إبداع بصريرأي
أخر الأخبار

“ريت وانا صُغيرة”.. صنعاء في عينيّ نجمية

This post is also available in: English (الإنجليزية)

“ريت وانا صُغيره وما كبرت”…

هكذا استهلت حديثها كما لو أنها في لحظة مارقة قد استرجعت ذكريات طفولتها الجميلة كالوميض.

كان موعد لقاءي بها الساعة السابعة والنصف صباحاً من يوم الجمعة، أما المكان فكان صنعاء القديمة، وأما هي.. فنجمية، ومن منّا لم يسمع عن نجمية؟

تلك الصبية الصنعانية التي عرفناها من خلال الفيلم الوثائقي القصير “غريبة في بلادها ” الذي أخرجته المخرجة اليمنية خديجة السلامي في العام 2005 حينما كانت في الثالثة عشر من العمر، والتي تميزت فيه بحضور قوي وكاريزما ساحرة. تجذبك إليها لهجتها الصنعانية، وحذاقة منطوقها، وتبهرك جرأتها وعدم اكتراثها في مجتمع له تقاليده القاسية نحوها كأنثى.  فتتمازج أمامك الفطرة النقية بالجرأة والموهبة المكتسبة في التخاطب.

وخلافاً لما هو متعارف عليه بين قريناتها الفتيات، فهي لم تكن ترتدي الحجاب وكانت تقود الدراجة والموتور أيضاً، وتلعب مع الصبية، وتختار من تريده زوجاً لها مستقبلاً، وتصرح بذلك بكل ثقة. فهي لا تخاف من أحد وتتوعد من يقوم بأذيتها، والأهم من ذلك كله حلمها بأن تصبح يوماً ما مترجمة تحدث الزائرين الأجانب حول مدينتها: صنعاء القديمة.

كانت نجمية تحلم بممارسة حقها الطبيعي في الحياة دون التعرض للأذية بسبب تمردها على المتعارف عليه. كل ذلك جعل منها بطلة لحكاية ستجذبك إليها بقوة لتقتفي كامل تفاصيلها.

فأين هي نجمية الآن من ذلك كله؟  وأين رست شواطئ أحلامها الطفولية، هل عبث الزمان بها كما عبث بمدينتها الأثيرة صنعاء؟

الصورة بإذن من سمية السماوي

كانت الأسئلة تتوارد إلى ذهني واللهفة تسبقني شوقاً إلى مكان اللقاء بها في صباح صنعاني معتدل جوه. وبعد أن قطعتُ تلك الحواري والأزقة تزامناً مع مرور أشعة الشمس التي كانت تتسلل من خلال الأبنية القديمة المزخرفة والتي بدت كعجائز وقورة وحكيمة من عصور غابرة. رغم أن كثير منها قد هُدم كما ذكر الرازي في كتابه “تاريخ مدينة صنعاء” حتى لم يتبق منها سوى ألف وأربعين داراً في أيام الوالي أحمد بن قيس الضحاك بسبب الحروب واختلاف الأيدي على صنعاء[1].

وصلت أخيراً إلى الجامع الكبير حيث كان موعدنا. وهو أشهر جامع داخل صنعاء، ولطالما كان مدرسة وهجرة علمية مستقلة يرتادهُ علماء الدين وعلماء الطبيعة من فلك وطب وغيره، قبل أن يصبح مقراً للعبادة والدروس الدينية فقط.

 لكنني فوجئت باتصال منها أثناء انتظاري تخبرني فيه أن عارضاً صحياً قد أصابها وأنها الآن ترقد في عيادة الرحمن في منطقة (الصرّحة) فتوجهت إليها وأنا اسأل المارة عن (الصرّحة) ومكان العيادة، حتى وصلت أخيراً إليها.

كانت العيادة مجرد غرفة ضيقة جداً، يغطي بابها ستائر ملونة، طاولة قرب الباب وبعض الأدوية، وحمالة المغذية وسرير حيث كانت تنام عليه نجمية وإلى قربها ابن أخيها وممرضتها.

اختلطت مشاعر الدهشة بالحزن داخلي، لم يبد الأمر كما شاءت مخيلتي أن يكون. لقد بدت لي مختلفة تماماً! أصبحت ترتدي العباءة السوداء وتلف رأسها بالوشاح الأسود والنقاب، الزي الدخيل الذي أزاح “الستارة الصنعانية ” المليئة بالألوان والحياة.

الصورة بإذن من سمية السماوي

تبعثرت الأسئلة المعدّة جميعها أمام حضور قوي لأسئلة أخرى. ما الذي جرى؟ وكيف انتهى بها الحال الى أن تطلب منا عدم تصوير عينيها، حتى ولو بالنقاب! ولكن كان لابد أن ألملم الدهشة لأسألها أولاً عن صحتها واطمئن على حالها.

لم تخف نجمية حنينها إلى ذلك الزمن بابتسامة واسعة، وعينين شاردتين، تتذكر فيها تلك اللحظات التي قضتها في الخروج واللعب والتسكع بحرية دون مُسائلة ومراقبة كما هو الحال اليوم، عبرت بعدها عن حزنها الشديد لعدم إكمال دراستها التي كانت تتمنى أن تجد من يشجعها عليها لتتابع الحضور في المدرسة، لتلقي اللوم على طبيعة نظام الدراسة الذي لم تستطع التأقلم أو الانضباط معه الأمر الذي أدى لنسيانها القراءة والكتابة.

كما عبرت عن ندمها لارتدائها النقاب، الذي لم تعد قادرة على اتخاذ قرار تركه لأنه أصبح من “طبيعتها” كما وصفت. تتذكر نجمية تمردها على الوشاح الذي كانت والدتها تناولها إياه. وعوضاً عن ارتدائه، كانت نجمية تقوم بربطه حول رأسها مؤكدة بأنها عندما تصبح أماً يوما ماً فستترك ابنتها تعيش طفولتها التي عاشتها هي، وستسمح لها باللعب على الدراجة الهوائية والدراجة الكهربائية، وستوفر لها كل وسائل الراحة ولن ترغمها على ارتداء النقاب. ثم تقول متسائلة بلهجتها: (ما عيقع؟ عياكلوها؟)  .

ولم تتوقف الأخبار المفاجئة عند هذا الحد فقد مرت بتجربة زواج تقليدي فاشل من رجل يكبرها سناً ويعاني من مشاكل نفسية، ولم تستمر هذه الزيجة سوى شهر واحد فقط.

وعبرت ساخرة عن سبب رغبتها البريئة سابقاً في الزواج وذلك لهدف تجربة الجلوس على (الكوشة) لتنتقل مرة أخرى إلى الماضي بضحكتها المميزة كانتقال لحن (الصبا) الحزين إلى مقام (العجم). ويتعدد الخطاب الذين جاءوا طالبين يدها من أنحاء متفرقة من العالم كالولايات المتحدة الأمريكية، والذين كانوا يغدقون عليها بالهدايا، لكنهم كانوا دائماً يختفون في النهاية لصعوبة الوصول وتعقيدات معاملات واجراءات الزواج. حينما سألتها: هل تفكر بتكرار التجربة؟ قالت بإنها تريده ” واحد حالي ” و”صغير” في مثل سنها وغير متزوج بأخرى.

ثم انتقلت في الذاكرة لتذكر فيه كيف كانت تعّبر عن عواطفها بحرية أثناء الطفولة: “هذا حبيبي وهذا خطيبي“أما اليوم فقد تزوجوا جميعاً، ولم يمنعهم ذلك من التعبير عن رغبتهم بالزواج منها كزوجة ثانية غير أنها لا تريد ذلك.

تخليها عن بعض ممارساتها الطفولية لم يمنع وجود جوانب أخرى سعيدة في حياتها كما عبرت، فهي تقضي أيامها بسعادة بين الشارع وجلسات القات والرحلات مع أسرتها المكونة من ثمان بنات وولدين.

الصورة بإذن من سمية السماوي

أثارت تلك التفاصيل فضولي، فكيف ستبدو نجمية اليوم في عيون أهل صنعاء؟ وهل لازالت في ذاكرتهم؟ كان لابد لي من الانتظار قبل أن نتوجه لتناول الفطور للتأكد من أن صحتها تسمح لها بالخروج. كانت نجمية متحمسة لمرافقتي داخل صنعاء القديمة ولم يفت المرض في عزيمتها وروحها المليئة بالحياة.

رغم التغيرات الظاهرية لمرور السنوات والانتقال من الطفولة إلى الشباب، فنجمية لا زالت تمتلك ذلك الحضور المميز، أسلوبها في التعبير، لهجتها المميزة، أفكارها البريئة، وإلقاءها التحية على جميع المارة رجالاً ونساءً، والذين بمجرد أن يعرفوها من خلال صوتها ما تلبث ملامحهم حتى تتغير من الجمود إلى الضحك والابتهاج وكأنها تضيء المكان بحضورها.

تُبادر في التوجه نحو الدكاكين، لتتأكد من تذكر أصحابها لها، فيبادلونها الترحيب والضحكات والتحايا. يحدث ذلك بطريقة فطرية إنسانية طبيعية تذوب فيها جميع الاعتبارات الدخيلة على المجتمع الصنعاني المترابط إناثاً وذكوراً.

التقت ببائع فخار، تبادلت معه الحديث قليلاً، حملت بعض الأواني واقترحت التقاط صورة معه، ثم شاءت الصدفة أن تلتقي بـ “عرفات”! الشاب الذي كانت تعبر عن رغبتها في الزواج منه في صغرها والذي كان جالساً امام أحد الدكاكين وبقربه ابنه الصغير! أشارت نحوه بسعادة وبصوت جهوري “هيا هذا هو عرفات “.

لاحقاً تنّقلت بنا خلال أسواق البهارات والنحاس والجنابي، والتي لم تفتح أبواب بعض دكاكينها بعد.

مررنا أمام مصانع محلية للحديد والخشب، والتي تدل على مدى التطور الذي وصلت إليه صنعاء قديماً، فقد كانت تمثل ميناءً برياً، وخطاً فرعياً للتجارة القادمة من الشرق الآسيوي، بعد توقف خط التجارة البحرية بين اليونان والهند عبر البحر الأحمر مما ساعد على تنشيط التجارة والصناعة فيها.

انتقلنا بعدها الى “غُرقة القُليس” والتي يقال بأنها آثار لكنيسة قديمة، الشاهد المتبقي على أصالة التعايش الديني الذي كان يتمتع به أهل صنعاء إلى وقت غير بعيد.  دخلت المسيحية اليمن زمن الامبراطور كوستانتيوس (317-361م) واستمرت حقبة من الزمن. كذلك كانت الديانة اليهودية قبلها منذ العهد الكلاسيكي حتى خروجهم للهجرة في منتصف القرن المنصرم.

الصورة بإذن من سمية السماوي

تحدثت نجمية عن حركة السياحة قديماً والتي انتهت بسبب الأحداث التي مر بها اليمن في السنوات الأخيرة، حيث كانت تحصل على المال كمرشدة سياحية رغم صغر سنها، فهي تعرف أماكن كثيرة داخل صنعاء لا يعرفها أحد غيرها، على حد تعبيرها، ووصفت بأنها أماكن ” سر” لا تريد اطلاعنا عليها. وكانت أيضا ترشد السياح إلى أماكن الفضة والعقيق اليماني. أما عن طريقة التواصل معهم، فببضع كلمات إنجليزية تكاد أن تكون غير مفهومة. وعن سؤالي حول رغبتها في تعلم الانجليزية اليوم قالت ” ما الفائدة؟ أين الأوادم ” تقصد السواح طبعاً.  كما أنها كانت تحصل على المال من قضاة الجامع الكبير مقابل تنظيفها للجامع يومياً، وأيضاً مقابل إرشاد أصحاب الحاجة إليه علماء الجامع وقرائه من الذين يقصدون الجامع ليُقرأ عليهم القرآن بنية الشفاء.  وحينما سألتها ماذا تفعل بالمال؟ أجابت بلهجة صنعانية واثقة: “كانت الزلط زلط وكنت اشتري بهن جعالة”.

انتبهت نجمية لمكان مهجور يمتد مثل النفق بسقف منخفض جداً. وكان أن أصابتنا الدهشة حينما علمنا بأن عائلة كاملة تعيش في هذا المكان! يبدو أن الفقر يتمدد بظله القاتم على المدينة العتيقة. رددت نجمية عبارات الأسى على تبدل الأحوال وهي تشاهد أطفالاً لم يختاروا هذا القدر المؤلم لهم.

بدأت بقية الأسواق بفتح أبوابها، وانتشرت معها رائحة البهارات والبخور، الشوارع تزدحم شيء فشيئاً بالزائرين، البعض يتوجه نحو المساجد استعداداً لصلاة الجمعة، والبعض الآخر في ساحة المطاعم وفي وسط الأسواق. كان لابد لنا من العودة مع اقتراب وقت الظهيرة، حيث بدأت نجمية تشعر بالإعياء والتعب أيضاً.

قبل وداعها طلبتُ منها أن تصف لنا صنعاء فقالت “صنعاء تغيرت قوي ” هكذا عبرت عنها بحزن، واصفة إياها بأنها “روعة” قبل أن تلّم بها الأحداث الراهنة لتشرح مدى تدهور أوضاع الناس وأهلها فيها بعد انتشار البطالة وتضرر الكثير من الأسر بسبب تبعات الحرب. و من خلال مشاهداتها لهم تصفهم بأنهم أصبحوا ” ظلمي ” وضباحى”.

نعم تغيرت صنعاء وتغيرت أحوال نجمية، ولكن يكفي أنها ما زالت تحتفظ بتلك الروح المتوثبة التي لم تفلح الحرب ولا ظروف الحياة المتقلبة في سلب بريقها.

ودعتها ثم ودعت صنعاء القديمة، شعرت وكأنني أنتقل زمنياً عبر المكان، مع شواهد حية لتفاعل الإنسان مع واقعه. وكم هي القصص الساحرة المختبئة خلف التفاصيل والبنايات والوجوه، وكم هي الكنوز التي لم تكتشف بعد في هذه المدينة! وأما نجمية فقد رأيتها نجمة في حكاية عن صنعاء، وهي حكاية ستشغلنا دوماً تفاصيل مآلاتها.


[1] (تاريخ مدينة صنعاء للرازي، تحقيق الدكتور حسين العمري _ص29)

 

اظهر المزيد

Shrouk Hussein

A writer and novelist who has published two novels, The Female Rebel and A Journey of the Soul. In addition, she has a diploma in graphics design and is an amateur photographer.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى