أدبالنساء والنوع الاجتماعي
أخر الأخبار

أزرار مفتوحة

This post is also available in: English (الإنجليزية)

أرخت قليلا رباط النقاب خلف رأسها على قفاها، كانت ابنتها قد أحكمت ربطه في الصباح أكثر مما يجب، وظنت طوال الطريق أن صداعاً قد ألمّ بها. اتضح لاحقاً أن صداع الرأس هو مجرد عرَض جانبي للرباط المطبق على رأسها. شدته مرة أخرى، ثم أرخته، وعاودت شده وإرخاءه ست مرات متتالية وهي قلقة من أن يسقط فجأة ويكشف عن رأسها ووجهها. في نفس الوقت وبتركيز شديد تتبعت أثر الصداع وبدأت تحس بالصداع يتكثف حول عينيها. وكانت كلما شدته أحست برأسها يضيق وينكمش وبعينيها يستسلمان لإغماض قسري وبأن خطوطا ملونة تتسابق تحت جفنيها.

أحست بالإنهاك، لذا نكزت الصبي الجالس بجانبها، وطلبت منه بصوت خفيض فيه نبرة توسل أن يتفقد ربطة النقاب:

“سيسقط من على رأسي، أختك لم تصلحه في الصبح” قالت بقلق!

تبرم الفتى، شتم أخته، لكنه أخيرا نهض، أصلح معوزه المشدود حول خصره الصغير، ثم هز رجله اليسرى كي ينفض التراب الذي تسلل إلى صندله المقضوم من الأمام والمحفور عند الكعب. دار حولها وهي جالسة على حجر صغير. تشاجر معها حول طريقة الربط. ثم قليلا حول مدى إحكام الرباط على رأسها. وحين أكملا مشاجرتهما واتفقا على التفاصيل، جذب رأسها صوبه وقبلها باحثا عن رائحتها التي يعرفها، لكنه لم يجدها

” آه، إنها ليست ملابسها، صحيح!” تذكر مطمئنا نفسه.

عادا إلى الانتظار..

تجلس هي الآن تفكر،” بماذا؟” قد يسأل ابنها الجالس بجانبها، “لا شيء على وجه الدقة وربما كل شيء” ستجيب هي لو كانت لديها القدرة على انتقاء تلك الكلمات، لكن بما أنها لم تقرأ كلمات من ذلك النوع، فلن تفكر فيها. ولو سألها ابنها فعلا فيم كانت تفكر؟ لارتبكت قليلا، تتخيل أنها اخترعت حكاية يعرفها. لكنه على أية حال لم يسأل، بل كان يحلم بالغداء الذي سيكون أرزا بلا شك. سيحمل بنفسه كيس الأرز وسيعود به، وستعتني الأخت الكبرى بطبخه بعناية: ستضيف بصلا و صلصة الطماطم والكثير من الفلفل الحار، وستزينه بعشبة “الرجنة” التي ستقطفها من فوق سطح المنزل. وفي منتصف الصحن الكبير سيكون هناك وعاء صغير يحوي الخليط الأحمر “البسباس” بنكهة الثوم الصارخ. ابتسم الفتى من الرضى، وعدّل وضعية المعوز حتى يغطي جيدا ما بين ساقيه.

طالعت المرأة الناس، وطالع فيها الآخرون، مثلما يحدث حين يلتقي غرباء متوجسون من بعضهم، وتسللت الفكرة من رأس الصبي إلى رأسها، فكرت بالغداء، وتمنت لو تستطيع الحصول على أكثر مما يعطونهم في الأصل، لو يستبدلون الفاصوليا غير القابلة للطهي التي تأكلها الغنمات بالطحين حتى تستطيع أن تخبز أكثر. لا ضير أن يعطوهم حبّا وتطحنه بنفسها. ولا ضير أن يعطوهم أي شيء، شريطة أن يكون قابلا للأكل، لكن ما يجلبونه غير كاف، والطريق إليه منهك.

حكّت بأصابعها العظمية منتصف رأسها، يد سمراء مطلية بالبقع الناتجة عن حروق الشمس ونيران التنور والموقد. لا يمكن تحديد اللون الأصلي للجلد. كانت فتحة النقاب المخصصة للعينين أكبر مما يجب نتيجة للتعديل الخاطئ الذي قام به الفتى. تدلت القطعة السفلية من النقاب على الأنف العظمي البارز الذي أوقف تدليها أكثر. أما القطعة العليا فقط ارتفعت قليلا لتظهر جزءا من الحاجبين الذين بديا مرتبين ومتوسطي الكثافة بشكل جميل. وفي الفتحة الكبيرة المخصصة للعينين، يمكنك السقوط في المحجرين الغائرين الذين يحويان عينين صغيرتين جدا أحاطت بهما التجاعيد. تتجسد الصورة النهائية في نظرة الحزن والضياع التي توزعها المرأة للمحيطين.

تأجج الصداع في رأسها بسبب بكاء طفل غير بعيد عنها. تشاغلت عن البكاء بأفكارها ومراقبة الناس: امرأة في الخمسين ربما تجلس قبالتها القرفصاء، تحوط رأسها بحجاب ملون يغلب عليه الأحمر دون أن تغطي وجهها، كفاها برتقاليتان باهتتان بسبب الحناء الذي ربما مضت عليه أيام، كانت ترتدي العباءة السوداء كالآخرين، وتحتها كانت ترتدي بنطالا قماشيا أزرق اللون طرزت حوافه الضيقة القريبة من القدمين بخطوط ذهبية وسوداء، كانت المرأة تبدو منهكة، تجلس منكسة رأسها محيطة ركبتيها بذراعيها غير عابئة بالحشود. استطاعت الأم تحديد ما ترتديه المرأة تحت العباءة وقد بدا مزركشا، ومن موقعها استطاعت الأم أيضا أن تلحظ أن أزرار العباءة كانت مفتوحة، وأن صدر المرأة يكاد يكون مكشوفا، أو أنه مكشوف بالفعل! ارتاعت الأم!

العمل الفني لأماني باحشوان

تحاول الأم الانشغال أكثر، لكن الصراخ الشيطاني للطفل، والضيق الذي أصابها بسبب منظر المرأة الجالسة القرفصاء منعاها من الانشغال عن صداعها. تذكرت المرة الوحيدة التي ذهبت فيها إلى المستشفى حين تسللت حشرة طائرة إلى أنفها ورفضت الخروج رغم كل العطاس الذي سببته. ظلت الأم لثماني عشر ساعة تعطس بلا انقطاع. وكانت الدموع التي تنهمر نتيحة للعطاس قد أحالت عينيها نبعا رقراقا.حاول أولادها الوصول إلى أعماق أنفها بكل الطرق لكن ذلك كان مستحيلا. في اليوم التالي ذهب بها الصبي إلى العيادة التي تحوي غرفتين، إحداهما للكشف، يوجد فيها كرسي واحد للممرضة. كانت الطبيبة في الحالات التي تستدعي خلع الملابس تدخل امرأتين معا حتى تتسع الغرفة الأخرى للزائرات. أمرتها الطبيبة أن تستلقي  وطلبت من الممرضة تثبيت رأسها. وفي اللحظة التي هبط رأسها فيها على السرير اللوحي في العيادة، شاهدت الأم امرأة تجلس القرفصاء تماما كالمرأة الجالسة أمامها الآن، وبنفس الطريقة لم تكن عباءتها بالوضع الصحيح، وكان بنطالها أسود ضيقا. وفي لحظة شاهدت الفتحة التي تضيء ما بين ساقيها. كان بنطالها مقطوعا. ويبدو أن المرأة لم تلاحظ ذلك لأنه كان جديدا ويبدو أنه انقطع وهي تجلس هناك. شغل المنظر بال الأم لدرجة أنها لم تنتبه لما تفعله الطبيبة معها، وحين انتهت منها الطبيبة وأرتها الحشرة الميتة في ملقاطها، ارتبكت الأم، وتناست المرأة ببنطالها الذي يظهر قليلا من لحم فخذها، واستولى على خيالها منظر الحشرة الصغيرة الميتة المبتلة بالمخاط، روعتها فكرة أن هذا الكائن الصغير كاد يتسبب في مقتلها، وما روعها أكثر كانت فكرة أن هذا قد يحدث لها مرارا وتكرارا فكيف يمكنها إغلاق أنفها؟

غادرت الأم مذهولة وحين كانت خارج الغرفة تذكرت المرأة، وأحست بالمرض لأنها لم تحذر المرأة من بنطالها ومن طريقة جلوسها، ظلت مريضة بذلك الذنب لفترة، وكان يراودها حلم ترى فيه فخذي المرأة متدليين بينما تخطو هي عليهما، والآن تشعر بذات المرض من مرأى المرأة أمامها، لذا ستذهب لإخبارها، لا يجوز أن يكون صدر المرأة مكشوفا. علمتها ابنتها التي ذهبت إلى المدرسة أن كل شيء يجب أن يكون تحت رداء وأن يكون محميا من عيون الآخرين، وكل ما هو دون ذلك يسمى خطيئة، ثم ماذا لو رآها الرجال المحيطين بها من كل الاتجاهات؟ و لماذا هي وحيدة؟ فكرت الأم وهي تتمنى أن يكف الطفل عن صراخه ويرحم أمه التي كان زوجها ينهرها كل دقيقة وأخرى، لكنها ما إن تحركت لتذهب إليها حتى علا الغبار وهدير الشاحنات القادمة.

اخترقت شاحنتان ضخمتان الساحة الترابية الكبيرة. وتفرق الناس الذين كانوا يقفون هنا وهناك، ونهضت الأم وأمثالها من الذين كانوا يجلسون بعيدا على حواف الساحة. توقفت الشاحنتان وتحدث رجل بمكبر الصوت قائلا بحماس:

  • سنناديكم وفق الكشوف التي معنا، الرجاء التزام الهدوء والترتيب، لدينا مسلحين جاهزين لفض الاشتباكات. ختم الرجل تصريحه ولم يكن في نبرته أي تهديد، وكأنه يقرأ خبرا عن حالة الطقس.

ومن فوره بدأ النداء، كان الناس يتجهون إلى البوابات الخلفية للشاحنات بعد أن يسمعوا أسماءهم، ويحملون ما هو لهم: كيس أرز 10 كيلو، 5 لتر زيت نباتي، 2 كيلو عدس غريب اللون، كيلو فاصوليا ضخمة زهرية اللون، 10 كيلو طحين أبيض، 5 كيلو سكر أبيض وعلبتين من معجون الطماطم. وبجانب الشاحنتين انتصب ثلاثة رجال مسلحون، يراقبون الناس كالصقور، وقريبا كان رجل منشغلا بالحديث إلى فتى يلتقط صورا بهاتفه، وكان الرجل يشير إلى اللافتة العريضة المعلقة على جدار المبنى الحجري في الخلف.

أعطى الفتى التعليمات للأم ولرفيقه الذي تطوع للحضور لمساعدته وأمه في حمل ما سيحصلون عليه، قسم الفتى الحمولة وأخبرهم ِأن عليهم بمجرد سماع أسمائهم الجري بأقصى سرعة نحو الشاحنات؛ فتأخرهم يعني ضياع حصتهم.

  • صحيح؟ سألت الأم مندهشة
  • نعم، صحيح، رد الفتى وهو يمط الكلمة مقلدا أمه

حين جاء دورهم، نودي الفتى باسم أبيه، فانتفض متيقظا مثل الفهد، وزعق منبها أمه ورفيقه، ثم سبقهم ركضا نحو الشاحنة، تبعت الأم خطوات ابنها المهرول بجسده الضئيل، بدا لها من الخلف أصغر بكثير مما يوحي به وجهه، شعره قاس جاف، و قميصه  الذي رفض تغييره في الصباح كان فضفاضا و متسخا، أما معوزه المشدود فقد أظهر حجم مؤخرته الصغير تماما كما هي، ألقت أيضا نظرة على ساقيه المليئتين بالندبات والجروح، وقدميه المتربتين القاسيتين. أحست بألم، ولم تستطع التحديد إن كان ألم البؤس من منظر ابنها أم إنه قلق من أن يحدث شيء سيئ؛ بل لعله ألم الذنب بشأن المرأة ذات الأزرار المفتوحة، وقد يكون ناتجا عن التصلب الذي تحسه في ساقيها والذي تسبب فيه الجلوس الطويل. تجاهلت الألم الذي سكنها باحتمالاته ومضت تلحق بابنها ورفيقه.

العمل الفني لأماني باحشوان

انتظرت بجانب أحد المسلحين، نظرت إليه خائفة، كان صبيا أكبر من ابنها بقليل، ولديه ذات الهيئة: هيئة الفتى الضائع الذي حُمل لتوه مسؤولية أكبر منه، استبدلت نظرة الخوف بنظرة حنو لم يفهمها الصبي المسلح.

 حملت هي كيس الأرز على رأسها وأردفت عليه كيس السكر ، وفي يدها حملت كيسا فيه العدس والفاصوليا، ثم مضت تسبق الصبيين. كانت قد قررت أنها ستبحث عن المرأة ذات الأزرار، وستزيح عن كاهلها ذلك العبء. أسرعت الخطى وهي تستنشق هواءً ترابيا. كان النقاب يعذبها بالصداع، لكنها امتنت لوجوده فقد حماها من ابتلاع التراب المتطاير في كل الأرجاء.

شقت الحشد محاولة الوصول إلى النقطة التي كانت تجلس فيها المرأة، في طريقها التقت عيناها بعيني واحدة من نساء منطقتها، تجاهلتها ومضت تبحث عن البنطلون الأزرق بأطرافه المذهبة وعن الصدر المكشوف. كان هناك كم هائل من الصبيان الصغار، حفاة متسخون جوعى يجوبون الأرجاء بحثا عن ما لا يعلمه إلا الله. وصلت إلى المكان ولم تجد المرأة. وقبل أن تيأس، لاح لها غطاء الرأس بألوانه المبهرجة، اندفعت نحوها، وتفاجأت من سوء تقديرها: ذات البنطلون الأزرق قد تكون خمسينية أو أكبر كما يفيد هزالها، وكان صدرها الناحل مكشوفا لأن أزرار العباءة معطوبة وما كانت ترتديه تحتها كان ذا فتحة عنق هائلة لا تناسب الجسد المنكمش. جلست العجوز على صخرة غير مستوية، لم تعد منكسة الرأس، لكنها كانت تائهة. تقدمت نحوها الأم ووضعت ما على رأسها جانبا. أعطت العجوز نظرة الحنان مقابل نظرتها المتسائلة، ومنحتها نظرة الثقة مقابل النظرة القلقة. اقتربت الأم منها ولمَا لم تستطع إغلاق الأزرار تناولت مشبك كانت تحتفظ به في كم عبائتها وأغلقت به العباءة شاعرة بالسعادة والراحة.

تمسكت بها السيدة:

  • ليس لديّ من يحمله عني، خذي نصيبي..
اظهر المزيد

Reem Mojahed

a Yemeni writer, who lives in Czech Republic. She has published multiple articles in both Arab and Yemeni publications.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى