكرتارية قسم الأدب الإنجليزي في جامعة عين شمس بأن “الدكتورة رضوى ليستْ هنا وقد تعود بعد شهر أو شهرين”. تابعتْ بعدها بلهجتها المصرية اللطيفة: “هي مش بترد حد خالص، اكتبي لها رسالة وأنا هوصلها”. كان هذا بعد أن حسبتني ووالدتي فلسطينيتين في الوهلة الأولى، ولكنني وضحتُ لها بخجل أنني من اليمن وبأني فقط من المعجبين بكتاباتها. كيف أوصل لها مشاعري تجاه رضوى؟ كيف أستطيع أن أشرح لأحد عن مشاعري تجاه إنسان لم ألتقِ به مطلقًا، بل لم أتواصل معه أساسًا سوى من خلال قراءتي لكلماته؟

وفي الثلاثين من نوفمبر 2014، قرأتُ خبر وفاة رضوى على منصات التواصل الاجتماعي. شعرتُ وقتها ببرود يطال صدري، بثلج يمسد أركان الروح بتمعن، ويصبغ خلايا العقل بعدها بسريالية مؤلمة. لم تعد هناك كلمات جديدة تقال لأقرأها بعد اليوم…لم يعد هناك أمل في اللقاء إذن. كانت ردة الفعل الطبيعية هي البكاء، فالبكاء من المفترض أن يريح الإنسان؛ ولكن هذه الرغبة تأجلت لأيام حتى أصبح الأمر أكثر وضوحًا في عقلي: رضوى توفت، ولن تغدق علينا جميعًا بكلماتها وروحها المستنيرة بعد اليوم.

العمل الفني لمنتهى جباري

في مطلع 2015، سافرتُ مع والديّ مجددًا إلى القاهرة في رحلة كنت أتوق إليها بشدة. من حسن حظي أني رأيت إعلانًا عن حدث سيُقام في جامعة القاهرة لتأبين رضوى رحمها الله كان بعنوان: “في ذكرى رضوى عاشور”. شعرتُ بالخجل كالعادة، فقد كان معظم الحاضرين ممن يعرفون السيدة رضوى شخصيًا، أو أنهم على معرفة بزوجها مريد رحمه الله وابنها تميم. ولكنني شعرتُ في داخلي بنوع من أحقيتي برضوى، فهي صديقتي ورفيقتي طيلة هذه الأعوام، فكيف لا أذهب إلى حدث كهذا؟

تحدث الكثيرون عنها على المنصة، اقتبسوا من كتاباتها المختلفة، حتى بقيتُ أتخيل رضوى من خلالهم. ما هو شعورهم حين كانوا يلتقون بها، حين درّست بعضًا منهم، حين ناقشتهم في أمور تخصهم؟ كيف كانت تتحدث رضوى بعيدًا عما رأيتُه منها في مقابلاتها القليلة؟ (فقد كنت أعلم أنها تحافظ على خصوصيتها ولا تحب الظهور). خرجتُ من ذلك الحدث وأنا أستحضر رضوى في حياتي دون أن أعرف إن كان هذا يعطيني بعضًا من الأحقية لأحكي عنها كصديقة قريبة من قلبي. ولكنني بعد ذلك الحدث بعام خلال حرب اليمن وظلامها، نمتُ وأنا أقرأ إحدى كتبها بعد أن جافاني النوم لأيام، وهالني ما رأيت.

رأيت رضوى في منامي وهي تحتضنني بحنو وعلى وجهها ابتسامة دافئة. أتذكر أنني قلت لها في حلمي أنني سعيدة بأننا التقينا أخيرًا، فلم تجبني سوى بنفس الابتسامة وبضع كلمات لم أتبينها. استيقظتُ من الحلم وأنا أكاد لا أصدق ما قد رأيته. هل رأيتُها حقًا؟ كنت وكأنني لستُ على اتصال بالحياة الواقعية. شعرتُ بسكينة لم أستطع تفسيرها، دامت لأسابيع وأشهر طويلة. أدركتُ حينها أنها صديقتي.. أن اللقاء الورقي سيذكرني بهذا اللقاء الروحي ما حييت؛ فكلماتها خالدة.

** فارقنا أثناء كتابة هذا المقال الشاعر الكبير مريد البرغوثي، زوج رضوى ورفيقها الأبدي رحمة الله عليهما. كانت علاقتهما فريدة من نوعها، فمن بعضهما استمدا القوة على مجابهة هذه الحياة، وعلى تبني كل هذه القضايا الإنسانية التي دفعا ثمن تبنيها غاليًا. حب صادق ونادر يبدو أسطوريًا عند ذكره.


[1] رواية ثلاثية غرناطة، دار الشروق، 1994.

[2] أثقل من رضوى: مقاطع من سيرة ذاتية، دار الشروق، 2013.

[3] رواية فرج، دار الشروق، 2008.

[4]رواية فرج، دار الشروق، 2008.

[5] أثقل من رضوى: مقاطع من سيرة ذاتية، دار الشروق، 2013.

اظهر المزيد

Kawthar Abdulwahid Alshureify

A Yemeni writer who graduated with a Master’s degree from the Faculty of Electronics and Communications Engineering (specializing in Management of Technology) from the American University in Cairo. She currently works in the field of research and technical content creation. She has two published short story collections entitled Painting to the Sky (2009, Alabbadi Publishing House, Sana’a, Yemen) and Mi’ad (2018, Fadaat for Publishing, Amman, Jordan).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى