This post is also available in: English (الإنجليزية)
لم تستثنِ أعباء الحرب المشتعلة في اليمن منذ نحو ستة أعوام أحداً من اليمنيين واليمنيات. وكلما طالت فترة الحرب، امتدت معاناة المواطنين لتشمل كافة تفاصيل الحياة اليومية. ومن بين أزمات اليمنيين الملحة اليوم أزمة المشتقات النفطية التي ارتفعت أسعارها بنسب تراوحت بين 100% الى 300 % خلال سنوات الحرب. وهو ما تسبب في تقليص فرص اليمنيين في الحصول على المشتقات الضرورية. هذا؛ فضلا عن ارتفاع تعرفة المواصلات العامة والخاصة، وقيمة الدواء، ومولدات الطاقة اللازمة في الحياة اليومية والإنتاج الغذائي. وكل هذا يؤثر بشكل كبير على عمل المرافق الخدمية؛ خاصة قطاع الزراعة.
أزمة الغاز في المدن اليمنية
قبل اندلاع الحرب وتحديدا في العام 2014 كان سعر اسطوانة الغاز في اليمن يصل إلى 1200 ريال (أي نحو ٤ دولارات)، أما اليوم فإن السعر الرسمي يتفاوت من منطقة يمنية إلى أخرى، لكنه في غالبية المناطق اليمنية يصل إلى 5000 ريالا (أي 8 دولارات). فضلا عن أن الحصول على اسطوانة غاز منزلي في المدن اليمنية مهمة محفوفة بالمشقة. ينتظر المواطنون والمواطنات أطفالاً وبالغين أياما في طوابير طويلة تنتهي بالفشل في كثير من الأحيان بسبب عدد أسطوانات الغاز المحدود الذي لا يغطي عدد سكان الحي. وهكذا نرى كل يوم الاسطوانات الخاوية تتدحرج أمام أصحابها مصدرة قعقعة كأنها أصوات لحن بائس يتردد صداه في شوارع المدينة باتجاه المنازل التي بدورها خاوية من الطعام.
وفي الفترات المتقطعة التي يتوفر فيها عدد محدود من اسطوانات الغاز، عليك اولاً تسجيل اسمك في الكشوفات الطويلة لدى عاقل حارتك، فهو وحده يملك القرار في توزيع الاسطوانات. بعد ذلك تنتظر دورك الذي قد يأتي مرة واحدة كل شهر في المتوسط، وخلال هذه الفترة تكون بعض الأسر قد استهلكت نحو اسطوانتي غاز منزلي. وهذه حال من توفرت عنده المقدرة على الشراء من السوق السوداء بأسعار تصل إلى 10 آلاف ريال (نحو 17 دولاراً) للأسطوانة الواحدة. وهو مبلغ قد يبدو قليلاً في نظر من لا يعرف السياق اليمني وأن أعدادا كبيرة من موظفي القطاع الحكومي انقطعت مرتباتهم منذ أربعة أعوام، أما موظفي القطاع الخاص فقد تم تسريح الكثيرين منهم. حدث هذا أثناء فترة الحرب التي ارتفعت خلالها إيجارات المنازل وأسعار المواد الغذائية الرئيسية ومياه الشرب بشكل منقطع النظير.
الريف اليمني وأزمة الغاز: حالة قرية الجعاشي بمحافظة إب
أما الأرياف اليمنية، فنظرا لغياب الأفران المركزية في غالبية مناطقها فإن حاجة السكان للغاز أكثر إلحاحاً من المدن. في القرى، توزع اسطوانات الغاز عبر “العدل” (عمدة القرية) والسلطات المحلية. في الغالب توزع حصص متواضعة تحكمها العلاقات الشخصية.
هنا في قرية الجعاشي بمديرية ريف إب وسط اليمن مجتمع ريفي يعاني من انعدام هذه المادة الهامة والحيوية كغيره من سكان القرى والأرياف. تقع القرية التي يسكنها نحو 3300 نسمة في أعلى قمة جبل بعدان، ويصلها بمدينة إب نقيل شاهق وطريق وعرة، على بعد 12 كيلو متر صعوداً وهبوطاً من وإلى الجبل. هذه الطريق الرئيسية التي لم تعرف الصيانة منذ نحو 6 أعوام وعبثت بها سيول الأمطار وبات الأسفلت المدمر الذي عبدت به الطريق منذ نحو 20 عاما أحد أسباب وعورتها، بعد أن صار متهالكاً. لقد ضاعف هذا الأمر من المشقة التي يتجشمها الأهالي في سبيل الحصول على الخدمات، ,من بينها اسطوانات الغاز. ويعمل أهالي القرية في المحاجر “كسارات أحجار البناء” كما يعملون أيضا في الزراعة وتربية المواشي، بينما ينتشر عدد كبير من شبابها في مدن يمنية عدة كعمال بناء ونجارة ومهن يدوية اخرى للبحث عن مصدر رزق لإعالة أسرهم.
مبادرة عبدالحفيظ العرومي لإنتاج الغاز في قريته
وحين كان أبناء قرية الجعاشي ينتشرون في الجبال والأودية بحثاً عن الحطب كبديل اضطراري للغاز المنزلي الذي انعدم وارتفعت أسعاره إلى مستويات قياسية، كان عبدالحفيظ العرومي وهو أحد شباب القرية غارقا في التفكير ببديل آخر للغاز عدا الحطب الذي لا يمكن لوالدته المسنة جمعه، في مجتمع يوكل مهمة جمع الحطب إلى النساء. عبدالحفيظ شاب في نهاية عقده الثالث وهو العائل الوحيد لأسرته المكونة من ستة أبناء الى جانب زوجته ووالدته المسنة، وهو حاصل على شهادة البكالوريوس في المحاسبة، ويعمل موظفاً حكومياً في مكتب المالية بمديرية الظهار بمدينة إب وسط اليمن كما يعمل أيضاً في الزراعة وتربية المواشي في قريته.
لم يجد الشاب الريفي الطامح بديلاً آخر عن الغاز سوى الغاز ذاته، فشرع في البحث عن إجابة لسؤال ردده كثيراً: “كيف يمكنني إنتاج الغاز بطرق محلية؟” ربما هو سؤال معقد لكن الشاب الثلاثيني كان قد سمع ذات يوم عن إمكانية استخراج الغاز من مخلفات الحيوانات” البيوجاز” بل شاهد برنامجاً تلفزيونياً حول إنتاج الغاز من المخلفات. وللحصول على معلومات كافية انطلق عبدالحفيظ إلى مدينة إب وسط اليمن وشرع في البحث في المكتبات و مقاهي الانترنت واستفسر مختصين وأكاديميين في كلية الزراعة بجامعة المدينة حول إمكانية مشروعه. ومع أن غالبية الردود كانت تخلص إلى أن الأمر فيه صعوبة كبيرة وبأن نسب النجاح متواضعة للغاية، إلا أن عبدالحفيظ كان قد عزم سلفاً على المجازفة وخوض غمار التجربة التي تعد الأولى في منطقته بل ومحافظته ككل، وربما في اليمن بشكل عام. قال لنا عبدالحفيظ: “كنت أعلم جيداً حجم الصعوبات التي تنتظرني، لكننا لن نحقق شيئا إن لم نخض التجربة حتى ولو لم ننجح”.
لا يتمتع عبدالحفيظ بوضع اقتصادي جيد فليس له من دخل سوى مرتبه الشهري المتوقف منذ نحو أربع سنوات كحال غالبية الموظفين الحكوميين في اليمن، إلى جانب أرض زراعية لا تكاد تمنحه ما يسد رمقه ومن يعول، وعدا عن ذلك فمحيطه الاجتماعي محبط للغاية وتلك أبرز الصعوبات التي يواجهها الشاب الذي يتسم دوما بالتطلع للابتكارات، مثلما هو شغوف بالعمل المجتمعي.
حين قال لوالدته أن بقرتها يمكن أن تدر لبناً وغازاً لم يكن عبدالحفيظ يتندر، وهو، وإنْ لم يكن متيقنا من دقة نتائج ما قاله، إلا أنه واجه صعوبة في إقناع والدته بالموافقة على مشروع إنتاج الغاز من فضلات الأبقار. وهي الفكرة التي قابلتها الأم بالرفض القاطع بل واعتبرتها نوعا من الجنون الذي أصاب ابنها الشاب والوحيد بالنسبة لها.
تجارب على طريق النجاح
في ابريل من العام 2016م ، شرع عبدالحفيظ بتنفيذ المشروع وحيداً بعد أن دفع لوالدته مبلغ ستين ألف ريال (نحو 100 دولار أمريكي) من مدخراته كتعويض مسبق عن أي خسائر يمكن ان يحدثها مشروعه، وذلك لطمأنتها من أي أضرار قد تلحق ببقرتها أو المكان المخصص لها. وتقوم فكرة المشروع على جمع فضلات الأبقار “الروث” في حفرة عميقة أو حاويات مغلقة بإحكام وذات شكل اسطواني مغطاة بقبة بلاستيكية من الداخل. تزود الحفرة بروث الحيوانات مع كميات من المياه وبفعل الحرارة الشديدة تحدث تفاعلات كيميائية ينتج عنها غاز الميثالين أو ما يعرف بـ”البيوجاز” الذي ينتج من التخمرات اللاهوائية للمخلفات بفعل البكتريا.
بدأ عبدالحفيظ باستخدام براميل حديدية لوضع المخلفات فيها وإحداث الضغط عليها لكن الفكرة سرعان ما فشلت بعد أن صدأت البراميل، فعاد لاستخدام براميل بلاستيكية لكنه لم ينجح أيضا. كانت المحاولة الثانية معتمدة على استخدام “مدفن” قديم في المنزل وهي حفرة عميقة كان الأجداد الأوائل يستخدمونها لتخزين الحبوب إلا أن جدران المدفن لم تكن بالقوة الكافية لتحمل ضغط الغاز، ففشلت الفكرة مجدداً.
ما سبق كان كافياً لإحباط عبدالحفيظ خاصة مع استمرار تندر الجميع من حوله بمن فيهم زوجته ووالدته وجيرانه. غير أنه لم يستسلم وقرر تنفيذ المشروع بخطوات مرتبة ومتسلسلة، فقام بحفر خزان أرضي في فناء المنزل بصورة أسطوانية الشكل بما فيها قبته التي استهلكت مع جدران الخزان كميات كبيرة من مادة “الإسفلت” لضمان توليد درجة حرارة عالية تعمل على سرعة تخمر الفضلات. وإلى جانب الأحجار استخدم عبدالحفيظ مادتي الاسمنت والحديد لبناء الخزان وبصورة محكمة لا تسمح بدخول الهواء أو خروجه على الإطلاق. ولضمان دخول الفضلات دون دخول الهواء صمم عبدالحفيظ ساقية تنتهي بفتحة على محاذاة الخزان توصل الفضلات إلى داخل الخزان وتكون مغمورة بالماء الذي يحول دون دخول الهواء او خروجه، بينما أوصل الخزان بأنابيب خاصة لنقل الغاز إلى الطابق الثاني حيث يقع مطبخ منزله.
حصاد الصبر والتجريب
بعد نحو 90 يوماً انتهى عبدالحفيظ من إنجاز مشروعه الذي عمل فيه بمفرده منذ الحفر مروراً بالبناء وأعمال السباكة، وها هو اليوم يترقب حصاد ما بذله من جهد ومال، وهو الترقب ذاته الذي ساد أهالي القرية الذين أسرفوا كثيرا في الاستهزاء به حتى بعد أن اكتمل بناء الخزان وقبته التي وصفوها بأنها أشبه بقباب المزارات الدينية.
يقول عبدالحفيظ: ” قبل تجريب المشروع انتابني شعور مختلط بين الخوف والقلق ليس من ضياع جهدي ومالي لأني مقتنع بشرف المحاولة، ولكن مصدر خوفي كان من أهالي القرية وأسرتي بعد أن دخلت معهم جميعا في تحدٍ لإثبات أننا لسنا أقل من أي مجتمع آخر في باقي بلاد العالم ونستطيع إنجاز ما يقوم به غيرنا في المجتمعات الأخرى في حال تسلحنا بالعلم والعمل والإصرار وبأننا بذلك يمكن أن نغيّر حياتنا نحو الأفضل”.
كانت نساء القرية يترددن باستمرار على والدة عبد الحفيظ لزيادة حدة غضبها عليه وسخطها من مشروعه، واليوم أتين لتدشين مرحلة جديدة من الشماتة عند تجريب المشروع اعتقادا منهن بفشله، لكن رؤيتهن للنار المشتعلة تحت براد الشاي والمتولدة من غاز المشروع الجديد أصابهن بالذهول. لقد نجح مشروع عبدالحفيظ واندفع الغاز من الخزان عبر الأنابيب المخصصة له وصولا إلى “البوتجاز” في المطبخ.
وبذات سرعة جريان الغاز عبر الأنابيب انتشر خبر نجاح المشروع بين الأهالي في القرية الذين اكتظت بهم الأزقة المحيطة بمنزل عبدالحفيظ غير مصدقين نبأ نجاح المشروع. يقول عبدالحفيظ: ” كان الأهالي يضعون أيديهم على اللهب للتأكد من أنها نار حقيقة وكادت أصابعهم أن تحترق قبل أن يصدقوا أن مشروعي قد نجح”. ويضيف: “لم أسعد برؤية نار قط كتلك التي اشتعلت بفعل الغاز القادم من مشروعي”. لقد صدق عبدالحفيظ في وعده لوالدته فبقرتها اليوم تدر لبناً وغازاً؛ بل تدر، أيضا، سمادا عضويا شديد الفعالية للزراعة وهو يتولد من بقايا التفاعلات الداخلية بعد خروج غاز الميثان.
تغيرت الصورة النمطية لعبد الحفيظ في أذهان أهالي القرية من شاب عبثي إلى مبدع يدرك حقيقة ما يقول. وها هم الأهالي اليوم يتقدمون بطلبات لعبد الحفيظ لنقل خبرته لهم، وإقامة مشاريع مشابهة تخلصهم من معاناتهم مع الحطب. في نفس الوقت استمر البعض في التقليل من مشروع عبدالحفيظ والتحريض عليه؛ بل وإثارة مخاوف الأهالي من خطورة انفجار خزان الغاز في الحي، غير أن عبدالحفيظ أكد للجميع أنه عزز المشروع بخرسانات سميكة من مختلف الاتجاهات مراعاة لجوانب السلامة.
تنفيذ مشاريع جديدة في القرية وخطط لمشاريع أخرى
بات عبدالحفيظ اليوم عدل القرية التي تندرت ذات يوم بمشروعه في بداياته الاولى، كما أنه يستمر في دعمه لجيل الشباب في القرية. نفذ عبدالحفيظ ومعه عدد من شباب القرية جملة من المشاريع الخدمية في القرية كتعويض للغياب الحكومي ومشاريع التنمية والبنى التحتية المتوقفة منذ سنوات طويلة. فخلال عامي 2019 – 2020 أنجز عبدالحفيظ وشباب قريته عددا كبيرا من المشاريع كرصف الطرقات الترابية، وتوصيل مياه الشرب، وشبكات الكهرباء في الطرقات عبر الطاقة الشمسية، وبناء وتوسعة خزانات مياه الشرب في القرية، وترميم مقبرة وملعب القرية، وطلاء المنازل القديمة، وتنظيف الشوارع وغيرها من المشاريع . إن هذه المشاريع تؤكد على قدرة الشباب اليمني على تحمل المسؤولية وبناء مجتمعات تعاونية بإمكانيات بسيطة. مؤخراً بدأ عبد الحفيظ في التفكير بحلول لانقطاع الكهرباء الحكومية عن قريته منذ سنوات عدة وعدم كفاية الطاقة الشمسية لتلبية كامل احتياج الأهالي من الكهرباء نظرا لكثرة أمطار الصيف في هذه المحافظة الخضراء. هذا الأمر دفعه للتفكير في توليد الطاقة الكهربائية من خلال الرياح، وما زال يبحث حتى اللحظة في كيفية نقل أفكاره إلى أرض الواقع بأقل الإمكانيات المتوفرة.