المجتمع المدني

تعز .. عمق التمدن و آلام الحرب

This post is also available in: English (الإنجليزية)

محمد المُنيفي طفلٌ في الحادية عشرة من عمره التقيته في إحدى حارات المدينة. يضع محمد سماعات الهاتف على أذنيه الصغيرتين لمشاهدة برامج الكرتون .بصوت مرتفع.  يفعل ذلك محمد، كما قال لي، حتى لا تصله أصوات القذائف التي تنهال على مدينة تعز (وسط اليمن) من قبل المليشيات الموجودة في المدينة

قبل اندلاع الحرب الأهلية، كان محمد يلهو ويلعب مع أصدقائه في حي صينة المعروف بحركته وازدحامه بالسكان ومظاهر الحياة. الأطفال يخترقون الحارات وهدؤها بضجيجهم العذب. ومعهم كان مئات الطلاب يحيون قلب المدينة و أطرافها بحركتهم رائحين و غادين من و إلى مدارسهم وجامعاتهم المختلفة. وإلى جانب اشتهار أهل تعز بحرصهم على العلم والمعرفة تشتهر المدينة بنشاطها التجاري والمهني والحرفي،  فشوارعها تزدحم بالموظفين والباعة من أهل المدينة .ومن خارجها. لكن كل ذلك تغير

 الصور بإذن من ذي يزن العلوي
الصور بإذن من ذي يزن العلوي

 طرقت الحرب أبواب تعز في مارس 2015 فتغيرت ملامح المحافظة مباشرة حيث خفت حركة الناس وسادت حركة المليشيات القادمة من الشمال. تشير آخر الإحصائيات السكانية إلى أن تعز تأتي في المرتبة الأولى على مستوى البلد من حيث عدد السكان الذين بلغوا فيها حضرا وريفا أربعة ملايين نسمة. تُلقب تعز بـ(الحالمة) وتلقب أيضا (بعاصمة الثقافة اليمنية)  ويشتهر عن أهلها ميلهم إلى العمل و التمدن ونبذهم لمظاهر التسلح التقليدية أو المحدثة. لم يعد أحد الآن يذكر بأن تعز حالمة ولا أنها حصن من حصون الثقافة المدنية. بل إن أنشطة الحياة العادية تكاد تغيب عن بعض أحيائها نتيجة لنزوح نصف مليون من سكانها طبقا .لتقرير صادر عن منظمة الصحة العالمية

لم تتمكن براءة الطفولة في تعز من مجابهة كل تلك المعوقات التي تعترض أحلام الصغار والكبار. وفي حين تظهر الضحكات البريئة على وجوه بعض الأطفال .هازئة بالموت والدمار، فقد تمكنت الحرب من قتل ابتسامات البعض الآخر واستبدلتها بالخوف الذي أصبح يسكن قلوبهم وينعكس على قسمات وجوههم

و يذكر الطفل المُنيفي  لـ(المدنية) أنه لم يعد يلعب مع رفاقه في الحي، وأنه لا يرغب في الخروج من المنزل للعب مع أقرانه. وقال إنه يقضي وقته كله في .منزلهم الواقع وسط المدينة مشاهدا أفلام الكرتون ومع الأهل

وعند سؤالي له عن نظرته للحياة ومشاعره في ظل الحرب، رد ساخرا بالقول: “أصبحت سوداء كمثل النينجا الأسود”. والنينجا من مسلسلات الأنيمي المفضلة .لديه. ويسيطر التشاؤم على محمد المنيفي إلى درجة أنه لم يعد يرغب في إكمال دراسته ويتمنى أن يكون “شاعر حرب”. وبهذه الجملة أنهى حديثه معي

وكان التحالف اليمني لرصد انتهاكات حقوق الإنسان في اليمن قد ذكر أن ضحايا الألغام التي زرعها الحوثيون في اليمن وتم رصدها وصل إلى 430 شخصا، .قتل منهم 201، بينهم 16 طفلا، بينما بلغ عدد الجرحى 229 شخصا، بينهم 19 طفلا، خلال يونيو/حزيران الماضي

وبرغم انقطاع بعض الأطفال عن الدراسة في تعز إما لنزوحهم، أو عدم قدرة أهلهم عن توفير متطلبات الدراسة، أو لإغلاق بعض المدارس أبوابها نتيجة لتدهور الوضع الأمني، – برغم ذلك فإن الكثير من الأمهات و الآباء  يحرصون على تعليم أبنائهم. ويأتي حرص هؤلاء الآباء والأمهات على التعليم إيمانا منهم بأن العلم .والتربية صمام الأمان في وجه ثقافة الحرب والسلب والفوضى التي شاعت في الفترة الأخيرة. فبالتعليم يتحقق التمدن والاستقرار المرجوين لتعز ولليمن كلها

ائتلاف الإغاثة الإنسانية بتعز ( منظمة غير حكومية) ذكر، في تقريره الشهري، أن ثمانية أطفال قتلوا في تعز، وأصيب 11 آخرون، وأن الحرب خلفت 648 .يتيما، خلال يوليو/تموز الماضي، في حين تعرض 624 شخصا إلى توقف من كان يعيلهم عن مساعدتهم

نافذة أمل

الشاب المعتصم الجلال، الذي يدرس في كلية الآداب بجامعة تعز، يعيش في منزله الكائن في منطقة بير باشا غربي المدينة، وقد ألجأته الحرب إلى لزوم المنزل في معظم الأحيان. يقول المعتصم: ” المنطقة التي أسكن فيها مكشوفة، وتتعرض لعدة قذائف بين الفينة والأخرى، ما يجعل حياتنا معرضة لخطر حقيقي نتيجة لذلك”. ويستطرد “الحياة تغيرت بشكل ملحوظ للغاية عما كانت عليه قبل الحرب، وأصبحت أقضى معظم الأوقات في المنزل، بعدما كنت أطوف أرجاء المدينة. غير أن الوضع  تعدل الآن بعد توسع نطاق سيطرة المقاومة (القوات التي تساند الحكومة في القتال) في المدينة. أصبح من السهل التنقل والتسوق  بصورة أفضل .من السابق

لكن الروتين الحياتي الذي كان المعتصم معتادا عليه قد تعرقل بفعل الحرب منذ عامين. و تمثل عودة الدراسة في الجامعة هذا العام نافذة أمل ومتنفسا للشاب العشريني المعتصم وزملائه. يؤكد معتصم أن الذهاب إلى الجامعة قد أخرجه من دائرة البؤس التي كانت تحاصره. الأحداث الأخيرة جعلت المعتصم أكثر إصراراً على مواصلة التعلم والتأهيل والمشاركة الفاعلة في الخير العام. وبالانفراجة هذه يرى المعتصم أنه لا ينبغي الاستسلام لظروف الأمر الواقع و أن .بالإمكان العيش أحسن مما كان

وكانت جامعة تعز قد أغلقت أبوابها في منتصف أبريل/نيسان 2015، نتيجة اشتداد الحرب في المحافظة التي تعد حلقة وسطى بين جنوب اليمن وشماله. وتحولت الجامعة خلال فترة الصراع في المدينة إلى ثكنة عسكرية. وبعد أن تحررت الجامعة من سيطرة المليشيات الحوثية تم استئناف العملية التعليمية منتصف يوليو/تموز .2016

الاحتيال على الوجع

تتشابه قصص أغلب ساكني مدينة تعز خلال الحرب، وغالبا ما تشترك في المأساة والألم، لكنها لا تخلو من عنصر الأمل والرغبة في الحياة والإصرار على الاستمتاع بها برغم كل المنغصات.

سماح عملاق، إحدى طالبات كلية الآداب بجامعة تعز، انتقلت للعيش في تعز مطلع شهر نوفمبر/تشرينالثاني 2014، حين كان السلام ما زال يعم المدينة.

وفي حديثها مع (المدنية) تعود قليلا إلى الوراء وتذكر أنها قبل انتقالها إلى تعز قد عانت كثيرا بسبب سفرها شبه اليومي ما بين مقر إقامتها في إب و مكان دراستها في تعز. وهو الأمر الذي كان يزعج أهلها كثيرا لانشغالهم بأعمالهم؛ فسفرها كان يتطلب محرما يرافقها. ثم استقرت سماح في تعز تجنبا للمتاعب. غير أنها، رغم ذلك، كانت تقتطع ما يقارب نصف دخل والدها لتتمكن من الحياة. وقد أتاحت لها الإقامة في تعز الشعور بالراحة النفسية. وتفرغت سماح للتحصيل العلمي والاطلاع اللذين كانت تفتقر إليهما نتيجة لتبخر نصف يومها في مشاوير الذهاب والإياب من إب إلى تعز. كانت مدة السفر بين المحافظتين ساعتين من .الزمن قبل الحرب  و أصبحت  بعد الحرب تصل إلى 5 ساعات بفعل النقاط والتفتيشات وسلوك طرق فرعية متعرجة

 الصور بإذن من ذي يزن العلوي
الصور بإذن من ذي يزن العلوي

 وتؤكد سماح أنها خلال ستة أشهر، فقط، قد حققت مالم تنجزه في سنوات. و تقول إنها تعلمت من تعز معاني الحرية والصمود وقيم الاعتدال والمشاركة الواعية .في قضايا المجتمع المدني

قطار أحلام سماح توقف فجأة بعد أن اندلعت الحرب في وسط مدينة تعز. وتصف الفتاة العشرينية الأمر بقولها أحلامي تراجعت القهقرى، وكأن الحرب آلة عودة .الزمن، سحبتنا إلى الوراء بضع سنوات. وكأن حلما لم يكن”

واضطرت سماح عقب ذلك للعودة إلى إب وسط اليمن. لم يمت حلم سماح تماما. صارت طالبة انتساب نازحة كمئات غيرها من الطلاب في جامعة تعز. وبرغم ظروف النزوح والحرب تذكر سماح أنها تناضل بقلمها. تقول إنها تعض بالنواجذ على أي كتاب قيم تجده وتلتهمه قراءة. وتحرص سماح، كما ذكرت لي، على .أن تبتسم وتشيع البسمة فيمن حولها برغم المعاناة

مخاوف

منذ عشرة أشهر وموظفو الدولة في اليمن يعيشون في ظل ظروف مأساوية بسبب انقطاع المرتبات. و اتهمت الحكومة الحوثيين بإهدار الاحتياطي الأجنبي. وعمدت الحكومة، إثر ذلك، في سبتمبر/أيلول الماضي، إلى نقل البنك المركزي إلى العاصمة المؤقتة عدن.  وهو الأمر الذي أدى إلى تضرر حوالي مليون و200 ألف موظف حكومي. وحتى الآن يرفض طرفا الأزمة (الحوثيون والحكومة) دفع مرتبات موظفي الدولة. وإثر إغلاق كثير من القطاعات العامة والخاصة أبوابها ارتفع مستوى الفقر بشكل كبير. و طبقا لإحصائيات صادرة عن منظمة الصحة العالمية التابعة للأمم المتحدة، فإنَّ 82% من السكان بحاجة إلى مساعدات إنسانية.  وفي وقت سابق أعلنت منظمة الأمم المتحدة أن توقُّف الرواتب قد فاقم من انعدام الأمن الغذائي؛ إذ بات حوالي سبعة ملايين شخص (من أصل  27.4 .مليون نسمة) عرضة للمجاعة

و عند لقائنا بأحد الموظفين في جامعة تعز وهو أبو أسامة المخلافي أبدى لنا شعوره بالاحباط نتيجة تردي وضعه الاقتصادي بعد أن أنفق كل مدخراته وأسرته. لم يعد المخلافي قادرا على توفير متطلبات الحياة الضرورية لأسرته. وذكر لـ(لمدنية) أنه قلق جدا على مصير أطفاله الثلاثة الذين لا يحصلون على تعليم جيد في المدارس الحكومية. والجدير ذكره أن وضع المدارس الحومية بات مزريا، فإثر غياب كثير من طواقمها التحق بعض المتطوعين فيها بشكل عشوائي وذلك من أجل تغطية العجز. ويعوز هؤلاء التأهيل والتنظيم والانتظام. وعلاوة على ذلك تشهد المدارس إضرابا دائما. وذكر لنا المخلافي أنه كغيره ممن هم في طبقته .الاجتماعية غير قادرين على تدريس أبنائهم وبناتهم في مدارس خاصة

 الصور بإذن من ذي يزن العلوي
الصور بإذن من ذي يزن العلوي

 توفير القوت الضروري للأسرة هو  الشاغل الأول والملح لأبي أسامة. وقد اضطرته الظروف إلى أن يعمل كبائع متجول يبيع الأدوية. وتمكن بذلك من إطعام أطفاله وزوجته، غير أن ذلك، كما ذكر لي، ليس كافيا لانتشاله من مربع الهموم التي تطارده. يقول المخلافي: ” أستطيع وأسرتي أن نأكل ونشرب، لكني أخاف كثيرا من تعرض أحد أبنائي للمرض، لأني سأجد صعوبة بالغة في علاجه. كما أخشى كذلك -إن طالت الحرب أكثر- أن يقوم المؤجر الذي سمح لنا بالسكن في .منزله دون ايجار أن يطردنا

مثل أبي أسامة المخلافي كثيرون من أبناء  تعز الذين يكافحون بشكل يومي من أجل استمرار العيش في ظل هذه الصعوبات. وهنالك من حاله أسوأ منه وهنالك من اضطرتهم الظروف للهجرة الشرعية أو النزوح الداخلي أو التهرُّب نحو الخارج.  ومن بقي في تعز بأسرته، كأبي أسامة، فإن الخوف يلازمه على أطفاله الذين تطال آلام الحرب وتبعاتها نفسياتهم. وتبقى الأسئلة المعلقة: أي مستقبل ستخلفه الحرب لأطفال تعز؟ وكيف يمكن للعالم والحكومة معالجة الوضع هنا في .تعز؟. إنها تركة ثقيلة ومأساة إنسانية متفاقمة تطال شريحة واسعة من اليمنيين وفي مقدمتهم الأطفال

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى