ثقافة

المخا: إمبراطوريات وقراصنة – الجزء الثاني

This post is also available in: English (الإنجليزية)

شهدت نهاية القرن السابع عشر بداية الفترة الذهبية من عمر مدينة المخا، فقد زاد الطلب العالمي على البن، وتدفقت عبر الطرق المؤدية إليها أموال ضخمة ومغامرون مصابون بحمى البن وقراصنة أعينهم على الذهب اللامع في أفق المحيط. ورافق هذا التدفق وهذه الحركة عنف دامٍ لم يتوقف حتى توقفت المخا عن احتكار البن. وبطبيعة الحال، فإن انفراد اليمن  بزراعة وتصدير الذهب الأسمر(البن) قد خلق حافزاً لدى الإمبراطوريات التجارية الكبرى في ذلك الزمان من أجل احتكار استيراده وجني الأمول التي يدرها. ولتجنب القتال المباشر والملاحقات القانونية عمدت الشركات الكبرى إلى محاولة تدمير بعضها البعض بالوكالة عبر دعم القراصنة الذين كانوا يمخرون البحر ويعملون باخلاص مع
.كل من يوفر لهم المال

بدأت القصة مع إرسال السلطان العثماني سفيراً إلى الإمام الزيدي في اليمن المهدي محمد بن أحمد بن الحسن (ت. 1718م) ليشكو إليه نقص البُن في الأسواق التركية والمصرية. وكان ذلك النقص قد نتج عن زيادة إستيراد الأوربيين للبن اليمني. فقد استورد الفرنسيون عام ١٧٠٨ أكثر من نصف مليون كيلو وأكثر من مليون طن في عام ١٧١٢م. واستورد الهولنديون في العام ١٧١٤م ما يقرب من ثمانمائة ألف كيلو. وفي قبالة ذلك كانت آلاف الأطنان تشحن سنوياً لصالح شركة الهند الشرقية البريطانية. وفي نفس الوقت زاد معدل استيراد تجار البندقية المستقلين وتجار مسقط والبنغال للسلعة ذاتها . وعبر المحيط الهندي استقبل ميناء المخا قوافل هندية وفارسية محملة بكميات كبيرة من الذهب والفضة لتعود وتتركه مليئة بالبن. أما عبر البحر الأحمر فقد تدفقت من السويس سفن تركية تنقل نساء شركسيات ليتم بيعهن في أسواق المخا كجواري ثم تعود هي الأخرى مليئة بالبن. و إلى جانب ذلك كانت قوافل التجارة المغولية ترسي في الميناء قادمة من مكة ومعها عائدات التجارة الهندية من مواسم الحج، وعبرهذه القوافل نفسها كان  السماسرة البانيان المقيمون في المخا يرسلون مدخراتهم من الأموال إلى مواطنهم في
.الهند

بعد ظهور شركة التجارة البريطانية المسماة (شركة الهند الشرقية) عام ١٦٠٠م، و شركة التجارة الهولندية المسماة (شركة الهند الشرقية المتحدة)1602م أسس الفرنسيون ( الشركة الفرنسية الشرقية) على يد كولبير عام١٦٦٤م. وبعد أن وضع الفرنسيون لهم قدماً في حلبة التنافس الأوروبي في الشرق قاموا برحلتين إلى المخا، ثم افتتحوا في الربع
.الثاني من القرن الثامن عشر مكتباً تجارياً فيها

ووسط هذه الفورة التجارية أدى احتدام المنافسة الأوروبية المغولية من جهة، والأوروبية الفرنسية من جهة أخرى، إلى دعم عمليات القرصنة في المحيط الهندي. وفي كثير من الوقائع كان القراصنة يدا خفية استخدمتها الشركات التجارية لضرب بعضها البعض. وبصورة خاصة تورطت الشركات الهولندية والبريطانية في دعم القراصنة الذين قاموا بتعطيل قوة التجارة المغولية المنافسة عن طريق نهب قوافلها البحرية. وعند اندلاع حرب السبع سنوات بين الإمبراطوريات الأوروبية 1756م- 1763م تمكن البريطانيون من إقصاء الفرنسيين من الشرق والانفراد بالسيطرة البحرية في المحيط الهندي. وقد أدت هذه السيطرة إلى تعطيل قوافل الشركة الفرنسية الشرقية. ولعجز الفرنسيين عن إرسال سفنهم إلى المحيط الهندي اضطروا إلى  تعيين سماسرة بانيان كمدراء لمكاتب شركتهم في الشرق مع إعطائهم
.امتياز عقد الصفقات التجارية وشحن البضائع ونقلها إلى فرنسا

لقد كانت هذه الفترة هي الأعلى لنشاط القراصنة على مرالعصور. ورغم أن الحكومة البريطانية  لاحقت وأعدمت
.الكثير من منهم، فإنها لم تعمد إلى ذلك إلا بعد أن طالت أيديهم السفن التابعة لها

 شهد النصف الثاني من القرن السابع عشر انتقال أشهر قادة القراصنة من بحر الكاريبي والمحيط الأطلسي إلى المحيط الهندي الذين اتخذوا من جزيرة سانت ماري في مدغشقر مقراً لعملياتهم. وفي الجانب اليمني من مضيق باب المندب أقاموا محطة حيث ثمة مرسى صغير لا يتعدى عرضه ربع ميل أطلق عليه فيما بعد مرسى القراصنة ” إذْ اعتاد القراصنة وقطاع الطريق أن يرسوا مراكبهم هناك بمعزل عن الرياح الموسمية الجنوبية الغربية” ( أول رحلة فرنسية الى العربية السعيدة. جان دي لاروك، إصدار وزارة الثقافة- اليمن. ترجمة منير عربش. 2004. ص53). يعود اختيار القراصنة لباب المندب لقربه  الشديد من ميناء المخا. هذا بالإضافة إلى أن ضيق الممر المائي عند باب المندب والذي لا يزيد عرضه عن خمسة عشر ميلا  يوفر للقراصنة موقعا مناسبا ً لاكتشاف السفن والانقضاض عليها. وهذا عكس الحال في المحيط الهندي حيث يصعب اكتشاف السفن في فضائه الواسع كما أن باستطاعة السفن الاختباء في أطرافه الضحلة. وقد سجل لنا التاريخ في هذه المرحلة الكثير من اعتداءات القراصنة قبالة سواحل المخا، و أشهرها هجوم
.القرصان الإنجليزي هنري افري عام 1695م

قراصنة الرعب والذهب

كان هنري قد جاء إلى باب المندب قادماً من الكاريبي برفقة خمسمائة من رفاقه مع أسطوله الذي نشر الرعب على طول السواحل الشرقية الأمريكية، وأنشأ مركز عمليات في جزيرة ميون البركانية التي تتوسط المضيق. وشكلت سفنه التي توقفت عند مسافة خمسة وثلاثين ميلا بحرياً من ساحل المخا شبكة عنكبوت تتربص بصبر من أجل الانقضاض على فرائسها . كانت كل السفن التي تغادر أو تصل ميناء المخا عرضة للوقوع في هذه الشبكة. في ذلك الوقت كانت سفن أسطول المغول التجاري الخمسة والعشرون المحملة بعائدات التجارة الهندية من مكة والمخا قد غادرت ميناء المخا باتجاه ميناء سورات في الهند تحت قيادة أكبر سفن الأسطول السفينة غانج ساواي ذات الثمانين مدفعاً، والتي دائما ما اُعتبرت فخراً للبحرية المغولية، وكان على متنها في تلك الرحلة حفيدة الإمبراطور المغولي أورانك زيب عالم كير(ت. 1707) وعدد كبير من النساء الشركسيات اللاتي تم شرائهنَّ من المخا. هذا بالإضافة إلى كمية كبيرة من الذهب والفضة قدرت بخمسمائة قطعة ومن النقود ستمائة مليون روبية. وإلى جانب تلك السفينة كانت هنالك السفينة “الفاتح محمد”  ثاني أكبر سفن الأسطول التي حملت كنوزا قدرت بستمائة مليون روبية، بحسب اعترافات أحد مساعدي هنري الذي حُوكم فيما بعد وأعدم. بالإضافة إلى سفينة رامبورا التي كانت تتبع تاجرا هنديا يدعى كامباي، وكان على متنها من الكنوز ما يعادل مليونا وسبعمائة روبية. و مع هذه السفن الثلاث كان هنالك عدد غير معروف من سفن  ملك التجارة الشهير عبد الغفار، وهو الذي كان حتى ذلك الوقت يقود تجارة الشرق على قدم المساواة مع الشركات الأوروبية الشرقية. وهكذا شكل نهب هذا الأسطول بالنسبة للشركات الأوروبية  فرصة سانحة لضرب التجارة الهندية وأكبر حلم يمكن أن يتخيله أي قرصان. كان من المؤكد حينها أنه إذا تمت هذه الغارة الوشيكة على الأسطول فإنها ستكون الغارة الأكثر ربحا في تاريخ القراصنة، لذا تحمس القراصنة واستدعوا ما أمكنهم استدعاؤه، وجهزوا الكثير من الذخائر ووضعوا الخطط المناسبة للهجوم. تذكر المصادر أن سفن هنري  شنت هجوماً قوبل برد عنيف من قبل الأسطول المغولي قبل أن تنهار دفاعاته. يقول المؤرخ الهندي محمد خافي خان الذي عاصر تلك الحقبة: ” بينما كان القتال يشتد بين سفن الأسطولين نزل قائد سفينة غانج ساواي إلى قبو السفينة وفتح مخزن الجواري، وبعد أن سلحهن أخرجهن  لقتال القراصنة”. ( نقلا عن: منتخب اللباب، محمد خافي خان. باكستان، 1975 ص420). بعد انقضاء الرعب الذي دام لأيام وبعد أن قتل القراصنة غالبية الرجال والأطفال واختارت بعض النساء الانتحار برمي أنفسهن إلى البحر خوفًا من السبي، وتعرض من وقعن في الأسر لأبشع أنواع الاغتصاب، أخذ القراصنة من تبقى من النساء للبيع في مدغشقر كجوارٍ. أما حفيدة الإمبراطور المغولي فقد تزوجها هنري
.وأخذها لتعيش معه في سانت ماري، وتذكر المصادر الإنجليزية أنها أنجبت له العديد من الأولاد

 هنري افري في سنة 1695م - الرسام غير معروف
هنري افري في سنة 1695م – الرسام غير معروف

هجوم الكابتن كيد الفاشل

بعد أن نجح القراصنة في تدمير التجارة المغولية مع المخا وعجز الفرنسيون الواقعون تحت ضربات القراصنة عن إرسال أول سفنهم إلى المخا، خلا المحيط الهندي أخيرا للبريطانين والهولنديين ليحتكروا التجارة بين الهند والمخا وأوروبا. غير أن هذا الاحتكار لم يدم طويلاً، فقيمة الكنوز المنهوبة من الأسطول المغولي قد مهدت لتمرد القراصنة وأولهم هنري الذي اشترى المزيد من السلاح والسفن وبدأ في الاستيلاء على السفن الإنجليزية والهولندية. و قد زاد هذا من جشع بقية القراصنة العاملين لصالح نفس الشركات فتركوا القرصنة على سفن الفرنسيين قبالة جزر الهند الشرقية
.واتجهوا صوب المخا

هنالك لم يجد القراصنة سوى سفن الإنجليز والهولنديين، كما حدث مع القرصان كابتن كيد 1644م- 1701م. فبعد عامين من الهجوم على الأسطول المغولي جاء كيد برفقة طاقمه إلى مرسى القراصنة في جزيرة ميون، وعند وصوله أرسل على الفور جواسيسه إلى مدينة المخا وبعد أسبوع عاد الجواسيس ليخبروه بأن أسطولاً من خمسة عشر سفينة يستعد لمغادرة المخا نحو الهند. غير أنهم لم يستطيعوا معرفة جنسية هذا الأسطول . وبعد ثلاثة أسابيع غادر الأسطول سواحل المخا، وعند وصوله مضيق باب المندب حيث كان أسطول كيد يستعد للأمر بالهجوم اكتشف كيد أن الأسطول لم يكن فرنسيًا كما كان يتوقع. لقد كان من ضمن هذا الأسطول إحدى السفن التابعة لشركة الهند الشرقية
.البريطانية”، أما بقية السفن فقد تنوعت جنسياتها بين الهولندية والمغربية”

 كابتن كيد في ١٧٠١ = الرسام غير معروف
كابتن كيد في ١٧٠١ = الرسام غير معروف

غير أن ذلك لم يكن ليقف دون رغبة القرصان كيد الذي عزم أمره. قرركيد الهجوم على السفن المغربية؛  فالهجوم عليها يعتبر ضمن المنطقة الرمادية بالنسبة لعمليات القرصنة في قوانين الشركة البريطانية؛ أي أن الهجوم عليها مشكوك في عواقبه. عند بداية الهجوم أرسل كيد سفنه للحاق بسفينة مغربية كبيرة، وحاولت السفينة البريطانية إيقافهم عندما أطلقت ثلاث طلقات مدفعية. استمرت المطاردة عدة أيام لم ينجح خلالها كيد في الاستيلاء على أي سفينة. عندها تراجع الكبتن كيد يأساً. وقد أدت قذائف المدفعية التي أطلقتها سفنه إلى تمزيق أشرعة السفينة المغربية وإصابة أحد التجار إصابة بالغة. غير أن كيد في طريق عودته وجد سفينة مغربية يقودها هولنديان، وعلى متنها أطنان من البن كانت قد تخلفت عن الأسطول خوفًا من المواجهة، فانقض عليها ونهبها. بعد تلك الحادثة أكمل كيد تمرده على شركة الهند الشرقية “البريطانية” وأعلن نفسه قرصاناً حراً، ونجح مع الوقت في الاستيلاء على العديد من
.السفن الإنجليزية والهولندية

البحث عن جزيرة الكنز

لا يعرف بالتحديد المبلغ الذي نهبه القرصان هنري افري من الأسطول المغولي، ويقدره البعض بما يساوي700 مليون دولار في وقتنا الراهن. وبهذا تصبح عملية هنري  قبالة المخا أكبر عملية قرصنة في التاريخ. وبعد أن تمكنت بريطانيا من القبض عليه وإعدامه شنقا عام 1698م. أصبح العثور على كنزه حلماً يراود القراصنة من بعده. انطلق الكثيرون باحثين عن جزيرة ( سانت ماري) أو (جزيرة الكنز) كما يحلو للبعض تسميتها، وهي الجزيرة التي استقر فيها هنري مع زوجته وأولاده – كما ذكرنا سابقا- . كان  الكابتن كيد قد تمكن من جمع أكبر قدر من كنوز
.القرصان هنري، قبل أن يُقبض عليه هو الآخر ويعدم شنقاً في العام 1701م

وفي العام 2004م عثرت بعثة استكشاف فرنسية على سفينة تتبع الكابتن كيد غريقة في خليج القراصنة، وفيها سبيكة  فضية تزن خمسة وأربعين كيلو غرام يعتقد أنها كانت ضمن الكنز الذي استولى عليه هنري افري من السفينة
.غانج ساواي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى