أدب

محمد عبد الولي وشيءٌ اسمه الحنين!

This post is also available in: English (الإنجليزية)

العمل الفني بواسطة بسمة راوي

 

“هل نحن في القرن العشرين؟ لا أصدِّق! كل ما حولي يوحي بأننا جزء من كتاب تاريخٍ قديم”

ـ محمد عبد الولي.

 

ما قبل القراءة

   في تاريخ اليمن المعاصر شخصياتٌ يستلزم ذكرها سرد صفحاتٍ من جدل الفكر مع الواقع، ومن تعالق الراهن بالتاريخ، وهي شخصياتٌ لا يمكن الإشارة إليها عرضا، أو اختزالها في حكايةٍ أو واقعة، أو الاكتفاء بسرد سيرتها الذاتية للوقوف على أبعادها.

ومحمد عبد الولي في طليعة تلك الشخصيات اليمانية التي أعطت من عمرها وفكرها، ومنجزه السردي دال بكل تفاصيله على اليمن، فكل قضاياه من واقع اليمن، وكل شخصيات رواياته وقصصه يمنية، والفضاء السردي يمني، والأحداث والوقائع يمنية.

   والكتابة عند محمد عبد الولي وسيلة مواجهة ونضال، لا ترفاً ولا لتزجية الوقت أو التعالي على الواقع أو الهروب منه، وهو ما جعل منه مثقفاً عضويا ووضعه في قلب الأحداث التي عاشها الوطن.

   وسيرته الذاتية ترادف سيرته الفنية، وتتقاطع معها وتُختزل بذكرها مراحل من تطور الوعي الجمعي.

الذات والموضوع

   بالرغم من أن محمد عبدالولي كان مناضلاً وسياسياً وله نشاط سياسي عرّضه للسجن مرتين، لكنه مع ذلك لم ينتصر للبطل الأيدلوجي في قصصه وروايتيه ولم يُنْطق شخصياته بمقولات أيدلوجية، فاليمن هي قضيته الأولى والأخيرة، دون تحيز لليمين أو اليسار.

 وهدفه تغيير الواقع بنقده وتسليط الضوء على سلبياته، وأبطال قصصه ورواياته يتم توظيفهم كنماذج إنسانية يسلط من خلالها الضوء على ظواهر وقضايا يمنية؛ فعبده سعيد بطل رواية” يموتون غرباء” يمثل نموذج اليمني الذي أضناه الاغتراب الجسدي والنفسي في المهجر ومزَّقه الحنين إلى وطن الآباء والأجداد والأهل، ونعمان بطل رواية صنعاء مدينة مفتوحه يُمثِّل نموذج اليمني الذي أضناه الاغتراب النفسي والفكري في الوطن.

  وهؤلاء الأبطال واقعيون يعيشون حياة العامة من الناس وهو لا يعلو بهم فوق شرطهم الإنساني ولا يقوِّلهم كلاما أكبر مما تحتمله سياقات حياتهم، ولا يصادر عليهم حق التعبير عن طموحات ذاتية جدا، وأطماع شخصية.

وصنعاء وعدن امتداد لفضاء روائي واحد يعالج الاغتراب في الوطن الممزق إلى شمال وجنوب والشعب الممزق بين اتجاهين في الحكم، والحبشة فضاء مقابل يعالج الاغتراب في المهجر، وبينهما يشد محمد عبد الولي وتر الحنين ويبحث عن إجابات لمعنى الوطن والمواطنة والوحدة الوطنية، والهوية والحرية والمعتقد والحقوق والواجبات، و الأنا والآخر. ويورد مشاهد من صراع الإنسان اليمني مع موروثاته وتطلعاته وطموحاته، ونزوعه المتردد بين الخوف من المجهول والخوف من الآخرين والخوف على المستقبل والخوف من تحلل الذات.

  والتحام محمد عبد الولي بالوطن يدفعه لتقرير أن تغيير الواقع ينبغي أن يحدث داخل الوطن، وليس بتغيير الوطن، وعبَّر عن ذلك صراحةً على لسان نعمان بطل روايته” صنعاء مدينة مفتوحة” إذْ يقول: “لا تنسوا أنتم، أن هذه الأرض. لن تنفصل عنكم مهما هربتم. إنها جزء منكم.  تطاردكم. ولا تستطيعون منها فكاكا.أنتم يمنيون. في كل أرض. وتحت كل سماء” .

    وبين موضوع الوطن بامتداداته الفكرية والنفسية والإنسانية والتاريخية والفلسفية وذات المثقف أوقف محمد عبدالولي فنه و نشاطه السياسي، وكان في ذلك مزيجاً من الفكر اليساري والنزوع الليبرالي والفردانية والملكة الخاصة التي تعني محمد عبدالولي في ذاته ورؤيته للحياة وللأحياء.

ويتسق ذلك مع استغراق محمد عبد الولي في معالجة الشعور بالغربة، والبحث عن الهوية ورصد تشتتها بين الأمكنة والثقافات، فمثلا نجد عبده سعيد بطل رواية “يموتون غرباء” عالقاً بالمكان الفيزيائي في الحبشة ( سدست كيلو)، بمواجهة المكان النفسي الذي يحن إليه( قريته في اليمن). ويسمح للذاكرة بتأثيث ذلك المكان بالتمنيات والأحلام، نزوعاً إلى استعادته وحنينا إلى استرداد الذات التي لم تكن تريد من الغربة المكانية في الحبشة سوى جمع المال والعودة لبناء منزل في اليمن، في قريته تحديدا، ولكنه وقع في فخ الاغتراب وعَلِق في المكان إلى أن مات.

وتأخذ المأساة ذروتها من تلك المفارقة بين الحلم والواقع، فعبده سعيد الذي تزوج في الخامسة عشرة من عمره هاجر إلى الحبشة، ومازال طفله صغيرا وترك الزوجة المغلوبة على أمرها لتساعد أباه في فلاحة الأرض، لم تكن هجرته وراء حلمه إلا لجمع المال وتحقيق الثراء؛ ليعود إلى قريته ويبني منزلاً يجعل أطفال القرية يتحدثون عن دار عبده سعيد، وثراء عبده سعيد، ويقولون أحسن دار هي دار عبده سعيد.

   لكن الذي حدث أن عبده سعيد نجح في جمع المال وإرساله لبناء المنزل الفخم في القرية، لكنه لم ينجح في العودة إلى قريته. واكتفى بتعليق صورة للدار الذي بناه ابنه في القرية بالمال الذي أرسله إليه. وظل الحلم ناقصاً إلى درجة أنه لم يستطع الحديث عن حلمه، ولم يجرؤ على مكاشفة أحد من زبائنه في الدكان بحقيقة أن تلك الصورة المعلقة هي صورة الدار التي بناها في وطنه الأم. واضطر لالتزام الصمت والكتمان حتى لا يتعرض لوشاية تفضح تهربه من دفع الضرائب.

وهو لذلك يعيش اغترابا مضاعفا، حنيناً وخيبةً ويحتال على بؤسه ويأسه بالانغماس في اللهو مع العشيقات، وفي الجهة الأخرى من المعاناة عاشت زوجته مع طفلهما حرماناً وحنيناً، وصار عبده سعيد جداً لأحفادٍ لا يعرفهم، ومات ودفن في مقابر الغرباء ليصبح أجمل قبر هو قبر عبده سعيد، كما قال السكرتير المُوَلَّد ساخرا.

ومحمد عبد الولي لا يُعبر عن الغربة ببعدها المكاني فحسب فهناك الاغتراب ببعده النفسي والفكري وهو ما يبدو أكثر جلاء في روايته ” صنعاء مدينة مفتوحة” التي جرت أحداثها بين شمال وجنوب الوطن، بين صنعاء وعدن، وتجلى ذلك بما عبر عنه نعمان في حواراته مع فتاة الجبل السمراء، ومع زينب ومع محمد مقبل، ورواه من خلال الحوارات مع الصنعاني ومع البحار علي الزغير، والحاج علي صاحب المقهى.

وفي استحضاره لدور الوعي في تغيير الواقع، نجد شخصية علي التهامي في قصة” طريق الصين”  وقد تحوَّل من عسكري وعبد لهادي هيج إلى عامل يشق الطريق مع الصينيين.

ومن الملاحظ أن الموضوع في كل قصص محمد عبد الولي يحضر أولاً ثم تبدأ الذات في التعليق عليه، عبر صوتها المتواري في أحد الشخصيات أو في الحوار بين الشخصيات. إلا أن هذه الذات المستغرقة في هموم وشجون شعبها،  لا يمكن بأي حالٍ أن تسترسل في اجترار مواجع ذاتية أو التعبير عن هموم شخصية.

الفن والموقف

هناك من يرى أن الفن لا يطلب منه دائماً أن يعبر عن موقف فكري، وإن حدث ذلك فيشترط أن يأتي الموضوع على حساب الفن، لكن محمد عبد الولي كاتبٌ ملتزم في كل ما كتبه.

 وهو يرى أن قلمه سلاحه في الدفاع عن الإنسان، ولذلك وظف كل فنه للمجتمع، وعكس من خلاله انحيازه للإنسان. وكان واقعياً في نقده للواقع، رومانسياً في بحثه عن الأمثل.

    وقضاياه كلها ذات علاقة مباشرة بالإنسان اليمني زمنا ومكانا وحدثاً، وبوضوح عبّر عن ذلك في قصة ” شيءٌ اسمه الحنين: “هكذا نحن. هناك سر ما في بلادنا هذه. أنا معك جرداء وقاحلة، وأن الأمل في أن لا يقتلنا هؤلاء الذين لا قيمة إلا لبندقياتهم، ولكن لا نستطيع هكذا الخلاص منهم بسهولة، هناك قدرٌ ما يربطنا بهم ولا نستطيع منهم فكاكاً”

ويؤكد على هذا الموقف أكثر بقوله: ” ذلك شيء لا تستطيع أنت تقرره يا عزيزي ففي أعماق كل واحد منا شيء اسمه الحنين، إننا نهرب ونغيب ونلعن كل ما هو حولنا لكن الحنين يتغلب وفي النهاية ستعود يوما ما، لا أدري متى؟، ولكن هنالك لن تجد نفسك، نعم قد تجد ما فقدته هنا، الشوارع المضاءة والنساء الصخب والعنف، السرعة الجنونية والهدوء الأكثر جنوناً، ستجد كل ما فقدته طوال هذه السنوات، ولكنك ستكون منفصلا عن واقعك.”

  وهو بالعمل على تحرير الوعي من قيود الماضي يسعى لتحرير الحاضر والمستقبل، ولذلك يرصد الظواهر ويحللها، ويعمل على نقضها، فمثلاً يرصد ويصور الفساد المالي والإداري والرشوة والاختلاس واستغلال المنصب كما في قصة “أصدقاء الرماد”، وقصة” يا أخي اتخارج”، ويصور استغلال الدين كما في رواية صنعاء مدينة مفتوحة، حيث يقول نعمان: ” شيخ القرية ذلك الحاج الذي زار بيت الله الحرام أكثر من مرة أنكر جميع النقود التي أرسلت معه من المهاجرين بقريتنا”.

  وفي قصة ” شيء اسمه الحنين”، يرد موضوع الهجرة في مركز علاقة الذات بالوجود ويقول في الحوار:” لا فرق لديَّ، فأنت تهاجر بحثا عن ذاتك، عن شيء ما فقدته هنا ولم تجده، لذلك تعتقد أنه هناك في مكان ما، إنَّ هجرتك مثل هجرتهم تماما، بحثاً عن شيء ما ينقصك، وبدونه لا تستطيع أن تعيش وكما قلت لو استمر الأمر؛ فإنك ستجن لذلك لا بد لك أن تهاجر لتجد ذاتك”.

وفي كثير من قصصه يسجل موقفاً من أولئك الذين تركوا الوطن، بحثاً عن وطنٍ بديل. فمثلا في قصة ” أبو رُبِّيَة” يقول أبو ربية  لسعيد الفتى الصغير الذي ولد في الحبشة:” تعرف أن بلادك هناك، جميلة، كلها جبال وأشجار وشمس ووديان…” ، ويقول له مرة ثانية:”  اسمع لازم تروح اليمن، أيش تسوي هنا، أيش معك هنا في بلاد الناس”.

وهو الصوت الذي يتردد بصيغةٍ أخرى: ” اسمع يا سعيد كل اليمنيين ليش يهاجروا هم خوافين، ما قدروا يجلسوا في بلادهم وهربوا منها، خلوها للملاعين، آه أنت تعرف بدأوا بالهجرة من ألف سنة”.

وكما يدين الذين وصفهم بالهروب، يدين في داخل الوطن تخاذل وتواكل الإنسان اليمني، وعلى لسان نعمان البطل المأساوي لرواية صنعاء مدينة مفتوحة يقول:” الناس يا صديقي هم ناس بلادي. بدون تفكير بدون أمل في المستقبل. بدون شيء. يأكلون القات. مرتاحون ولا حديث لهم إلا عن فلان الذي عاد إلى القرية وفي جيبه الريالات التي لا تنتهي وعن فلانة التي لاحظوا أنها تتزين وتلبس ملابس نظيفة رغم غياب زوجها عنها منذ سنوات أربع”، ”  أحاديث تصيبني بالغثيان كلما أستمع إليها”.

وهذه الإدانة لا ترمي إلى جلد الذات، فبموازاتها يتردد صوت محمد مقبل البطل الفكري لرواية صنعاء مدينة مفتوحة:” إننا كلما مارسنا الحياة اليمنية أدركنا عمق المأساة، وعمقنا جذورها، ووهبنا لها حياةً أخرى، لكي نقضي على المأساة يجب أن نعرف أنفسنا”.

و من منطلق أن تغيير الوطن يبدأ من تحرير المواطن من تحيزاته وعاداته ومن ثقافة المكان السالبة للمواطنة. و العمل على إعادة صياغة الوعي الجمعي على المشترك الإنساني بدلاً من الانعزال والتقوقع بدعوى الدفاع عن الهوية، يستعيد نعمان في سياقٍ آخر ما قاله له محمد مقبل :” إننا لا نستطيع عمل شيء لأنفسنا، ولا أرضنا، ولا حتى لهؤلاء العساكر. إذا لم نخلق من جديد، نخلق كل شيء. الناس، الأرض، الوادي، حتى أنفسنا. إننا لا نستطيع أن نعيش مع الحمير في حظيرة واحدة. لا أن نعامل معاملة الحمير. يجب أن نجد لأنفسنا مفهوما. وأن نعرف حقيقتنا” .

“هناك في أمريكا أو أوروبا نحن لا نستطيع أن نكون متخلفين مهما كانت ثقافتنا. أما هنا فإننا نحن الواقع لأننا المستقبل” .

الصورة بإذن من محمد البكري

 

 

محمد فايد البكري: كاتب وشاعر وباحث يمني.  حصل على الماجستير في مجال اللغة العربية وآدابها من جامعة صنعاء. في الوقت الراهن يكتب محمد رسالة الدكتوراه حول خطاب التمييز في الأمثال العربية.  نشر الكثير من القصائد الشعرية والمقالات الأدبية والفكرية والسياسية في مجلات وصحف عربية ويمنية. وله، إلى ذلك، عدد من الدراسات والمجموعات الشعرية غير المطبوعة. البكري عضو في اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى