This post is also available in: English (الإنجليزية)
قبل عشرة أعوام، ومضت بشائر الخلاص الجمعي لليمنيين أثناء الفعل الثوري الشعبي في العام ٢٠١١، حتى ساد اعتقاد متفائل بأن الاستبداد في اليمن آفل دون رجعة، وأن مرحلة مشرقة، بقليل من الصعوبات التي يمكن تجاوزها، ستشكل حاضر ومستقبل البلد نحو الأفضل. ولم يكن هناك حينذاك تصوّر لاحتمال حدوث ما غدا عليه اليمن حاليا بالنظر إلى معطيات تلك المرحلة الثورية الحافلة بالزخم والآمال، والتي استعاد فيها الشباب اليمني قدرتهم على الفعل والتأثير إلى حد جاز فيه القول بثقة كبيرة إنهم كانوا يحيكون بنضالهم الثوري مصيراً جديداً وواعداً لليمن في مشهد كان غاية في التجلي الثوري.
سنحاول من خلال هذه المادة، في جزئين، الوقوف على واقع الشباب اليمني في ظرف الحرب الحالية التي لن يكون مجافياً للحقيقة القول إن اندلاعها كان نتيجة حتمية لثورة ١١فبراير. فالثورة التي شكّل الشباب أغلب قوامها، جوبهت بما كان كافياً لإجهاض هدفها لإسقاط نظام الحكم الاستبدادي السابق الذي رأسه علي عبدالله صالح لأكثر من ثلاثة عقود.
عوامل بددت فرص الخلاص
يمكن القول إن ١١ فبراير شكّل بداية سلسلة الأحداث التي أفضت إلى مأزقنا الحالي بحكم الأخطاء التي وقعت فيها، لكن الثورة في حد ذاتها ليست مسؤولة عن مآلات الحاضر كما يحاول أنصار الثورة المضادة تصويرها لضرب نزاهتها. ففي الواقع مثلت الثورة في حينها فرصة تاريخية للشعب اليمني لإنجاز مصيره الحضاري اللائق بين الأمم، وفتحت آفاق التغيير أمام الشباب الذي هتف للحرية والكرامة والعدالة ناشدًا دولة مدنية كافلة لحقوق اليمنيين كافة.
جسدت ثورة فبراير لأول مرة في تاريخ اليمن المعاصر نموذجاً لنهج النضال السلمي الذي اتبعه الثوار الشباب، وعكس ذلك الأمر أحد جوانب النهج النابع من وعي سياسي كان استثنائياً ومثيراً للإعجاب لسببين، الأول: توافر السلاح في المجتمع اليمني، الأمر الذي جعل احتمال اندلاع ثورة مسلحة وارداً. أما السبب الثاني: فيتمثل في سياسة تجهيل المجتمع الذي قام عليها النظام السابق كي يعيق بزوغ نموذج ثوري كالذي جسدته ثورة فبراير. لذا كانت هذه الثورة بطابعها المدني مفاجأة سياسية وثقافية قياساً بنماذج ثورية عربية أخرى اقتيدت نحو العنف بعد بضعة أسابيع من قيامها في حين ظل النموذج الثوري اليمني سلمياً حتى النهاية. وعلى الرغم من هذا المسار الاستثنائي، فإن ثورة فبراير لم تنجح لأسباب عديدة بعضها يتعلق بأخطاء نضالية، بينما يرتبط بعضها الآخر بسياقات إقليمية، وفي العموم يمكن تحديد أبرز الأسباب التي أضعفت وأفشلت الثورة في ثلاثة عوامل .
العامل الأول: غياب القيادة المستقلة، كان من شأن افتقار الثورة إلى القيادة الذاتية المستقلة أن أصبحت دون قوة متماسكة تصونها من انتهازية القوى السياسية وتحرسها من الانزلاق إلى أشكال الاحتجاج التي يسهل السيطرة عليها، ولهذا السبب تمكنت المعارضة الحزبية من السيطرة على الثورة وتوجيه مساراتها وفق رغبتها في تقاسم السلطة وتصفية ثاراتها التاريخية. وفرطت الأحزاب بالثورة عبر التسوية مع النظام مقابل بعض المكاسب السياسية التي لم تلبِ الحد الأدنى من مطالب الثوار، وكانت تلك التسوية أول حدث قاصم للثورة. وذلك هو الذي مكن النظام السابق من الانقلاب على ما تحقق من مكاسب الثورة. صيغت التسوية السياسية عبر ما سُميّ بالمبادرة الخليجية التي تقدمت بها دول مجلس التعاون الخليجي، التي كان أغلبها مناهضا لثورات الربيع العربي، كخطة لإنهاء المد الثوري في اليمن الذي مثل تهديداً للأنظمة الملكية لتلك الدول. فقد منحت المبادرة التي وُقِّعت في نوفمبر ٢٠١١ بين نظام صالح وأحزاب المعارضة اليمنية التي قدمت نفسها كممثل للثورة، حصانة قانونية تضمن لعلي عبدالله صالح عدم خضوعه للمحاسبة، وجعلت نظامه شريكاً في حكم المرحلة الانتقالية إلى جانب أحزاب المعارضة، الأمر الذي أتاح للرجل الذي كان يمسك بخيوط خراب البلد لأكثر من ثلاثين عاماً الانتقام من الثورة، وما لبث أن أطلق تلك الخيوط بعد مدة زمنية قصيرة نكاية بالثوار والشعب خاصة بعد تحالفه مع جماعة الحوثي المتطرفة التي اتخذت من ثورة فبراير جسراً لعبورها إلى السلطة.
وبالفعل فبمجرد سيطرة الجماعة الحوثية على العاصمة في ٢١ سبتمبر ٢٠١٤، وبدعم لوجستي وسياسي من صالح، انقلبت تلك المجموعة على حكومة الشراكة، التي شُكلت بموجب المبادرة الخليجية، وشرعت في التمدد العسكري إلى باقي مناطق البلد. وهو ما استدعى التدخل الخارجي عبر عملية عسكرية سميّت “عاصفة الحزم” بدأت في ٢٦ مارس ٢٠١٥ بقيادة السعودية والإمارات ضد الحوثيين لتندلع حرب شاملة مازالت تستنزف البلد منذ مارس ٢٠١٥. وفي إطار هذا العامل الجوهري، من المهم التذكير بأن تعثر ثورة فبراير لا يعني أنها كانت خيارا شعبيا خاطئا ولا يجب، بالتالي، أنْ يتحمل الثوار مسؤولية انهيار البلد في حين أن من يتحمل هذه المسؤولية إلى حد كبير هو القيادات الحزبية المعارضة التي أساءت التقدير وخذلت الثورة.
ثانياً: ثورات مضادة تدعمها دول غنية ضد ثورات الربيع العربي، دعمت بعض الملكيات العربية ثورات مضادة للقضاء على أي نماذج ديمقراطية تهدد أنظمتها الملكية. كما استفادت هذه الثورات المضادة من دعم خارجي موجه من قبل “ديمقراطيات” دول الغرب التي تأبى أن تنهض ديمقراطية عربية تسعى إلى العدالة الاجتماعية كونها تهدد مصالحها الاستعمارية في المنطقة. والمعروف أن تلك المصالح الغربية قائمة على دعمها للديكتاتوريات العربية التي تُسهل لتلك القوى الاستعمارية استغلالها لثروات الشعوب مقابل ضمان بقاء زعماء تلك الدكتاتوريات على كرسي الحكم.
ثالثاً: خواء مؤسساتي، دأب نظام صالح على تفريغ مؤسسات الدولة من محتواها الوظيفي ومن استقلاليتها وحياديتها. مكن صالح لوجود نظام شبكة رعاية محسوبية يعتمد على ولاء الأشخاص. ومن هنا، فإن الثورة قد واجهت خواء مؤسساتياً لم يكن يؤهل البلد للانتقال التاريخي إلى طور الحداثة الذي مهدت له الثورة. لم تستطع الثورة بمحدوديتها وقوة الموجة المضادة لها آنذاك أن تقهر هذه العوامل المزمنة المتمثلة في ضعف المؤسسات وقوة الولاء للأشخاص.
مسارات انتهى إليها الشباب بعد أن أجهضت الثورة
بعد انزلاق البلد في أتون حرب شاملة، وجب التساؤل عن ردود أفعال الشباب تجاه الواقع الجديد المفخخ بالصراع والذي يعد انحساراً لأهداف ثورة ١١ فبراير. فهذه الحرب الكارثية أحدثت انتكاسة مضاعفة لتطلعات التغيير، وغدت تجسيداً مرعباً للخسارة وانحسار الطموحات الثورية وتطلعاتها للمستقبل. يجد شباب اليمن اليوم أنفسهم عالقين في مأزق الحرب، وعلى إثر ذلك يتعرضون للاستلاب ويتبدد وجودهم في وطن معمم بالخراب. لقد أضحوا ببساطة جيلاً مهدوراً، تطاله الإحباطات بفعل انعدام فرص الحياة، فيلجؤون لخيارات مُهلكة لمواصلة العيش.
ويمكن حصر المسارات التي انتهى إليها الشباب بعد ست سنوات من الحرب في خمسة نماذج، الأول منها التحق بصفوف القتال مع أطراف الصراع وهو النموذج الذي سنفرد له الجزء الأول من هذا المقال. بينما اتجهت النماذج الأربعة الأخرى في مسارات بعيدة عن الاقتتال سنناقشها في الجزء الثاني.
النموذج الأول: الانخراط في القتال
انخرط قسم من الشباب في القتال لدى أطراف الصراع مدفوعاً بالاضطرار وحالة البطالة وموجة الاستقطاب الحادة التي يتعرض لها، فالحرب تسببت بتعطيل أغلب القطاعات وجعلت من القتال الخيار الأقرب أمام فئة الشباب، كل في صف الطرف الأكثر ضماناً لمصالحه الشخصية أو مصالح أسرته، أو قبيلته، أو منطقته التي ينتمي إليها. ويمكن إجمال هؤلاء في أربعة أصناف:
القتال في صف الحكومة
الشباب الذين التحقوا بصفوف الجيش اليمني التابع للحكومة الشرعية هم غالباً من الذين شكلوا قوام ثورة فبراير قبل في ٢٠١١، فلم يجدوا بُدّاً من الانضمام للجيش معتبرين ذلك نوعاً من مواصلة النضال الثوري في القتال ضد الحوثيين، وحليفهم السابق صالح، بوصفهم قادة الثورة المضادة ولكونهم الامتداد التاريخي لنظام الإمامة الاستبدادي الذي يعتمد على فكرة سلالية ذات أساس ديني للحكم. هؤلاء الشباب يعتقدون أنهم يقاتلون الحوثيين دفاعاً عن ثورتي١١ فبراير ٢٠١١، و٢٦ سبتمبر ١٩٦٢، انتصارا لفكرة الجمهورية، ويرون في القتال إلى جانب الدولة الشرعية امتدادا لنضال تلك الثورتين. وهؤلاء، في غالبيتهم، ينتمون إلى مناطق متفرقة من المحافظات الوسطى والشمالية.
يرى شباب هذا التوجه أن من الأفضل لهم القتال انتصارا للجمهورية والثوابت الوطنية الأخرى، التي تتنافى مع أيديولوجية جماعة الحوثي القائمة على فكرة عرقية عنصرية. وعلى الرغم من عدم ثقتهم بالحكومة الشرعية المرتهنة للسعودية والإمارات، فإنهم يرون في القتال ضد الحوثيين انتصاراً لقيم الجمهورية. فانهيار فكرة النضال السياسي في اليمن وغرق البلد في حرب شرسة بالإضافة إلى تعدد السلطات الحاكمة؛ كل ذلك جعل فكرة النضال السلمي غير مجدية للكثيرين، الأمر الذي دفع بهذا القسم من الشباب إلى الانخراط في القتال إلى جانب الحكومة بصفتها الممثل الشرعي لليمنيين. ويدرك شباب هذا التوجه أن خيارهم في القتال تحت لواء الحكومة قد لا يقود إلى الخلاص، لضعفها وفسادها وارتهانها الكلي للسعودية والإمارات، لكن دافعهم للقتال ضد الحوثيين أكبر من سخطهم ضد الحكومة وخيار القتال هو الأقرب لتطلعاتهم الثورية. ومن هنا، لم يتراجع هؤلاء الشباب عن قتال الحوثيين ضمن إطار الجيش اليمني على الرغم من شحة الدعم العسكري والانقطاع المتواصل لرواتب أفراد الجيش.
القتال في صف الحوثيين
اختار الصنف الثاني من الشباب القتال في صفوف الحوثيين، وهؤلاء هم الذين تمكنت الجماعة من استهدافهم والتأثير عليهم فكريا، ومن ثم استقطابهم ضمن صفوفها. وينتمي أغلبهم إلى المحافظات الشمالية إضافة إلى مجاميع محدودة من المناطق الوسطى. جزء من هذا القسم من الشباب ينتمي إلى حواضن قبلية تتموضع في الأرياف الفقيرة من تلك المحافظات. علاوة على ذلك، فقد استثمر الحوثيون في المفاهيم الحماسية الموروثة في المناطق القبلية التي وقعت تحت سيطرتهم؛ لاسيما في المناطق الشمالية الغربية. فضلا عن الاستغلال الدعائي لمفاهيم وطنية، ومن أهمها الدفاع عن الوطن أمام التدخل الخارجي.
ويجد أتباع هذا المسار الذين يتلقون تعبئة فكرية طائفية أن جماعة الحوثي هي الأقرب لثقافتهم بناء على عوامل من ضمنها الانتماء الجغرافي المشترك إلى المناطق التي تعرف بأنها كانت زيدية المذهب. وهو المذهب الذي يدعي الحوثيون إحياءه والدفاع عنه في وجه من يصمونهم بالتكفييريين والدواعش. ولا يمكن تجاهل أن جزءا من هؤلاء الشباب كانوا مناهضين لثورة فبراير قبل ذلك، وبعضهم كان من أنصار نظام الحكم السابق الذي أطاحت به ثورة فبراير، وقد انخرطوا للقتال مع جماعة الحوثي نكاية بالثورة خلال فترة تحالف الرئيس السابق صالح مع الجماعة ٢٠١٣-٢٠١٧، وبعد انقلاب الحوثيين على صالح وقتله في نهاية العام ٢٠١٧. وبعد ذلك ظل هؤلاء ضمن صفوف الجماعة، بعد أن استقطبتهم وضمنت ولاءهم. إضافة إلى ذلك، يجد هذا القسم من الشباب مصالحه في البقاء ضمن صفوف الحوثيين كونهم يحظون بمناصب عسكرية واجتماعية داخل الجماعة، وبات انتماؤهم إليها ضرورة مالية واجتماعية بالنسبة لهم بعد انهيار العملة المحلية، وتبدد أوجه النشاط الموفرة للعمل والدخل المالي في البلد. ويدخل ضمن المقاتلين في صفوف الجماعة شباب وفتيان ليست لديها ثقافة سياسية ولا حتى تعليم متوسط، ولذلك تستهويهم الدعاية الحوثية القائمة على تمجيد الرجولة والشجاعة، ويجدون في ذلك ما يمنحهم معنى في المجتمع، إضافة إلى الرغبة في تحقيق بعض المكاسب المادية كامتلاك سلاح، وتوفر القات بصورة يومية، وقد يتلقون بعض المال.
القتال في صف السعودية
القسم الثالث اختار القتال في الحدود الجنوبية مع السعودية دفاعاً عن المملكة، وهؤلاء يمثلون أحد أكثر التوجهات يأسًا من الحياة، فقد استقطبتهم السعودية تحت إغراءات المال مستغلة حاجتهم إلى العمل وحالة الحرمان التي تعيشها أسرهم بفعل الفقر الذي أفرزته الحرب. أغلب المنخرطين في هذا المسار ينتمون إلى الفئات الأقل تعليماً والأكثر فقراً في المجتمع اليمني، ويفتقرون إلى الوعي السياسي الذي يؤهلهم لفهم فكرة الصراع الدائر في اليمن، لذا لم يجدوا حرجاً في القتال كمرتزقة دفاعاً عن السعودية.
القتال في صف المجلس الانتقالي والإمارات
يؤلف القسم الرابع من الشباب التشكيلات العسكرية والأمنية لما يُسمى بـ”المجلس الانتقالي الجنوبي” المدعوم من قبل الإمارات، وهؤلاء هم شباب المحافظات الجنوبية الذين تعرضوا للاستقطاب من قبل قوى استغلت المظالم والانتهاكات الفجة التي تعرض لها أبناء المحافظات الجنوبية منذ انتصار صالح في حرب ١٩٩٤ للدعوة إلى الانفصال بدعم من دولة الإمارات العربية المتحدة.
استولى المجلس الانتقالي على الحراك الجنوبي السلمي الذي ناضل ضد نظام صالح في ٢٠٠٧ وحتى ٢٠١١ وحافظ على سلميته، رغم ما واجهه من عنف مسلح واعتقالات طالت قياداته وأفراده من قبل قوى الأمن. والكثير من الشباب الذين اتجهوا إلى صفوف المجلس الانتقالي حالياً كانوا جزءا من نضال الحراك الجنوبي السلمي السابق إيماناً منهم بمطالب المساواة والتقسيم العادل للثروات التي نهبها نظام صالح منذ ١٩٩٤، كما أنهم شاركوا في ثورة فبراير على أمل استعادة مقدراتهم وحقوقهم. غير أن انحسار الخيارات وتأجُج النزعات العنصرية والمناطقية في اليمن بعد اندلاع الحرب، وتعدد السلطات الحاكمة في اليمن؛ كلها عوامل ساهمت في التحاقهم ضمن صفوف “الانتقالي” بوصفه مكوناً جنوبيا قاتل قادته جماعة الحوثي حين اقتحمت عدن ومحافظات جنوبية أخرى في٢٠١٥ في عدوان سافر أعاد ذكريات حرب ١٩٩٤ من جديد. ويرى هذا القسم من الشباب خيار التحاقه في صف الانتقالي فرصة جيدة للحصول على دخل مالي شهري بعد تبدد فرص العمل في محافظاتهم مما جعل تجنيدهم الخيار الأكثر إتاحة.
وعلى الرغم من تباين المسارات التي سلكها شباب اليمن الذين انخرطوا في القتال، فإن جميعها تجسد أحد أكثر المصائر بؤساً لشباب مسلوب الإرادة، والفرص، والخيارات البديلة. وهكذا تمكنت الانتماءات السياسية والأيديولوجية التي يقاتلون تحت رآياتها من جعلهم وقوداً لحرب لا يملكون أي قرار فيها.