خمسٌ وعشرونَ عامًا والحالُ نفسُ الحال، ربعُ قرنٍ وأنا لا أهاب فعلًا كالكتابة عن الشعراء، كُلَّما هممتُ بالكتابةِ عن أحدِهِم، ينتهي الأمرُ بتكسيرِ القلمِ، أو تمزيقِ الورقةِ على أقلِّ تقدير! لربما هي (فوبيا) يعاني منها الذين لا يحسنونَ نظم الشعر! لكن لا ضرر في أن أتركَ الخوفَ جانبًا، وأن أملك من الشجاعة ما يمكنني من الكتابة عن الشعر، فإن وافقتُ الصواب فقد أدركتُ غايتي، وإن لم فحسبي أن أبقى أنيسًا وفيًّا للقصيدة!
قد تكون أحاديثُ الهوى أقرب مواضيع الشعر وأحبها للناس أينما كانوا، تُصفّق لأبي الطيب المتنبي وهو يصفُ محبوبةً “استقبلتْ قمرَ الزمانِ بوجهِها”، فأرتْهُ “القمرين في وقتٍ معاً”(1) ، وتَعجبُ من أبي بكرَ بنِ شهاب وهو يُضحِّي بنفسِهِ فدًى لمليكةِ الحُسنِ التي “جعلَ الجمالُ لها الكواعبَ عسكراً” (2)، لكنَّكَ تُصابُ بالحيرة حين تسمع الشاعر حسين بن أبي بكر المحضار يقول في غزله للمحبوب: “والعيلماني من لحظ عينه شعل” (3) فتتساءل عما راود المحضار ليُشبَّه عينين ساحرتين بآلةٍ حربية كالعيلمان؟!
ظاهرة التغزل بالمحبوب بتشبيهه بالسلاح قد تبدو غريبةً لدى البعض، لكنَّ المستمعَ الجيِّدَ للشعرِ الحميني اليمني المُغنَّى لا يستغرب من حضورِ الآلةِ الحربيةِ في القصيدة. في حضرموت كما في محافظات يمنية أخرى، يعيشُ الشعراءُ في بيئةٍ تُحتِّمُ عليهم رؤيةَ السلاحِ في أكثرَ من مناسبة، فعلى سبيل المثال تُقام في أعراسُ البدو الحراوات، وهي فعاليات يطلقون فيها الأعيرة النارية على الهواء من فرط البهجة، كذلك ضمن تقاليدِ حضرموتَ توجد عادةُ القنيص، وفيها يطوِّق المسلحون الوادي في محاولةٍ لاصطيادِ الوعول والظباء، ومنذُ القدم عُرِفَتْ حضرموتُ بصناعةِ الجنابي الحربيةِ بأنواعِها الأربعة: القديمي، والقصبي، والقبلي، والحسيني، وقد وَرَدَتْ الجنابي –عمومًا- في الشعرِ الحضرميِّ العامي.
عيون المحبوب بنادق ورصاصات فتاكة
وبالعودة إلى قول المحضار “والعيلماني من لحظ عينه شعل” يظهر لنا أنه يرى عيني المحبوب كالعيلمان حين يشتعل فيفتك بمن يجده في طريقه، والعيلمان بندقية حربية ألمانية الصنع ظهرت في منتصف القرن العشرين تتميز بطولها الفارع كما يُلاحظ، وفي قصائد أخرى يُشبِّه المحضار عيني محبوبه بآلةٍ حربية غير العيلمان، هذه المرة يُشبهها بالميزر، وهو بندقية حربية أدخلها الأتراك إلى اليمن، ويبدو أن اسمها حُرِّف عن الأصل، إذا تُسمى باللغة الإنجليزية (( MAUSER وهو من صناعات شركة ماوزر الألمانية، يقول المحضار عن محبوبه:
دركاه يا أهل القرايح ميزر علي منه قرح
عطل علي كل الجوارح والقلب سود وانجرح
وفي سياق آخر، يقول أبو محضار:
ولقيت غزلان مثناتها يرتعن فيهن العاتقة والتي على اللبن
والله لوما رميت السلب من زمن ما بظني يخالف ميزري النبوت
ويقول أيضًا:
أشَّر بعينين لي حمره أسرع من الميزر النبوت (4)
ومما يستدعي الوقوف أن وصف المحضار لعيني محبوبه بأنهما أسرع فتكًا بالعشاق من رصاصة الميزر مأخوذ من قصيدة “طير متعلي” وهي من القصائد التي يحاور فيها محبوبًا بدا في هيئة الطائر، يسأله المحضار عن سبيلٍ للوصول إليه:
فقلت: يا طير شي بُصره؟ لي باتنزلك لي مره قلبي للقياك حن!
فيجيب المحبوب بزهوٍ وكبرياء:
ما تنزل الزُهرة والجوهرة لي في بطن الحوت!
تشبيه عيني المحبوب بالسلاح عادة ما يصف لحظة رؤية الحبيب لأول مرة، ولكن بعد أن يتربع المحبوب، الطائر الأسرع من الرصاص، في قلب الشاعر يتحول الغزل إلى مناجاة حزينة. ذلك الشجن نراه في قصيدة “غبش قمري حمامة” للمحضار:
ألا يا طير قل لي عسى منت مشتاق مثلي وخلك مثل خلي
يخونك إذا قفيت ويا نوب في الجبح حليت (5)
يحضر السلاح مجددًا بعد المناجاة هنا على هيئة سهام حربية لم يتمكن من تفاديها ليسقط شهيد هوى عيني المحبوب، يقول متغزلاً بهاتين العينين مُشبهًا إياهن بالسهام الحربية:
حاولت في الحب اقتناصي وعرفت تقنصنا
واليوم أطلب في خلاصي وش با يخلصنا
وسهام لحظك في القناصة تصيب الشخص مهما حاص
الحب أصله وفاء ومسامحة ما هو عطاء وخلاص (6)
وبالوقوف على قول المحضار “سهام لحظك في القناصة تصيب الشخص مهما حاص” تتجلى لنا براعة المحضار وهي يصوِّر لنا كيف تطارده عينا محبوبه ولا تتركان له مجالًا للهروب، أو وسيلةً للنجاة، فهما يُصيبان الشخص مهما حاص، والفعل الماضي الثلاثي “حاص” له أصل في اللغة العربية الفصحى، يقولون” حاصَ القوم عن الطريق، أي عدلوا عنه، ومالوا (7)، وأحسب أن أهل البوادي يكثرون من استخدام هذا الفعل في أحاديثهم اليومية.
بقي أن نُشير إلى أن هذا البيت جاء ضمن قصيدة “الحب أصله وفاء” التي يقول المحضار في مطلعها:
آسف أقول إنك مصاصي وإنك تخادعنا
وإنك تحارب بالرصاصي لما تحاربــــــنا
وإنك ابن آدم في الخلاصة، قليل النصح والإخلاص
الحب أصله وفاء ومسامحة، ما هو عطاء وخلاص
وهي من القصائد التي استشهد بها الدكتور عبد الله حسين البار في سياق حديثه عن القصائد المحضارية التي هاجرت أوزانها إلى شعر شعراء آخرين، أو بعبارة أخرى: عارضها ونسج على منوالها شعراء مثل عمر العيدروس في قصيدته الشهيرة (8):
فهمك لمعنى الحب خاطي ما طعت تفهمنا
لا جيت باجدد رباطي في الحب تمنعنا
والحب ما يحكمه قاضي، ولا له عرف أو قانون
يكفيك يا قلبي بس لما متى محنون
تشبيه عيني المحبوب بالسلاح الحربي لم يكن حكراً على المحضار، يذكر الصحفي عزيز الثعالبي في كتابه “محمد جمعة خان .. الأغنية الحضرمية الخالدة” الصادر عن مؤسسة حضرموت للتنمية البشرية عام 2009م أن المجلس الإداري للمنتخب الوطني لكرة القدم أقام في سنة 1960م حفلاً فنيًا على ساحة القصر السلطاني في المكلا، وقد حرص على حضوره الجمهور المتعطِّش لتجديد الندوة الموسيقية، وفي هذا الحفل شارك الفنان محمد جمعة خان بأغنيةٍ كان قد أعدَّها خصيصًا لهذه المناسبة، وهي من كلمات الشاعر الراحل يسلم أحمد باحكم، شبَّه فيها عين المحبوب بالسلاح الذي يقتل المحب، يقول في مطلعها:
سحر عينك يا جميل فاتني ارحم قليل
لا توقـــــــــــــــعني قتيل من لحاظك يا أغن (9)
والأغن هو الشخص الذي تُسمع في صوته غُنَّة، وَالغُنَّة صَوْتٌ يَخْرُجُ مِنَ الْخَيَاشِيم (10)، وما تجدر الإشارة إليه أن الشاعر يسلم باحكم كذلك تغزَّل بعيني محبوبه مشبهًا إياهما بالسهم الذي يصطاد العشاق، يقول:
صاد قلبي بلحاظٍ وأصبح الجاني عليَّا ورماني بسهام حرَّك الوجدانَ فيَّا
وتتكرر الحال عند الشاعر حداد بن حسن الكاف الذي يحدثنا عن محبوبه الذي رماه بنظرة وقعت على قلبه كوقع السهم، حدث ذلك بينما كان حداد مارَّاً قرب ديار الحبيب، عن هذه الواقعة يقول حداد:
أول خبر قلبي ضرب بسهام خلي من الشباك صابتني سهامه
صابت فؤادي بعد ماخلخلت لعظام بظني إن السهم لي يرميه مسموم (11)
بعد ما استعرضنا هذه الشواهد يمكن القول بأن ظاهرةَ التغزُّلِ بعيونِ المحبوبِ -بوصفها سلاحًا يصرع العشاق- لها جذور في ديوان الشعر العربي، ولربما قرأ المحضار وباحكم وحداد وغيرهم أماثيل من الشعر العربي فانعكس ذلك على شعرهم، فحين نعود إلى واقعِ الشعرِ العربي في العصرِ الأموي نجد الشاعرِ جرير بن عطية يبينُ لنا إلى أيِّ مدًى يمكنُ أن تفْتكَ عيونُ الحسانِ بالعاشقين، يقول أبو حزرة:
إِنَّ العُيونَ الَّتي في طَرفِها حَوَرٌ قَتَلنَنا ثُمَّ لَم يُحيِينَ قَتلانا
يَصرَعنَ ذا اللُبَّ حَتّى لا حِراكَ بِهِ وَهُنَّ أَضعَفُ خَلقِ اللَهِ أَركانا (12)
وفي العصر الحديث للشعر العربي مرَّ أمير الشعراءِ أحمد شوقي بموقفٍ مُشابه، حينَ أحبَّ محبوبًا يميلُ يمنةً ويُسرى كغصنِ الأراك، لكنَّ عينيهِ لديهُما القدرةُ على صرعِ العشاق، يقول:
ظُلمًا أقـــول جنى الهــــــــوى، لم يجنِ إلا مُقلتاكْ
غدَتا منيَّةَ من رأيـ ـتَ، ورُحتَ مُنيَةَ من رآكْ
المحبوب سلاحٌ محمول على الكتف
ظاهرةَ التغزُّلِ بالسلاحِ في الشعرِ الحضرميِّ لا تنحصرُ فقط في تشبيهِ عيونِ المحبوبِ بالسلاحِ الفتاك، وتحضرني الآن بعض الشواهدُ التي شبَّهَ فيها الشعراءُ أحبابهم بالأسلحةِ التي توضع على الكتف، فتجلبُ لحاملِيها الشهرةً والسؤدد، ولعل ذلك يعود إلى القيمة التي يُضفيها السلاح إلى حامله، ففي المجتمع القلبي يُشكِّل السلاح مع الإنسان بُنيتين متلازمتين لا ينفكَّان عن بعضهما البعض، يمنح السلاح حامله مساحةً آمنة تجنبه الغارات ومحاولات الاغتيال، ومن كُتبت له زيارة الأرياف سيسمعهم يتهكَّمون بالرجل الذي يخرج من البيت وليس على كتفه سلاح، يقولون له بنبرة ازدراء: كنَّك، محَّد ينسى سَلَبُهْ؟!
ففي إحدى الليالي تفاجأ الشاعرُ صالح بن عبد الرحمن المفلحي بمحبوبِهِ الذي نأى عنْهُ دون سبب، وقرَّرَ مصاحبةَ بشرٍ لا يليقون به إطلاقًا، قوم يُهين نفسه عندما يكون محاطًا بهم، فتملكته الحسرة على هذا المحبوب الذي لا ينبغي له إلا أن يكون محبوبًا له دون البشر، فشبهه بـ (بلجيك) وهو سلاح صنع في بلجيكا، وهكذا كانت الأسلحة تسمى بأسماء الدول التي صنعت فيها (13)، فخاطبه متعجباً مستغرباً:
بلجيك ما تصلح إلا على كتف السعيدي كيف ذلوك يا عز السلوبة
وينهم لي يحسنون الضرب ع المحلاة
وليسَ الشاعرَ صالح بن عبد الرحمن المفلحي وحدهُ الذي شبَّه المحبوبَ بالسلاحِ الذي يوضع على الكتفِ فيجلبُ لحاملِهِ الشهرة، يذكر الأستاذُ محمد عبد القادر بامطرف في كتابِهِ الموسوم (حداد بن حسن الكاف الشاعر الغَزِل) أنَّ الشاعرَ حداد بن حسن الكاف مرَّ بإحدى الحقولِ الزراعيةِ في ضواحي مدينةِ سيئون، فرأى فتاةً جميلةً تعملُ في الحقلِ في عز الظهيرة، فتحسَّر على هذا الحُسنِ الذي تحرِقُهُ أشعةُ الشمس، وتمنى أنْ لو عاشتْ الفتاةُ أميرةً في قصورِ السلاطين، فكتبَ قصيدتَهُ الرائعة التي يقولُ في مطلعِها: يا غصن قد ربوك أهلك من زمن محروب، وليسَ هذا البيت مقصدنا من القصيدة، يعنينا منها المقطع الأخير الذي شبَّهَ فيهِ الفتاةَ بالميزرِ الذي يوضع على الكتفِ فيجلبَ الشهرةَ لحامله، فقال متحسرًا:
عيني على ميزر مخرَّج صنعته ملبوب زين الحديدة والمشط ما يمتسك خصره
يا ريتنا بتسلبه بلقي عمامة لاس يا خير سلبة شلت الشهرة
ولا تستاهل إلا للسلاطين
ومثلما بدأنا هذه المقالة بالاستشهاد بشعر المحضار، نختتمها كذلك بشيءٍ من أشعاره، فقد شبَّه المحضار محبوبه بالميزر الذي يوضع على الكتف فيجلب الشهرة لحامله، يقول:
وأتسلبك على كتفي يا ميزر دقيق الصنع سام
تعطي محبك شهرة وقت المحك والزرة
في البيت أو خارج البيت
يا ريتنا ما حبيت (14)
وفي موضع آخر يقول:
أنا بانوي نشوفك حقيقة لا خيال وأحملك على كتفي سلب
بك بغتوي في شعب ما بين الجبال ولَّا على شط العرب
حيث الهوى يهدي نسيماته مسكين قلبي في المحبة زادت أنَّاته
مما تقدَّم، يظهر أن ظاهرة التغزل بالمحبوب عن طريق تشبيهه بالسلاح جاءت على شكلين في الشعر الحميني الحضرمي: أحدهما التغزل بعيون المحبوب بوصفها سلاحًا فتاكًا يصرع العشاق، والآخر التغزُّل بالمحبوب بوصفه أداةً حربية توضع على الكتف فتجلب لحاملها الشهرة، وفي كلا الشكلين ذكرتُ بعض الشواهد لتكون ومضات ليس إلا، ولو كان المقام يتسع لسردتُ شواهد أخرى، ولكن حسبي من القلادة ما أحاط بالعنق!
المصادر:
- واحة المتنبي، قصيدة أركائب الأحباب إن الأدمعا، متاحة على الرابط التالي: http://www.almotanabbi.com/poemForPrinting.do?poemId=138
- ابن شهاب، أبو بكر بن عبد الرحمن، ديوان ابن شهاب ص 133، دار التراث اليمني، مكتبة التراث الإسلامي.
- المحضار، حسين بن أبو بكر، ديوان دموع العشاق ص 179 دار صيدا، – بيروت
- المحضار، حسين بن أبو بكر، ديوان ابتسامات العشاق ص 143
- المحضار، حسين بن أبو بكر، ديوان دموع العشاق ص 36 دار صيدا – بيروت
- المحضار، حسين بن أبو بكر، ديوان ابتسامات العشاق ص 177
- معجم المعاني، معنى الفعل الماضي الثلاثي “حاص” متاح على الرابط التالي: https://www.almaany.com/ar/dict/ar-ar/%D8%AD%D8%A7%D8%B5/
- البار، عبد الله حسين، شعر المحضار النشيد والفن (بتصرف)
9)الثعالبي، عزيز، كتاب محمد جمعة خان الأغنية الحضرمية الخالدة، ص 206، مؤسسة حضرموت للتنمية
10)معجم المعاني، معنى الأغن، متاح على الرابط التالي: https://www.almaany.com/ar/dict/ar-ar/%D8%A3%D8%BA%D9%86/
11) الثعالبي، عزيز، كتاب محمد جمعة خان الأغنية الحضرمية الخالدة، ص 178، مؤسسة حضرموت للتنمية
12) الخطفي، جرير بن عطية، ديوان جرير ص 492، دار بيروت للطباعة والنشر.
13) بلجيك، ذلك الصوت القادم من أعماق الفن، مقال للدكتور عبده الدباني على موقع يافع نيوز، متاح على الرابط التالي: https://yafa-news.net/archives/474302
14) المحضار، حسين بن أبو بكر، ديوان ابتسامات العشاق ص 89