المجتمع المدني

أطفال اليمن: عمالة وخوف وضياع جيل

This post is also available in: English (الإنجليزية)

الصورة بإذن من رحمن طه

 

“إن أي بلد وأي مجتمع لا يهتم بأطفاله لا يمثل أمة على الإطلاق”.

 نيلسون مانديلا

لا يخفى على القراء حجم المعاناة التي يقاسيها أطفال اليمن من الناحية الصحية، والتعليمية، والأمنية. ومن الظواهر المقلقة في اليمن تزايد عدد أطفال الشوارع بعد اندلاع الحرب وتطورها إثر التحول العاصف الذي انهارت فيه البنية التحتية للدولة. يضاف إلى ذلك أن عمالة الأطفال في ازدياد؛ ففي عام 2013  كان عدد عمالة أطفال اليمن يصل إلى 600 ألف طفل عامل ووصل العدد الآن إلى مليوني طفل عامل حتى عام 2018.

وحسب تقرير اليونيسف لشهر مارس 2018 عن وضع أطفال اليمن، فإن هناك 11.3 مليون طفل بحاجة إلى مساعدة إنسانية (بشكل تقديري)، و 1 مليون هو عدد الأطفال النازحين، و4.1 مليون هو عدد الأطفال المحتاجين للمساعدة في مجال التعليم.

 يقدم الأطفال خدمات متعددة في الشوارع اليمنية كالموسيقى، والغناء، و بيع المناديل، والعصائر، ومسح السيارات. قد يفعلون ذلك بغير مقابل أملا في التقاط بقشيش الخدمة. ويحرص هؤلاء الأطفال مع تقديم الخدمة أن يشفعوها بالابتسامة والتودد. و قد يتعرض هؤلاء الأطفال للتحرش والعنف والابتزاز. حالت عوامل متعددة منها الحرب والفقر والخوف بين هؤلاء الأطفال و العيش بسلام و أمان في أوساط أسرهم. و المزري حقا أن هؤلاء الأطفال لا يعرفون الطريق إلى المدارس والحدائق، و إنما يتجرعون مرارات العمل في الشوارع خوفا من قرصات الجوع ومن ضربات آباء حطمت نفسياتهم حياة بائسة في بلد مزقه الصراع وكواه الفقر.

بشار العازف وآخرون: قصص من قارعة الطريق

بشار أسمر البشرة طفل في عمر الخامسة عشر يمارس عمل الموسيقى؛ يقرع الطبل، وينفخ البوق الصغير في شوارع صنعاء لكسب لقمة العيش. ليس تلك بالأدوات الموسيقية الحقيقية التي يعزف عليها بل إنه يعزف على البراميل وبعبوات بلاستيكية فارغة وجدها جميعاً في مكب المهملات. ويحكي لنا أنه يعتز بأن خاله المتوفى قد علمه فن الايقاع حينما كانا يجمعان العبوات البلاستيكية لبيعها لسد رمق الأسرة الجائعة. يرى بشار بأن الموسيقى حياته؛ وبأنها مصدر رزقه. وهو يحب فرح الناس حوله حينما يدق لهم البراميل بعزفه الشبيه باللون الأفريقي الممتع.

الصورة بإذن من رحمن طه

نعم؛ إنه طفل موهوب، لا يدخل المدرسة لكنه يقرع الطبل عند بابها. يتوافد الجميع عليه لتصويره وتهتز بعزفه الأكتاف، وتتمايل الأجساد، وتصفق له الأيدي مع كل دقة في ظهر الطبل، وأحيانا يصل الأمر إلى غناء الجمهور مع عزفه. حلمه أن يكون عازف إيقاع محترف. وحلمنا له أن لا يكون في الشارع مطلقاً وأن يلتحق بالمدرسة ليكمل تعليمه عوضاً عن أن يعزف أمام بابها لكسب العيش. وحلمنا له أيضا أن يلتحق بمعهد فنون موسيقية لصقل موهبته أكثر، فيوماً ما سيكون كما يريد “أفضل عازف إيقاع” مثل جينجر بيكر ،مايك بورتنوي ، لارس أولريتش (ميتاليكا) و جون بونهام وغيرهم من مشاهير العالم في هذا الفن.

رهف تلك الصغيرة البالغة من العمر اثنتي عشرة سنة ً طفلة حكيمة ذكية تبهرك بذكائها في اختصار أجوبتها التي تنطق بالمسؤولية والصبر. رهف من طبقة كانت فوق مستوى خط الفقر قليلاً، ثم آل حالها إلى بيع المناديل. تقول رهف: أخبرت أمي بأني تعبت، وأني أريد أن ألتحق بالمدرسة، وأنه من الضروري أن يفهم أبي أني أريد الالتحاق بالمدرسة. يكفي بأن عمري يضيع في بيع المناديل حتى أساعد أبي في تغطية تكاليف المعيشة، هو لا يعمل ويغضب إن لم آتِ له بالمال. إن رهف وأسرتها الآن من الشريحة معدمة الدخل التي لا تملك شيئاً مطلقاً. والدها مصاب في رجله بسبب إحدى الغارات التي انصبت على جبل نقم والتي أحرمته من العمل. لا تفهم رهف سوى أنها طفلة وأنها تريد النوم باكراً لأنها مرهقة من العمل وتمشط الشوارع بمناديلها وتتذمر من أجل المدرسة.. يا إلهي إنها تتذمر..!!!، و هي لا تدري أنه جرم في حقها.  إن رهف من الصغيرات اللاتي يحلمن أن يكن طبيبات وليس أي طب ولكن طب الأسنان؛ لأنها تقول إن معظم الناس يسخرون من أسنانها؛ لأنها متآكلة. ولو جئنا لحقيقة ما حدث لها لعلمنا أن الخوف الذي أصابها بسبب الغارات على جبل نقم قد أدى إلى نقص مناعتها. آخر ما قالته رهف لي: احتفظي بنقودي عندك حتى أدخل الحمام، إنهم يرفضون أن يدخلوني الحمام هنا، لكن عندما أصبحنا صديقات لا يمنعونني ويقولون لي أهلا بالصغيرة الطبيبة.

الصورة بإذن من رحمن طه

صابر ذلك الولد الذي يكبرنا في الحب، يبلغ من العمر البيولوجي إحدى عشرة سنة، كان يأتي لباب بيتنا ليطلب العمل في أي شيء “منافعة”. وكلما تبسمت له يستغرب، ثم يبادر سريعاً بالابتسام، فيبدأ حوارنا. والده لم يعد يستلم راتب البلدية ويذهب لدوامه ثم يعود للشارع لمسح السيارات.  ويريد صابر مساعدة والده؛ لأنه يحبه كثيراً. لم يعد لديهم ما يأكلونه فقرر صابر أن يطلب العمل في البيوت وأن يبيع العصيرالذي يصنعه عند باب الجامعة القريبة منهم. وعندما لا يملك المال لشراء العصير الذي يخلطه بالماء لبيعه يذهب “للقربعة”؛ أي جمع قنينات الماء الفارغة من الشوارع وحملها على ظهره في كيس كبير لبيعها بالكيلو، ومن الكيلو يحصل على 1000 ريال يمني. قد تصل الحال بصابر  أن يجمع القنينات حتى الليل.
لم تعد الدراسة من معايير الحياة المفروضة لهذه الطفل بل المعيار الأول النجاة. يقول صابر : سأرجع إلى المدرسة قريبا، ولكن عندما أطمئن على أبي وإخوتي.

نورية تبلغ من العمر 14 عاما توقفت عن الدراسة بعد وفاة والدها في حرب تعز، ونزحت هي ومن تبقى من أهلها إلى إحدى البيوت غير القابلة للعيش في عطان بصنعاء. يتكون البيت  من غرفة واحدة وحمام. تسكن هي و7 أفراد من أسرتها أطفال ونساء. نورية أصبحت الآن رجل البيت فهي تخرج من الصباح تمسح السيارات بقطعة قماش وقارورة صابون. تركض هنا وهناك حتى تجمع 10000 ريال على مدار الشهر لتدفع  إيجار الغرفة؛ فالمالك يهددهم بإخراجهم إن نقص فلس واحد.  تقف نورية مع الشمس في شموخ على أرصفة الشوارع المزدحمة لتصطاد السيارات والباصات لمسحها بكلمات طيبة. أحياناً تصمت نورية ولا تمد يدها ولكن فقط تمسح إلى أن يستحي مالك السيارة ويعطيها المال بعد أن يكون قد كرر رفضها لعملها.  تنتهي فترات ذروة ازدحام الشوارع لتذهب بعدها لجمع الأكل من البيوت المجاورة من بيتها. رأيتها يوم تجلس على الأرض ويدها على رأسها وجوارها كيس كبير من الأكل وكيس أسود أكبر؛ منها سألتها ماذا بك ؟ قالت : فقط مرهقة وابتسمت.
نورية كانت تريد أن تصبح مُدرسة حينما تكبر ولكن هذه الصغيرة أصبحت مدرسة من الشقاء.

إنها قضية أطفال الشوارع، وما أقساه من وصف أطلق على أطفال أبرياء، لهي قضية عظيمة تهز حضارة اليمن و أخلاقياتها ومستقبلها. ومن أجل معالجتها لا بد أن يتحرك المجتمع سريعا حتى وإن كان في ظل غياب الدولة. يستطيع قادة المجتمع تقديم مبادرات إنسانية لمساعدة الأسر المنكوبة و لف أولادها من الشوارع. ففي اليمن أموال طائلة إلى جانب معدلات الفقر المرعبة، ومن هذه الأموال يستطيع فاعلو الخير تأسيس مشاريع مستدامة لتوظيف الأسر وكفالتها. إن المنظمات الدولية المعنية تتبنى، مشكورة، قضايا الأطفال في اليمن، غير أن الوعي بهذه القضية الخطيرة لا يزال متدنيا سواء على المستوى المحلي أو الدولي. وهو الأمر الذي يتطلب يقظة من قادة الرأي والصحفيين والمثقفين في المجتمع اليمني.

 

سارة ساري: صانعة أفلام، وكاتبة، ومخرجة، ومدربة في عدة مجالات، ومصورِّة صحفية. تساهم سارة في التعليم المجاني خاصة في مجالي السينما والتأهيل النفسي منذ 2016. و قد شاركت بأفلامها في أكثر من مهرجان خارج اليمن وآخر عرض لأحد أفلامهاالذي أنتجته عن حرب اليمن كان في البرازيل.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى