يخضع الإنسان منذ ولادته لتنشئة اجتماعية محكومة إلى حدٍ كبير بفكر وتوجهات أسرته التي تعده في معظم الأحيان ملكاً خاصاً لها وتحرمه من حق تقرير مصيره وسلوك أي طريق سوى ذلك الذي رسمته له مسبقاً حتى وإن كان هذا يعني أن يعيش بقية حياته منزوياً عن أشكال التقدم والتغير المستمر في العالم.
في اليمن نجدُ أن الأسر التي اعتنقت توجهات دينية متطرفة خلال سنوات الحرب الدائرة حتى الآن، قد حكمت على أطفالها بالعزلة عن ما يدور في العالم المحيط بهم وذلك لضمان ولائهم وإبعادهم عن كل ما هو مختلف عن توجهاتهم المتشددة.
إنها تراجيديا يعيشها أطفال بعمر الزهور في العاصمة صنعاء. هم لا يعرفون حياة بديلة عن المناخ المتشدد الذي يفرضه الأبناء والأمهات المتبنون لنمط ديني متشدد، وفيه يحيا الأطفال خلف جدران المنازل التي أصبحت أشبه بحبس انفرادي تُحظر فيه الألعاب ومشاهدة التلفاز والهوايات التي تلون حياة الفتيات والفتيان وتشعرهم بطفولتهم.
يشهد اليمن مأساة حقيقة لا تلقي بظلالها على الحاضر فقط بل من المتوقع أن تخلق تبعاتها مستقبلاً حالكاً وأسوأ بكثير من الحاضر المظلم. اليوم يُحرم قرابة 2.05 مليون طفل وطفلة من التعليم الأساسي مما يجعل مصائر كثير من الأطفال أكثر عرضة للفكر الديني المتطرف الذي تعتنقه بعض الأسر وتعكسه في حرمان أطفالها ذكوراً وإناثاً من أي شكل من أشكال التعليم باستثناء دروس الجامع.
وطبقا للدكتورة أماني سويد المتخصصة في علم نفس الطفل، فإن هؤلاء الأطفال قد يصبحون عرضة للعزلة والاستبعاد الاجتماعي. فالكثير من الأطفال قد ينأون بأنفسهم عن أقرانهم المنحدرين من أسر تميل في نمط حياتها نحو التشدد، وهو ما يُشعرهم بالنقص ويلقي بهم في غياهب الاكتئاب والنقمة على المجتمع.
حرمان في زهرة العمر من الحق في التعليم واللعب
لم تكن دهشة الطفلين مصطفى (اسم مستعار) الذي يبلغ من العمر 13 عاماً وأخته لبنى التي تكبره بعامين رد فعل غير متوقع حين شاهدا في الشارع طفلاً من جيلهما يقفز بفرح كل بضع خطوات وهو يحمل حقيبة كتبه في طريق عودته من المدرسة.
تبادلت لبنى مع مصطفى نظرات الحسرة على حالهما بعد أن حُرما من التعليم واللعب مع أطفال الحي. بكل حزن يشكو مصطفى:
“كم تمنيت أن أخرج للعب مع أطفال الحي بالكرة، أشاهدهم من شرفة منزلنا وعلى غفلة من أمي وهم يلعبون كرة القدم وأغمض عيني وأتخيل نفسي معهم أسدد رميات الكرة”.
تقاطعه أخته:
“البارحة نظرت أنا أيضا من نافذة غرفتي ورأيت فتيات يلعبن بلعب جميلة وملونة كتلك التي طلبت من والدي أن يشتريها قبل أن ينهرني ويقول لي أن العرائس والصور حرام وتمنع الملائكة من دخول بيتنا”.
يشغل باليّ مصطفى وسلمى سؤالٌ واحد: لماذا لا نستطيع أن نحظى بحياة الأطفال الذين نراقبهم من خلف النوافذ الموصدة؟
هذه المرة قرر مصطفى وسلمى تخطي حظر أهلهم لأي معرفة بذلك العالم الذي تفصلهم عنه قضبان المنزل، والتقيا خلسة بأطفال جيرانهم الذين يسميهم والدهما “أطفال المدارس” وكأن في ذلك وصمة عار.
سألهم مصطفى بكل براءة: ماهي المدرسة؟ ولمَ تلبسون هذا الملابس حين تذهبون إلى المدرسة كل صباح؟ لماذا تحملون حقائباً، وما يوجد داخلها؟” لم يتمالك جار مصطفى، أحمد ذو العشرة أعوام نفسه وبدأ يضحك هو وأطفال آخرون على مقربة منهم، فقد ظنوا أن مصطفى يدعيّ الغباء، فكيف لطفل يبلغ الثالثة عشرة ويقطن وسط العاصمة أن لا يعرف ما هي المدرسة؟ سخر الجمعُ من مصطفى ولبنى وتركوهما في حيرتهما، ما هي المدرسة؟
الفتيات أسوأ حالا
الفتيات أسوأ حالا من الذكور بشكل عام في اليمن حتى قبل الحرب وذلك بسبب تمييز الأعراف الذكورية الطاغية اجتماعياً ضدّهن والحرب فاقمت من معاناتهن. إلى حد ما كان هناك تشجيع لتعليم الأطفال وهو الأمر الذي بات مختلفا بعد سبع سنوات من الحرب، أصبحت العملية التعليمية لأطفال اليمن واحدة من التبعات الكارثية لاستمرار النزاع المدمر في البلاد.
وفي ظل هذا الخواء الذي خلفه الحرمان من حق التعليم أصبح زواج القاصرات مسيطرا على المشهد. وفقا لإحصاء صادر عن منظمة الأمم المتحدة للطفولة “اليونيسف” في 11 فبراير 2019، فإن نسبة زواج القاصرات تشكل نحو 21% من إجمالي عدد الفتيات في البلد؛ إذ تتزوج سنويا 12 مليون فتاة دون سن 18 سنة.
وبحسب التقرير الصادر عن اليونيسف 2019 فإن ما معدله امرأة وستة مواليد يموتون كل ساعتين في اليمن؛ فقد تصاعد عدد الوفيات للأمهات منذ تصاعد النزاع من خمس وفيات أمهات يوميا لعام 2013 إلى 12 حالة وفاة حتى عام 2018 وما زالت الأرقام في التصاعد حتى اليوم بسبب انعدام الرعاية الصحية الجيدة للحامل والزواج المبكر للقاصرات.
تفي الغالب تصبح الفتيات اللاتي ينحدرن من أسر تتبنى رؤية دينية متطرفة أكثر عرضة للاضطهاد والحرمان من حقهن في التعليم، وقد يمنعن من الخروج من المنزل كلياً تحت غطاء ديني. وقد تلزم الأسرة المتشددة الطفلة التي وصلت إلى سن السادسة من العمر، أي قبل البلوغ بفترة طويلة، بارتداء الحجاب، أما عند بلوغها التاسعة فقد تلزم بلبس الجلباب الطويل المعروف باسم “الخمار المصري” الذي يغطي وجهها وجسمها بالكامل.
وقد لا يتوقف الأمر عند هذا الحدد، فقد تجبر بعض الأسر المتزمتة بناتهن على الزواج قبل سن الخامسة عشرة دون الرجوع لهن ويحرمنهن من حقهن في الرفض أو الإيجاب وهو الأمر الذي تكفله لهن الشريعة الإسلامية؛ فلا زواج بدون رضا المرأة صاحبة الشأن، كما يقول ابن تيمية.
الفتاة منى التي وئدت مع أمانيها
الفتاة في نظر الأهل عامةً مشروع زواج منذ ولادتها، لا وظيفة لها سوى الطبخ والإنجاب والانصياع لأوامر وتعليمات زوجها دون تفكير أو اعتراض. لم تنسَ منى ذات الأربعة عشر عاما اليوم الذي قرر والدها تزويجها من شاب لم يتم السابعة عشرة من عمره، ولم تعلم بهذا القرار إلا قبل أسبوع من الزفاف حين قيل لها أنها ستتزوج من شاب مهذب حافظ للقرآن عليها أن تطيعه بشكل مطلق.
قابلت منى كلام والدها بالقبول والطاعة بل وفي الحقيقة شعرت بفرحة عارمة كونها رأت في الزواج فرصةً ذهبية تمكنها أخيرا من الخروج من منزل والدها الذي باتت تحفظ جدرانه عن ظهر قلب.
انتظرت منى بلهفة أن ينقضي الأسبوع الذي قضته في تخيل منزل زوجها وغرفتها الجديدة وكيف سيكون بإمكانها الخروج من المنزل دون رفض أبويها. أمورٌ بدت كأحلام مع أنها لم تكن سوى حقوق بديهية في عالمٍ موازٍ لعالمها.
غير أن منى صُدمت بحياة أكثر قهراً من التي عاشتها في منزل والدها، فزوجها لا يمتلك حق اتخاذ أي قرار يخصه أو يخص زوجته بل إن مصيرهما معاً مرهونٌ بقرارات والده الذي ينفق عليهما. حملت منى بعد زواجها بشهرين وفي ليلة وضحاها انتهت طفولتها التي لم تعشها قط.
النخب السياسية و الفكرية: إنها مسؤوليتكم التاريخية
صادقت اليمن عام 1991 على اتفاقية حقوق الطفل الصادرة عن الأمم المتحدة بشأن حماية حقوق الطفل والتي نصت موادها على احترام آراء الطفل وحرية تبادل الأفكار وحقه في الحماية من العنف وضمان تعليمه وحقه في الراحة واللعب. وألزمت الاتفاقية الحكومات الموقعة بحماية بضمان تمتع الطفل بالحقوق الواردة في الاتفاقية.
أما بالنسبة للتشريعات اليمنية فيتضمن القانون 45 للعام 2002 بشأن حقوق الطفل كذلك العديد من المواد التي توضح مسؤوليات الأسر والدولة تجاه الأطفال، إلا أن الدولة اليمنية في الواقع العملي لا تتخذ الإجراءات اللازمة لحماية الأطفال من الأسر المعنفة ومن التنشئة المتعصبة دينياً والحرمان من التعليم.
بأفكار مغلوطة تنافي الدين الإسلامي في كثير من الأحيان، تساهم الأسر المتطرفة في صنع مستقبل قاتم ليمنٍ تنتشر فيه الأمية بشكل متسارع ويفتقد فيه النشء للدعم الذي يساعدهم على أن يكونوا فاعلين في نهضة المجتمع. وفي النهاية نعلق آمالنا على أن تتحمل الدولة مسؤوليتها في هذا الصدد وأن يواجه التنويريون في مجتمعنا موجة التطرف الجارفة التي تجد في ظروف الحرب والصراع بيئة خصبة للنمو والتمدد المهدد لمستقبل أجيالنا.
فهل تستيقظ نخبنا السياسية والفكرية لمسؤولياتها الأخلاقية والتاريخية؟ فعليها تقع المسؤولية الكبرى في أن تسعى، في هذا المنعطف الذي تمر به البلد، للإصلاح التربوي والفكري في إطار برامج عملية طويلة المدى تضع في خططها هدفا أسمى هو تهيئة البيئة الاجتماعية التي يكون من شأنها بناء الإنسان الفاضل في أخلاقه، المسالم والمندمج مع غيره، الواعي العقلاني المتزن في سلوكه، والمشارك الايجابي في بيئته المحلية والعالمية المعاصرة بكل تعقيداتها.