ثقافة

فهد الظرافي: رجل الصورة النادرة (1)

كان فهد الظرافي يجلس خلف شاشة الحاسوب في أحد غرف منزله التي تحولت الى مكتب لأوقات الفراغ. في الخارج كان الصيف شديد الحرارة والوضع السياسي في ذروة اضطرابه. حيث تختلط أصوات الهتافات بأصوات الرصاص برائحة الادخنة المتصاعدة من الشوارع.

يتصفح فيس بوك، فتمر من أمامه الكثير من المنشورات التي ترصد عدد القتلى والمصابين. وكان ينفر من ذلك ومن صور الدماء. لكن هناك نوع آخر من الصور نجحت في شد انتباهه وكان يتوقف أمامها طويلاً وكانت هذه صور من زمن قديم لا يمت للحظة الراهنة بصلة. لكنها كانت تلامس شيئاً بداخله. وبينما هذا هو الحال الذي يبدأ عند الثامنة صباحا وقد يستمر حتى الثانية بعد الظهر، حدث أن ظهرت أمامه الصورة التي سوف تقلب حياته راسا على عقب.

منذ تلك اللحظة سوف ينغمس فهد الظرافي في عالم الصور القديمة الى درجة الهوس. أما النتيجة بعد مرور نحو 12 عاما، فهي انه أصبح واحدا من أهم الموثقين الفوتوغرافين في اليمن، برصيد يصل الى أكثر من 20 ألف صورة توثق تاريخ البلد خلال أكثر من مئة عام.

ما ان تلتقي بفهد الظرافي، حتى تتمكن بسهولة من التقاط إلى أي حد هو شخص يمتلك حساسية مرهفة تجاه الصور، وكم ان الحديث حولها يشعره بمتعة غير عادية، لدرجة “احيانا أنسى نفسي وافقد احساسي بأن الوقت يمر” كما هو تعبيره عن المجال الذي سيأخذ منه الكثير من الجهد والمال وبالمقابل سيجعله يحقق ذاته ويتغلب على الكثير من الصعوبات التي اعترضت طريقه.

الصورة الأولى

مدينة تعز القديمة (1961). يظهر في الصورة جامع الأشرفية التاريخي وجامع المظفر التاريخي بمأذنته القديمة وهما أحد أهم معالم مدينة تعز -تصوير القنصل الألماني ويلي جورج إستيفن. (أرشيف فهد الظرافي)

تعود البداية إلى ظروف ذلك الصيف من العام 2011، عندما كانت شوارع مدينة تعز ملتهبة جراء الاحتجاجات اليومية المطالبة برحيل الرئيس اليمني علي عبدالله صالح. معظم المحلات التجارية في المدينة كانت قد استجابت لدعوات الإضراب لمزيد من الضغط على السلطات الامنية التي اصبحت تستخدم القوة بشكل مفرط في مواجهة المحتجين.

وكان قطاع الاعمال، بما في ذلك قطاع الادوية والمستلزمات الطبية الذي يعمل فيه فهد قد أصيب بالركود، ليجد ان لديه كثير من الوقت الفائض، فأنشأ صفحة شخصية على موقع فيس بوك وبدأ يستكشف ما يدور في هذا العالم الافتراضي، ثم حدث أن شدته صور قديمة لمدينة تعز في مجموعة اسمها “صور اليمن القديمة” فانضم لها على الفور.

في ذلك الصباح، ظهرت أمامه صورة نشرتها ذات المجموعة التقطت على متن الباخرة “سدني” التي يعرف قصتها جيدا. توقفت الباخرة في اغسطس من العام 1959 في ميناء بور سعيد، حيث سيلتقي الامام أحمد العائد من رحلة علاجه في ايطاليا بالرئيس المصري جمال عبد الناصر. يظهر في الصورة الامام أحمد وناصر وهم محاطين بعدد من الاشخاص وطفل في نحو الثانية عشر من العمر.

 ذلك الطفل هو والد فهد الظرافي الذي كان ضمن الحاشية المرافقة للإمام في رحلة علاجه. يقال ان الحاشية المرافقة تراوح عدد أفرادها بما في ذلك الأطفال الرهائن، ما بين 300 إلى 600 شخص. وقد كان والد فهد الظرافي هو أحد الرهائن كونه ابن شيخ.

كانت هذه الصورة واحدة من خمس صور. اثنتين التقطها مصور مصري وثلاث التقطها مصور ايطالي. وقد حرص فهد على البحث عن الاربع الصور الأخرى، مستخدما مهارته الاجتماعية وقدرته على التواصل.

جمال عبدالناصر مع الامام أحمد حميد الدين في ميناء بور سعيد المصري اثناء عودة الأخير من رحلة علاجه في ايطاليا (اغسطس 1959)

في وقت لاحق سوف يصادف مقطع فيديو عن اليمن يعود لحقبة العثمانيين، سوف يلتقط منه بشكل بدائي بعض الصور، وبعد فترة قصيرة سيعود للبحث عن ذات الفيديو لنسخ مزيد من الصور لكنه لن يجد له أثر. حينها وكان لا يزال في بداية مسيرته، أدرك فهد أهمية التوثيق الفوتوغرافي في العصر الرقمي حيث يمكن بسهولة أو بقليل من الجهد الوصول للصور التي توثق تاريخ اليمن منذ ظهور اول صورة فوتوغرافية، وفي نفس الوقت قد يصبح هذا كله معرضا للفقدان والضياع بضغطة زر.

العلاقة الشائكة مع الكاميرا

بالطبع لا يمكن القول بأن الصدف وحدها يمكنها أن تخلق شغفا كاملا، حتى مع الاقرار بأن كل الناس تنجذب للصور. الشغف لكي يعبر عن نفسه يحتاج الى اساس كافي. وهذا تقريبا ما حدث مع فهد الظرافي. عندما صادف صورة والده وبدأ يعمل على توثيق مجموعة الصور الأخرى، فقد حدث هذا، لأنه لامس شيء عميق بداخله تعود جذوره لأيام الطفولة.

تعود أول صورة لوالد فهد الظرافي الى العام 1958، حيث يظهر طفل في نحو العاشرة من عمره، يرتدي زيا شعبيا (الديسمال) ربما التقطت له من قبل مصور الامام. هذه الصورة هي من ستجعل فهد يميز ملامح والده على متن الباخرة “سدني” وستشده للبحث عن باقي الصور.

إلى جانب أنه كان قد ولد في واحدة من البيوت القليلة في مدينة تعز التي امتلكت كاميرا في سبعينيات القرن الماضي، قبل اسابيع من ولادته (ولد في فبراير 1976). كان والد فهد قد عاد من زيارة الى الاتحاد السوفيتي، مصطحبا معه كاميرتين احداها نوع “زينت”. وعندما كان فهد في الصف السادس، عاد والده من أحد رحلاته الخارجية ومعه كاميرا فيديو “سوني”. استخدمت لتوثيق رحلات العائلة. 

أول صورة لوالد فهد الظرافي (1958)

ويحكي أنه عندما أصبح في المدرسة الاعدادية وبينما كان يفتش في صور الاسرة، عثر على البوم كامل فيه صوره وهو في سن الثالثة، التقطت مع أقارب أسرته أثناء زيارة إلى مسقط رأس والده في منطقة الوازعية جنوب غرب محافظة تعز.

 أما أول ألبوم وثقه فهد، فكان لأول رحلة مدرسية نظمتها مدرسته إلى عدن في يناير من العام 1990. حصل فهد على الالبوم كاملا من أحد أساتذته، ليصبح أول ألبوم يقوم بتوثيقه بجهد ذاتي، ولعل هذا هو جعل قدره محكوما بالتوثيق أكثر من التصوير الذي ما ان اقترب منه حتى حدث ما سيجعله ينفر الى الابد.

كان لديه شغفه بالتصوير، وكان يتمنى ان يحصل على كاميرته الخاصة. وفي أحد المرات كلفه احد اقربائه الذي كان مغتربا في السعودية بإنجاز بعض المهام في تعز. وعندما أنجزها على أكمل وجه، سأله ماذا تريد أن أجلب لك عندما أعود من الغربة؟

بدون تردد: “قلت له أريد كاميرا”.

وفعلا عندما عاد، جلب معه كاميرا ومسجلة “سوني” وكان هذا هو الشيء الاكثر ابهاجا الذي حدث في حياة فهد حتى ذلك الحين. كان حينها في الصف الثالث الثانوي، لكن فرحته لم تستمر. فقد سرقت الكاميرا -بعد فترة قصيرة- من سيارة والده. وليس هذا هو المؤلم وما سيجعل فهد يتوقف عن الحلم بأن يغدو مصورا. ولكن صادف ان جريمة السرقة تمت اثناء مرور أحد اصدقائه المقربين عادل علي ذاهبا الى صلاة الفجر، وعندما اقترب من اللصوص الذين كانوا قد سرقوا الكاميرا واستولوا على سيارة أخرى في الحي، قاموا بقتله ولاذوا بالفرار. ربما لأنه كان قد تعرف عليهم. حدثت هذه الجريمة في عام 1996 عندما كان رشاد العليمي (رئيس مجلس القيادة الحالي) مديرا لأمن محافظة تعز.

 ومع أن علاقة فهد بالتصوير قد انقطعت، فقد استمر أخوه محمد ينمي مهاراته التصويرية حتى أمتلك كاميرات احترافية، ولا يزال محمد يمارس التصوير إلى اليوم.  واكتفى فهد بأن يكون حارسا أمينا لأرشيف العائلة الذي يقترب عدد الصور العامة فيه من 1000 صورة. وهي اليوم جزء من أرشيفه (الأصول) إلى جانب نحو 3 ألاف صورة أخرى.

 صور اليمن القديمة

بعد أن أكمل فهد، جمع الخمس الصور التي تخص والده والملتقطة على متن الباخرة “سدني” أصبح أكثر اهتماما بمجموعة “صور اليمن القديمة” على فيس بوك. أو لنقل أصبحت هي عمله اليومي خلال ما تبقى من العام 2011 ثم في الأعوام اللاحقة. بدأ ينشر في المجموعة صورا قديمة من أرشيف والده ومن أرشيف السفير أحمد حسن أغا (1951) الذي يعد واحداً من أهم موثقي تاريخ مدينة تعز.  لدى أغا كتاب بعنوان تعز بين الأمس والحاضر (لم يصدر بعد) جمع فيه صورا قديمة من أسرته وأسر أخرى في تعز إلى جانب بعض صور المصور اليمني المشهور في خمسينيات القرن الماضي أحمد عمر العبسي (1911-1976).

باب موسى التاريخي في مدينة تعز العام 1953م بعدسة الرحالة قونتر بافلكه. أرشيف السفير أحمد حسن أغا.

 ويرتبط ذلك، أيضا، بمصادفة أخرى قادت فهد للحصول على هذا الأرشيف. فبينما كان في استديو تصوير لمح على جهاز كمبيوتر الاستديو صورا قديمة لمدينة تعز. فسأل الموظف في الاستديو عن مصدر هذه الصور، فقال له إن مصدرها صحيفة الجمهورية (ثاني أكبر الصحف الرسمية في اليمن ومقرها في تعز)، حيث كان هناك صحفي يكتب مقالات عن تاريخ مدينة تعز وينشرها في الصحيفة وهو من سلمهم هذا الأرشيف. وكان من لطف ذلك الموظف أن منح فهد كل ذلك الأرشيف الخارجي في أداة تخزين (فلاش).

 كانت أغلب الصور التي وثقها أحمد آغا، مأخوذة من مجلات وكتب قديمة، فقد كان رئيس دائرة التوثيق في وزارة الخارجية. حيث تتوفر مصادر مختلفة من المجلات والكتب القديمة التي تتحدث عن تاريخ اليمن وتاريخ مدينة تعز الذي سيكون موضوع كتابه.

 في هذه المرحلة، كان نشاط فهد في مجموعة “صور اليمن القديمة” على فيس بوك، لا يزال عاما. يقوم بجمع عدد من الصور لبعض المدن اليمنية، ثم ينشرها في البوم مع بعض المعلومات التي كان يعثر عليها، فكانت البوماته تحظى بتفاعل واسع، فالمجموعة التي أنشأها أشخاص مهتمون بتوثيق تاريخ اليمن من خلال الصور الفوتوغرافية كانوا ينحدرون من مختلف المحافظات، وعدد أعضائها كان في ذلك الوقت قد تجاوز مائة ألف شخص.

واصل فهد نشاطه بدأب وبدأ يحظى بتقدير إدارة المجموعة الذين سرعان ما جعلوه أحد المديرين لها (أدمن)، ومن هنا أخذ يتعرف على كثيرين من المهتمين بتوثيق تاريخ اليمن من خلال الصور. وقد لاحظ فهد أن هذا النشر يستجيب لرغبة قطاع واسع من الجمهور اليمني على فيس بوك؛ بالرغم من الأحداث التي كانت تمر بها البلد.

أصبح مديرو المجموعة يتنافسون فيما بينهم، كل واحد منهم يحرص على البحث عن صور قديمة ونادرة لمناطق اليمن المختلفة ليعيد نشرها. لم تكن عملية البحث سهلة أو مقتصرة على مواقع الانترنت التي لم يكن الوصول اليها سهلا، بل من خلال العودة إلى أرشيف بعض الأسر من خلال التواصل الشخصي.

 لكن التنافس سرعان ما بدأ يأخذ طابعا شبه تخصصي من خلال اهتمام كل شخص في إدارة المجموعة بتوثيق تاريخ المحافظة أو المدينة التي ينتمي إليها. حدث ذلك مع بقاء روح التعاون فيما بينهم. فالشخص الذي يحصل أثناء بحثه على صور محافظة أخرى يرسلها إلى الشخص الذي ينتمي إلى المحافظة المعنية ليتولى هو عملية الأرشفة والبحث عن المعلومات والنشر.

صورة من معرض السعيد أول معرض فوتوغرافي للاستاذ فهد الظرافي – ابريل 2014 تصوير: وهيب شرف

هنا بدأ فهد يُعرف لدى كثيرين كشخص مهتم بتوثيق التاريخ الفوتوغرافي لمدينة تعز. وكان أحد هؤلاء المهتمين الأستاذ فيصل سعيد فارع مدير مؤسسة السعيد للعلوم والثقافة والذي كان قد أصدر كتابا بعنوان “تعز.. فرادة المكان وعظمة التاريخ”[1]. يتحدث فيه عن محطات مختلفة من تاريخ تعز معززا ذلك بالصور.

لكن الصور التي اشتمل عليها الكتاب، لم تكن ذات دقة عالية بالمقارنة مع الصور التي ينشرها فهد، لهذا تواصل فهد بالأستاذ فيصل واتفق معه على جمع الصور التي ينشرها ووضعها في الكتاب بدلا عن الصور السابقة وإصدار طبعة جديدة.

هنا سوف تتكشف طبيعة فهد المتعاونة. فالتوثيق الفوتوغرافي في مفهومه قائم في الاساس على الجهود المشتركة، ولا يحق لمن يقوم بذلك ان يحتكر الصور التي يعمل على جمعها طالما انها ليست من تصويره.

توطدت العلاقة بين الاثنين، لتختتم هذه المرحلة، بتنظيم مؤسسة السعيد في العام 2014 معرض صور بعنوان (تعز عبر عقود) يحكي تاريخ المدينة من أول صورة موثقة والتي كانت عبارة عن رسمه للرحالة والمستكشف الألماني “نيبور” يعود تاريخها إلى النصف الثاني من القرن الثامن عشر (وصل نيبور إلى اليمن نهاية العام 1762). كان هذا  أول معرض لفهد الظرافي، وقد تزامن مع مهرجان السعيد الذي كان يقام في شهر أبريل من كل عام.  واشتمل المعرض على 114 صورة. وهو الأمر الذي منح فهد فرصة أن يعرف لدى الجمهور من المهتمين بكونه موثقا فوتوغرافيا.

متوالية إنقاذ الأرشيف

نشأ فهد الظرافي في حي الجحملية الذي كلما جاء على ذكره، كلما بانت على ملامحه تعابير الأسى. كثير من معالم الحي تدمرت بفعل السنوات ثم على نحو أشد مع اندلاع الحرب في تعز في ابريل/ نيسان من العام 2015. ولم يقتصر الأمر على تدمير معالمه، ولكن كثيراً من سكان الحي غادروه وفقدت تعز احدى أهم خصائصها الفريدة بكونها مدينة حاضنة للتنوع. يتذكر فهد جيران منزل والده وتختلط الحسرة بالحنين، لتكشف عن شخص يتمتع بحس انساني عالي وحب حقيقي اتجاه الناس والحياة واتجاه مدينة تعز التي تدمرت معالمها بفعل الحرب. وليس فقط حس فني جمالي وشغف في جمع وتوثيق الصور.

لو أنه استمر في التصوير، لربما كان بمقدوره ان يوثق تفاصيل الحياة في حي الجحملية وفي مختلف احياء تعز. فالشخص الذي يمتلك كل هذا القدر من الحب والشغف لن يكون مصورا عاديا. لكنها الحادثة الاليمة التي جعلته يتوقف في بداية مشوراه مع الكاميرا.

وقد كاد أن يتكرر نفس الامر مع مشواره في التوثيق. فعندما اندلعت الحرب اضطر لمغادرة المدينة والنزوح الى الريف، وبعد شهرين من النزوح وصله الخبر الصاعق؛ لقد وصلت قذيفة الى المنزل واحرقته كاملا، بل ان الحريق استمر من المساء وحتى صباح اليوم الثاني.

يقع منزل فهد الظرافي في سوق الصميل، حيث دارت أعنف المعارك في بداية الحرب. وعندما وصله الخبر من أحد جيرانه (صديقه خالد الهمداني)، شعر ان مسيرته في التوثيق قد انتهت. فهناك جهازه المحمول الذي يوجد بداخله كل جهده في التوثيق الى جانب البوم كامل كان قد حصل عليه قبل الحرب بأسابيع من مؤسسة المياه التي كانت توثق مشاريعها أولا بأول. وهي أول مؤسسة تنشأ في تعز، وقد كان توثيق هذه المشاريع بطريقة ما توثيقا لتاريخ المدينة.

كان حجم الصدمة مهولا خصوصا بعد الجهد الذي بذله من أجل الحصول على صور مؤسسة المياه والذي كما هي العادة كانت الصدفة هي من قادته لذلك. ففي أحد الايام كان لديه معاملة في مكتب المؤسسة، وهناك لمح صور لعدد من رموز ثورة سبتمبر ولبعض أحياء مدينة تعز يعود تاريخها إلى مطلع ستينيات القرن الماضي؛ وبعض هذه الصور من توثيق الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية التي كان مركزها الرئيسي في تعز.

الصور تعد نادرة، وبينها أول صور جوية لمدينة تعز، لكنها موضوعة بشكل قد يعرضها للتلف. وبدلا من اكمال المعاملة أصبح الحديث مع الموظف يدور حول الصور القيمة والتي يجب منحها عناية اكبر. لكن الموظف غير المدرك لقيمة تلك الصور لم يكترث.

ـ ماذا لو أحضرت لك البوم لحفظ هذه الصور؟ ألن يكون هذا افضل؟

معرض السعيد. تعز القديمة، تصوير القنصل الألماني (1962-1963).

ـ لو أنك ستشتري هذا الالبوم فلا مانع.

كانت الصور محشورة داخل كراتين على نحو عشوائي. ذهب فهد واحضر عدة البومات لتغليف الصور ومنح الموظف مبلغا ماليا حتى يهتم بتغليفها واخبره انه سيمر في وقت لاحق ليتأكد من انه قام بحفظ الصور.

بعد شهر، عاد الى مكتب المؤسسة. سأل الموظف عن الصور؟ فأجابه بأنه قد قام بتغليفها وانتظره لكي يمر لأخذها ثم لا يعرف أين اختفت. أعتقد الموظف ان فهد كان مهتماً بالحصول على الصور وليس بحفظها.

بدا على فهد القلق امام برودة الموظف. سأله مجددا. اين وضعتها؟

ـ هناك فوق ذلك المكتب.

قام فهد بالبحث في ادراج المكتب وفي جوانبه، فتش في كل المكان ليجدها خلف أحد الدواليب. أقترح على الموظف ان يذهبا بهذه الالبومات الى مؤسسة السعيد لكي يتم الاحتفاظ بها هناك. وأخبره ان فيصل سعيد فارع سوف يمنحه مكافأة وذكر له مبلغ مالي بسيط.

وافق الموظف على الفور. كانت الالبومات تحوي نحو 250 صورة. شرح فهد لمدير مؤسسة السعيد أهمية هذه الصور. وانه اقد اقنع هذا الموظف في مؤسسة المياه بأن يتم الاحتفاظ بالصور في المؤسسة. رحب فيصل سعيد فارع بالفكرة ومنح الموظف مكافأة اضعاف المبلغ الذي ذكره فهد عندما كانا في المكتب. فما كان من الموظف إلا ان أتحمس وأخبره بأن هناك عشرات الكراتين التي تحوي مثل هذه الصور في مخازن المؤسسة لكن اخراجها لابد ان يكون بموافقة مدير المؤسسة.

هنا بدا وكأنه قد اقترب من العثور على كنز ثمين. وفي اليوم الثاني كان قد أصبح في مكتب مدير المؤسسة وفي يده صورتين مكبرتين لمدينة تعز داخل بروازين انيقين وقدمها للمدير كهدية.

استغرب الاخير من هذه الهدية، وسأله عن طلبه، فأخبره بما سمعه من الموظف عن الصور الموجودة في المخازن؛ وعرفه بنفسه وبأنه مهتم بتوثيق الصور التاريخية وانه مستعد لآخذ هذه الصور وحفظها وتسليمها في أي وقت لأي جهة حكومية ترغب في حفظها. فرد عليه إذا كنت تريد هذه الصور من أجل توثيقها وحفظها فيمكنك أخذها. وأصدر توجيهاً بذلك.

أول صورة جوية لمدينة تعز. التقطت خلال الأعوام 1963-1965، من طائرة شراعية تابعة لـ مكتب الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية ويظهر في الصورة قلعة القاهرة وجامع الأشرفية وجامع المظفر ويظهر امتداد شارع جمال بعد شقه من قبل الشركة الأمريكية. أرشيف فهد الظرافي.

تم جمع الصور- التي كان عددها 2500 صورة في 15 ألبوم- وهي صور أصول ويعود تاريخها للفترة ما بين، 1960 إلى 1967. وكان ذلك مغنما كبيرا في نظر فهد الظرافي.

بعد نحو أسبوع من أخذ هذه الصور، سيعلم فهد ان مخزن مؤسسة المياه قد احترق بالكامل. سوف يشعر بارتياح لأنه تمكن من انقاذ هذا الكنز الثمين. لكن الحرب اندلعت ولم تترك الفرصة لإنقاذ تلك الصور.

عند سماعه الخبر الصاعقة عن كون منزله قد احترق بالكامل، كان ممتنا لكونه واسرته بخير لكن شيئا ظل يحز في نفسه ويمنعه من النوم. وقد كان هذا الشيء هو تلك الصور التي أنقذها. وفي صباح أحد الايام صادف أحد اقربائه وهو متوجها على متن سيارته الى تعز فقرر مرافقته. أخبره بان الوضع في تعز ليس مطمئنا وان الحرب تدور في الاجزاء الشرقية من المدينة بالقرب من منزله وانه لن يتمكن من الذهاب لتفقده. لكنه أصر على مرافقته ووصلا الى وسط المدينة ومن هناك استقل دراجة نارية ومر من طرق فرعية في مغامرة غير محسوبة حتى تمكن من الوصول الى المنزل. وفعلا وجده وهو متفحم. وكاد ان يفقد الامل بشأن الصور قبل ان يدخل المنزل. لكن شيئاً ما دفعه لإكمال مهمته، فدخل على الفور الى الغرفة التي فيها الصور وجهاز الكمبيوتر المحمول.

كانت الصور موضوعه داخل اكياس بلاستيكية جوار دولاب وبجانبها الكمبيوتر المحمول داخل شنطة، وكان كل شيء في المكان محترق بما فيها اكياس الصور. غير ان الصور وجهاز اللابتوب لم يحترقا. لم يصدق فهد الظرافي ان صوره بخير. احتضنها كمن يحتضن طفل ناج من المحرقة وخرج من المنزل مسرعا دون ان يتفقد باقي الغرف. ليس هناك شيئا أخر بأهمية هذه الصور.

اليمن بعدسة الدبلوماسيين والأطباء الأجانب

منذ بداية تشكله مر أرشيف فهد الظرافي بمراحل مختلفة لم تكن سهلة. وكل مرحلة كان يجتازها كان ذلك لا يخلو من الصعوبات والصدف. وهو الأمر الذي كان يمنحه الإصرار ويدفعه للمضي قدما. خاصة في المراحل الأولى.

وعلى سبيل المثال، فبعد أن حصل على أرشيف أحمد حسن أغا (أول أرشيف خارجي يحصل عليه كما عرفنا سابقا) والذي كانت معظم صوره بالأبيض والأسود، ودقتها ضعيفة كونها منقولة من الكتب والمجلات، بدأت مرحلة الحصول على أول 95 صورة نادرة لمدينة تعز بدقة عالية. وقد استغرق منه هذا عاما كاملا.

صورة بعدسة نائب وزير الخارجية الروسي

بدأت القصة عندما التقى بـ العزي مصلح (1960) الذي كان يشغل في فترة ما مديرا لمكتب الآثار في محافظة تعز وهو أحد المتخصصين في التاريخ والآثار. كان العزي مصلح برفقة شخص آخر. لمح هذا الشخص، بالصدفة، صورة والده في شاشة جهاز كمبيوتر فهد الذي كان قبل قدومهم يتصفح أحد ألبومات الصور في أرشيفه المتواضع حينها.

كانت الصورة قديمة تعود لنهاية الثلاثينات أو بداية الأربعينيات من القرن الماضي. وقد فاجأت الرجل الذي تعرف على والده لكن لم يسبق له أن شاهد هذه الصورة. ثم بدأ حديث الصور الذي لا ينتهي. سأله العزي مصلح الذي كان يتعرف عليه لأول مرة: هل أنت مهتم بالصور القديمة؟

 قال له: “أنا أعشق حاجة اسمها صور قديمة”.

رد: ولا يهمك. سأعطيك مجموعة صور نادرة لتعز التقطها القنصل الألماني ويلي جورج ستيفن في الستينات.

كانت تعز قبل ثورة سبتمبر عاصمة للإمام أحمد. مقرات السفارات والمفوضيات والقنصليات جلها كانت في مدينة تعز. وذلك القنصل الذي تحدث عنه العزي مصلح، كان يمتلك كاميرا ملونة، وكان قد بدأ يوثق تاريخ المدينة من عام 1961 حتى عام 1965.  بعد ذلك راجع فهد التاريخ الدبلوماسي  لهذا القنصل الألماني عبر العودة إلى الموقع الإلكتروني للخارجية الألمانية.

 وثق القنصل الألماني أكثر من 130 صورة لمدينة تعز وإب ولأماكن مختلفة من اليمن عموما. صور ملونة بنقاوة عالية.  يقول فهد أنك عندما تنظر إليها، فإنك لن تصدق أنها التقطت في ذلك العهد لدقتها. كأنها التقطت بكاميرا ديجتال وليس بكاميرا عادية.

ظل فهد ينتظر هذه الصور فترة طويلة. كان يتواصل مع العزي مصلح (الاستاذ كما يلقبه) وهو يرد عليه ويطمئنه بأن الصور سوف تصل اليه. وبعد عام كامل، صادفه في عزاء، فشعر الاخير بالإحراج وفي صباح اليوم الثاني جاءه الى مقر عمله ومعه اداة تخزين وفيها صور القنصل الألماني. والى جانبها صور أكثر دقة لنفس الصورة التي حواها أرشيف أحمد حسن الآغا. بينها صور لمدينة المخا التاريخية.

الآن وقد اصبحت الصور بين يديه سأله فهد عن مصدر الصور كيف حصلت على هذه الصور؟ فرد العزي مصلح، بأن ابن القنصل الألماني زار تعز قبل 15 عام، والتقى بمسئول في المجلس المحلي وطلب منهم زيارة المنزل الذي كان يسكن فيه والده. وأهداهم هذه الصور. صور نادرة جدا. بعضها التقطت من سطح المنزل الذي كان يسكن فيه القنصل.

هذه كانت أول مجموعة صور قديمة بنقاوة عالية يحصل عليها فهد الظرافي. وكان من شأن ذلك أن لفت انتباهه إلى عالم السفراء والدبلوماسيين والأطباء الأجانب الذين قضوا جزءاً من حياتهم في اليمن. لا بد أن هؤلاء القادمين من دول أجنبية كانوا يحرصون على امتلاك الكاميرات.

صورة لسفيتلانا وهي شابة مع طفلتها في تعز

أحد أولئك الذين بدأ في التواصل معهم فهد السيدة سفيتلانا زوجة نائب وزير الخارجية الروسي. امرأة عمرها اليوم يتجاوز الخامسة والثمانين عاما. عاشت في اليمن أربع سنوات عندما كان زوجها يعمل مترجما في سفارة الاتحاد السوفيتي. وقد التقطت العديد من الصور في تعز واب والحديدة والمخا وصنعاء من عام 1964 حتى عام 1967.

تعرف عليها من خلال صورة نادرة لتعز أرسلها أحد أصدقاؤه؛ وقد شدت تلك الصورة انتباهه. فهي ملونة ويعود تاريخها إلى العام 1965. وعندما سأل عن مصدر الصورة وكان يرجح أنها من ارشيف المركز الثقافي الروسي الذي كان ينشط في تعز، قال له صديقه أنه عثر عليها في حائط امرأة روسية على الفيسبوك وأرسل إليه رابط صفحتها.

بدأ فهد يراسلها (مترجما من العربية إلى الروسية عبر جوجل): أنا فهد الظرافي من مدينة تعز اليمنية. مهتم بالصور القديمة والتاريخية. بعض أفراد أسرتي كانوا يعيشون في الاتحاد السوفيتي وعمي كان قنصلا. قرأت الرسالة ولم ترد. بعث لها برسالة أخرى. قرأتها ولم ترد. أرسل لها مجموعة صور قديمة. فردت على الفور:  

ـ سألته السيدة: هل تهتم بتوثيق الصور؟

أجابها: ليس مجرد اهتمام، ولكني أعشق الصور القديمة.

ـ ممتاز جدا.

وهكذا بدأت تزود فهد بالصور لينشرها بدوره في حسابه على فيس بوك مع وضع إشارة لحسابها. ثم أقنعها أن تنشر صورها بنفسها وهو سيقتصر على المشاركة فقط. وعندما قامت بذلك، وجدت تفاعلا كبيرا. أصبحت سفيتلانا تتعامل مع كل هذا بحيوية ومرح. وقد أمدت فهد بأكثر من 100 صورة لتعز عندما كانت لا تزال قليلة العمران.

الموثق الفوتوغرافي فهد الظرافي وكاتب المقال وسام محمد

 في وقت لاحق، سترسل ابنة سفيتلانا -الناشطة في المسرح الروسي- والتي كان عمرها سنة ونصف عندما كان أبواها في اليمن، رسالة إلى فهد على فيسبوك تقول: والدتي كان عدد المتفاعلين معها في “فيس بوك” لا يتجاوزون أصابع اليدين، لكن منذ أن تواصلت معها وتفاعلت في صفحتها وأدخلتها عالم اليمنيين والصور أصبح عدد المتابعين لها أكثر من 4 ألف يمني. وقالت إن امها بدأت تنشر المزيد من الصور وتتفاعل مع المتابعين بعد أن كانت قد أصبحت انطوائية بحكم سنها الكبير؛ ” لقد عاد لها روح الشباب لقد نسيت أمي حتى الملل والضجر”.

أصبحت سفيتلانا ترد على كل الرسائل تقريبا. بما في ذلك المعاكسات التي يقوم بها بعض الشباب الذين يبعثون رسائل طالبين التعارف، معتقدين انها نفس المرأة التي في صورة البروفايل. (يضحك فهد وهو يحكي هذه القصة ويوضح: تلك الصورة التي جعلت بعض المتابعين يراسلونها كانت تعود إلى الستينيات عندما كانت السيدة سفيتلانا شابة جميلة).


[1]تعز.. فرادة المكان وعظمة التاريخ” فيصل سعيد فارع، الطبعة الأولى 2006، الطبعة الثانية 2012، صادر عن مؤسسة السعيد للعلوم والثقافة.

هذا المقال بدعم من

اظهر المزيد

وسام محمد

كاتب وصحفي وباحث في مجال السياسات العامة

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى