ثقافة

ألف ابتسامة لوطن واحد

This post is also available in: English (الإنجليزية)

بدأت الحرب و أنا في غربتي أراقب الأحداث عن بعد بقلبٍ جريح و عينٍ دامعة، فاقد الحيلة إزاء ما يحدث في البلد.

بحكم دراستي في الولايات المتحدة، وبعد فوز الرئيس الحالي، دونالد ترامب، تعقدت الأمور لدي أكثر و أصبح اليمني غير مرغوب فيه فوق اَي أرض و تحت أي سماء .. كانت صنعاء تبتعد عن ناظري كل يوم و أشعر أني لن أراها مجدداً ..

 الصورة بإذن من رحمان طه الصورة بإذن من رحمان طه

بعد سنوات من اليأس، كانت المعجزة أن حصلتُ على كرت الإقامة الدائمة ( green card ) بعد معاملة طويلة، و أصبحت قادراً على السفر و العودة كمواطني دول العالم الأخرى ..

حزمت أمتعتي و عزمت الرجوع إلى الوطن، رغم كل الأخبار المخيفة و العوائق الكثيرة التي تنتظرني فور وصولي أرض الوطن .. لم أخبر بذلك أحداً، حتى أمي التي جف دمعها و هي تنتظر اللقاء بعد خمس سنوات عجاف. لم يكن لنا إلا اتصال أسبوعي نتفقد به الأحوال و نرجو الله لقاء قريبا..

بعد سفر طويل و تأخير في عدة مطارات بسبب جوازي اليمني، وصلت عدن .. دمعت عيناي عند رؤية بحرها و سواحلها .. لقد عاد بي الحنين إلى سنين مضت، كنت يوماً ما على أحد هذه السواحل الجميلة .. عند هبوط الطائرة، بدأ الركاب بالتصفيق و التصفير فرحاً و ابتهاجاً بوصولهم أرض الوطن سالمين ..

بدأت رحلتي إلى صنعاء، مدينتي الأُم و ملجئي الأول و الأخير ..

مروراً بنقاط تفتيش عديدة و بعد سبع ساعات من السفر تجلّت لي صنعاء بنورها المعتاد الذي ما خفت و لا بهت رغم كل ما حل بها طيلة سنوات ..

لم أكن أبداً أتوقع أن أراها بحلتها هذه مع كل الأخبار المفزعة و المؤلمة التي نسمعها من قنوات اخبارية انكشف لي كذبها و تعرت صورتها القبيحة التي ما فتئت تثير فينا الرعب والرهاب..

صنعاء ليست التي نراها في قنواتهم و صحفهم .. صنعاء مازالت حية، مناضلة، و صامدة ..

 احدى الصور التي التقطها يوسف خلال زيارته لصنعاء احدى الصور التي التقطها يوسف خلال زيارته لصنعاء

  حتى ناسها و سكانها .. لم أرَ في حياتي قط شعباً مستمسكاً بالحياة و مستميتاً في الدفاع عن حق البقاء رغم كل مبررات اليأس و الخنوع، مثل الشعب اليمني و ساكني صنعاء على وجه الخصوص!

عاشت صنعاء أصعب ثلاث سنوات على مر تاريخها المعاصر .. لكنها رغم كل هذا عصيّةٌ على الموت و الفناء، و عاشقة للحياة و البقاء ..

بدأتُ من اليوم الأول، و من خلال عدسة هاتفي و منصات برامج التواصل الاجتماعي ( سناب تشات، انستقرام و فيسبوك ) نشر مقاطع و فيدوهات يومية لحياتي و حياة اليمنيين في صنعاء ..

أوكلت إلى نفسي مسؤلية نقل الحياة اليومية الطبيعية للفرد اليمني في صنعاء بدون تحسين و تلميع او تشويه و تضليل .. كان المستفيد الأكبر من تغطيتي هذه هم المغتربون الذين سئموا كذب و نفاق القنوات الناقلة للوضع في اليمن. و هنا استشعرت المسؤولية الأخلاقية في نقل الوضع الحالي كما هو ..

انغمست في الأماكن التي يعيش فيها المواطن اليمني البسيط .. تجولت في الجولات و الشوارع المزدحمة .. تنقّلت بين أزقة صنعاء القديمة و تحدثت مع أطفالها و شيوخها .. زرت العديد من الأماكن الأثرية و التاريخية، و نقلت لمتابعي صفحتي على الانتسقرام نبذة بسيطة عن تاريخٍ عظيم عاشته صنعاء و يحاول البعض طمسه الآن ..

لقد كانت ردود الأفعال مبهرة جداً.  أغلب من رأى صنعاء من خلال عدستي، انبهر من الصورة المغايرة تماماً لما كان في ذهنهم و ذهني أنا شخصياً قبل أن تطأ  قدماي صنعاء .. صنعاء ليست مدمرة؛ ليست مدينة أشباح، بل هي مليئةٌ بالحياة و باعثةٌ للأمل .. الناس هنا يعيشون حياتهم رغم القصف و الحصار و انقطاع الكهرباء و عدم صرف الرواتب الحكومية .. يتنقلون بين الأسواق و المطاعم و المقاهي و الملاهي و كأنهم منعزلون تماماً عن الوضع السياسي المتأزم لسنوات ..

شاركت في العديد من الفعاليات الإنسانية التي نظمها شباب متطوعون غير منتمين لأي حزب أو جهة .. نظمنا فعالية ” ألف ابتسامة ” التي من خلالها حرصنا على أن نرسم ألف ابتسامة على وجه ألف يتيم في صنعاء .. و بالفعل أقمنا الفعالية بحضور ألف يتيم من مختلف دور الأيتام، و تناولنا معهم طعام الافطار، و أقمنا مسرحاً ترفيهياً  يتضمن العديد من الفقرات الغنائية و المسرحية.

 الصورة بإذن من رحمان طه

الصورة بإذن من رحمان طه

 شاركت  أيضا في فعالية ” أسرة ليوم واحد “. مع نفس الفريق المتطوع، ذهبنا لمركز ذوي الاحتياجات الخاصة في صنعاء، و عشنا معهم يوماً كاملاً ممتعاً كأسرة واحدة.  لعبنا و رقصنا و غنينا سوياً، و رأيت ابتسامات الأطفال تشع أملاً رغم الألم.  جعلتنا ابتساماتهم نؤمن أن “على هذه الأرض ما يستحق الحياة”، و أن الألم مهما كان في الجسد، فإن الآمال و الأحلام تحتاج فقط لقلبٍ نابضٍ يعشق الحياة و يُؤْمِن بالبقاء!

ها أنا الآن أوِّدع صنعاء و لا أدري متى اللقاء .. زيارتي هذه جعلتني أؤمن أن الوطن متجردٌ تماماً عن من يعبث به .. الوطن ليس  فردا ولا حزباً ولا جماعةً أو طائفة .. الوطن هي تلك التربة الطاهرة التي تحملنا جميعاً .. الوطن هو ذلك الحب الفطري الذي يبقى في قلوبنا مهما ابتعدنا و فرقتنا سنين الحرب و الشتات .. الوطن هم أولئك البسطاء، ملح الأرض، الذين يمنحوننا مقومات الحياة… هو ذلك العنصر المكاني الإنساني الخالد الذي ينطبع في نفوسنا فنظل نحمله معنا زادا في حلنا وترحالنا.

 يوسف منير | @real.yousef

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى