فيصل فهد المخلافي شاعر شاب وجد مشنوقا بحبل مدلى من فرع شجرة داخل حرم جامعة صنعاء. الشاب فيصل من أبناء محافظة تعز اليمنية الكبيرة التي يفد كثير من شبابها إلى صنعاء وعدن وغيرهما من المدن اليمنية الأخرى أملا في تحقيق عيش كريم. هذه هي المعلومات الأساسية عن الشاب. وهنالك معلومات شخصية باح بها من يعتقد أنهم من أصدقائه تتحدث عن أنه كان طموحا وملتهب العاطفة ومحب للقراءة والأدب على وجه الخصوص. ولعله لحبه للكلمة قد اتجه صوب التخصص في مجال الإعلام.
عند قراءتي خبر الحادثة بحثت في محرك جوجل عن هذا الاسم فوجدت بعض القصائد الموقعّة باسمه. وأنا هنا لن أتحدث عن مستوى الجودة الفنية أو مستوى السلامة اللغوية لتلك القصائد، ولكنني سأتحدث عن موضوعات صغيرة مطروقة في القصائد لها اتصال بالرسالة التي قيل إنه تركها قبل أن يفارق الحياة وتصعد روحه إلى باريها. رحمه الله رحمة واسعة!
الموضوعات المتصلة بمضمون رسالته المذكورة وما كتب عن الحادثة ألخصها لكم في النقاط الآتية:
- تجاهل وغياب للتقدير والاعتراف من المحيط الاجتماعي والأدبي- تكلم الشاعر عن عزلة تشبه ما يمكن أن نسميه بـ”الموت الاجتماعي”.
- حب امرأة مع استحالة تحقق هذا التوق لذلك الوصال الإنساني الأسمى.
- تحدث البعض عن مشاكل بيروقراطية إدارية بخصوص ملفه الجامعي.
- تحدث فيصل في قصيدتين من قصائده القليلة التي وجدتها عن موضوع الانتحار- في واحدة منهما يقرر أنه حر في ” جسده” أن يفعل به ما يشاء، ولعله أراد أيضا الجسد والروح معا، وفي القصيدة ألفاظ تدل على نية التخلص من هذا الحمل الوجودي الذي تنؤ به روح الشاعر الشاب المحبط.
- يتكرر موضوع الفقر وخطيئة الأب في قصيدة من قصائده وفي رسالته.
لا أريد بهذا المسرد أن أخذ دور المحلل النفسي أو الواعظ الديني لأحكم على الأخ فيصل رحمه الله رحمة واسعة ورَفع مقامه في الجنة؛ ومن أكون حتى أفعل ذلك؟!
هذا؛ بالإضافة إلى أن المعلومات التي لدي ليست معتمدة على مشاهدة واقعية ولا على وثائق قضائية تتضمن الحكم على الحالة مع الأدلة المستنبطة من الطب الشرعي ومن معاينة المكان والبحث عن الملابسات والمحيطين بفيصل. وبالمناسبة لم تعتمد البصمات ولا المحتويات الالكترونية كأدلة ثبوتية في القانون اليمني، مع أنها قد ترقى إلى أن تكون من القرائن.
ولهذا، فما هذا المقال إلا ردة فعل إنسانية لحدث مؤثر ومؤسف، وهو حدث يعكس الحالة التي وصلنا إليها، والتي ألاحظها يوميا في تصرفات الناس في شوارع مدن هذا البلد الغارق في الفقر والحرب والشعور بمرارة الخيبة. ولولا الإيمان الديني الذي يعمر ويغمر كثيرا من قلوب الناس في هذا البلد لرأينا مشانق ذاتية الصنع أخرى كثيرة قد علقت في القرى والبلدات والمدن!
قرأت مرة دراسة عن ” السعادة” تضمنت نتيجة استبيان أجراه علماء اجتماع في إحدى الجامعات الأوروبية، وفيه أن السعادة عند المستجوبين ترجع إلى ثلاثة عوامل هي: الاكتفاء المادي، وتوفر علاقات اجتماعية جيدة للفرد، وشيء معين يمنح الفرد معنى في الحياة؛ قد يكون مثلا الإيمان الديني أو الأسرة أو غير ذلك كمنجزات عظيمة أو حتى بسيطة يسعى إلى تحقيها الإنسان في حياته.
وفي حالة فيصل نجد أنه كان يعاني لأنه كان “يودّ من الأيام ما لا توده” كما قال المتنبي، فيصل كان طموحا ككثير من الشباب في بلادي، لكن أين المعين، و”الناس في بلادي جارحون كالصقور” كما قال صلاح عبدالصبور في بعض تعميماته الشعرية، ورد عليه البعض بـ” ما هكذا الناس في بلادي”. على العموم، قد يكون الناس كذا وقد يكونون غير ذلك؛ لكن لماذا وصل اليأس بفيصل إلى ذراه، إن جاز لنا استخدام شذرات إميل سيوران الحزينة والقانطة؟
العمل الفني ل سعد الشهابي
نستخدم الشعر هنا محبة لروح فيصل، الذي كان كما يبدو واضحا من شذراته الباقية محبا للشعر ومحبا للجمال؛ فحتى الرسالة الأخيرة المنسوبة إليه كتبها بخط جميل. وهذا محزن جدا! في ذرى يأسه أو ربما في معارج إشراقه، لا أدري أي الشعورين كان غالبا على روحه، لعن فيصل العالم وبصق في وجه الظلم والتجاهل بعبارات جميلة!
فيصل وفقا لتحري موضوعات قصائده القليلة على مواقع الانترنت ورسالته كان يعاني من انقطاع الصلات الاجتماعية، ومن انعدام الاعتراف الأدبي، ومن حب يبدو بعيد المنال، وحال فيصل كحال كثيرين من شبابنا القادم من القرى إلى غرف اسمنتية مغلقة كإسطبلات بائسة تنفح منها الروائح الكريهة وتعوزها الحاجيات الضرورية. يريد الواحد من هؤلاء الشباب المعدمين، وبعضهم موهوب وحاد الذكاء، أن يلقى اعترافا من أسرته عبر مساعدتها ماديا، وأن يلقى اعترافا من محيطه العام عبر مجد أدبي أو علمي مرغوب.
فقد فيصل كل شروط السعادة، غير أن السعادة كما يقول المؤرخ المعاصر يوفال نوح هراري ” ليست سوى الواقع مطروحا منه التوقعات”. كيف يتوقع الإنسان من حياة مهددة بالفناء شيئا كبيرا. وفي الحديث النبوي المعروف والمروي عن ابن مسعود ” ارضَ بما قسم لك الله تكن أغنى الناس”. والغنى هنا مادي ومعنوي. حتى الزهد في المجد الأدبي والعلمي ومن الجاه والسمعة هو غنى عظيم؛ بل هو تجلٍ روحي للكرامة الإنسانية القائمة على الاستغناء عن الإطراء والشهرة الزائفة. هذا ليس لوما لفيصل، معاذ الله، فهو قد أفضى إلى خالقه، هذا تذكير لنا ولشبابنا الحانق على الوضع الخانق في البلد بسبب ثلة من البلداء اللؤماء ومن معدومي الحس الأخلاقي.
أهي روح حلاجية صوفية؟
في قمة وجده ومعرفته طلب الحسين بن منصور الحلاج، المصلوب سنة 309 للهجرة، من أصدقائه وأهل ثقته قتله! وهل كان للحلاج أصدقاء، وهو صاحب الكلمات المخيفة لمن حوله؟ يقول الحلاج:
أَقَتلوني يا ثِقاتي · إِنَّ في قَتلي حَياتي · وَمَماتي في حَياتي · وَحَياتي في مَماتي. أَنا عِندي مَحوُ ذاتي
مَن أَجَلَّ المَكرُماتِ.. الخ قصيدته. وكان يقول ” اقتلوني تؤجروا واسترحْ” وكان شيخه أبو القاسم الجنيد، وهو لا يرى الطريقة إلا في الشريعة، حنِقا من هذه التصريحات وغيرها، فيقول ” ترى أية خشبة ستفسده” وهي نبوءة بما سيلاقيه الحلاج من صلب سنة 309 هـ.
صُلِب الحلاج بثبات وطلب من صديقه الشبلي ماء يتوضأ به، ولمّا لم يجد الماء، كما تحكي سير الحلاج ومنها سير شعبية، توضأ بدمه، وقال بصوت مبحوح ” ركعتان في الحب لا يصح وضوؤهما إلا بالدم”.
لم تنته حياة الحلاج ” فقد كان في موته حياته” كما تنبأ، لكن، وبعبارة الشاعر الجواهري، ” ماذا تفيد الشهرة بعد الموت؟. الإنسان يتوق إلى الاعتراف، الاعتراف هو مدار سعينا على الأرض، بحسب الفيلسوف الألماني المعاصر أكسل هونيت.
ظل الحلاج سيرة تحكى، بل وإيقونة للصفاء الروحي والإنساني، ورغم أن البعض قد اتهمه بالزندقة والحياد عن جادة الحق، فإنه ظل في عيون الروحانيين الكبار حتى اليوم يُرى بأنه ” الولي الشهيد” بحسب الوصف الذي يطلقه عليه الفيلسوف الروحاني محمد إقبال لاهوري.
فيصل المخلافي اشتعل حبا، واعتصر قلبه في عزلته ألما ومرارة، اعتصرت قلبه أنشوطة العذاب قبل أن تخنق عنقه الأنشوطة التي علقها في غصن شجرة من أشجار جامعة صنعاء حيث موقف بعض السيارات الفارهة وغير الفارهة. كتب فيصل شعرا فيه مشاعر حارقة.
تأمل المرحوم فيصل حياته، فقال في آخر منشور على الفيس بوك منسوب إليه ” لقد عشت أبحث عني رغم أني غير قادر على حمل هذا الثقل.. ولكني حملته” ويشير في المنشور نفسه إلى قصص حبيسة في صدره ورغبات في أعماقه لم يكتب عنها ولم ير أن يبرر للعالم عن حمله لهذا القصص والرغبات. ليس واضحا ما يعنيه بالضبط. لكنه يختم المنشور أن وحدته ستتبخر إلى عدم.
في حالة الحلاج ليس هنالك عدم، هنالك وجود، والوجود مستمر، وهو مواقف وبرازخ وفي كل هذه المواقف ليس المخلوق بعيدا عن خالقه فـ”ما في الجبة إلا الله”. والكل من الكل حتى صاح قائلا ” أنا الحق” الكل حق. وفيصل لم يكن بعيدا عن هذه الروح تماما ففي الرسالة التي قيل إنها بخط يده يخاطب ربه بروح كسيفة أسيفة.
نعم، ليس موت فيصل بعيدا عن الضائقة الاقتصادية والقلاقل الأمنية والمشكلات الاجتماعية التي تحترق في أتونها اليمن، ولكن الإنسان أكثر من اختزالات الخبراء الاقتصاديين في كونه ” كائنا عقلانيا أنانيا”. الإنسان روح عاطفية تبحث عن محبة. الإنسان روح تبحث عمن يأخذ بيدها في ليل المصائب المدلهم.
وما دمنا تكلمنا عن الحلاج وعن فيصل، فلمنضِ حتى النهاية، قال العارف بالله عبدالقادر الجيلاني ” “عَثَرَ الحلاج ولم يكن في زمانه من يأخذ بيده- ولو أدركْتُهُ لأخذْتُ بيده”. عثر فيصل في مشكلات كثيرة وفي طموح كبير وفي عذاب روحي ممض، ولم يجد من يأخذ بيده. فيا حسرتاه!