المجتمع المدني

التوغل في عوالم المختفين قسريا!

هذا اليوم اعتيادي في اليمن! إنه يوم لا يستثير حماسة الحقوقيين والحقوقيات اليمنيين؛ ذلك أن الاختفاء القسري ليس “قضية” رابحة في اليمن، كما أنه غالي الكلفة ضئيل المردود!

في اليمن تحضر أيام “ضحايا” آخرين، مثل أيام الجماعات المتحاربة الآن في البلاد باسم النصر أو الهزيمة، باسم الفتوحات والاجتياحات، باسم التصالح والتسامح، باسم العواصف أخيرًا! فتتحول أيامهم إلى أيام وطنية يتم إحياؤها سنويًا، حتى وإن كان أغلبية الناس ضد تجليات هذا اليوم الرمزية والاحتفالية.

نادرًا ما يحيي الحقوقي اليمني يوم الاختفاء القسري. وغالبًا ما يسارع إلى طرده من “ذاكرته”، فهو مجلبة للصداع في أهون الأحوال؛ ذلك أن الذين اختفوا يقابلهم الذين أخفوا، وأغلب هؤلاء هم مسؤولون عسكريون وأمنيون، وبعضهم سياسيون في صدارة المشهد، كانوا في عقدي السبعينيات والثمانينيات، قادة لمليشيات شعبية تؤيد النظام اليساري في الجنوب، أو قادة جماعات يسارية تعارض النظام الحاكم في الشمال، خصوصًا أواخر السبعينيات، أو ضمن مليشيات إسلامية تقاتل مع الرئيس الأسبق صالح، ضد المليشيات اليسارية في المناطق الوسطى (إب وتعز)، أو تحارب معه الشيوعية في الجنوب.[1]

سامي غالب والى يمينه درهم العبسي احد المعتقلين اليساريين
في 78 وشقيق عبدالسلام المختفي قسريا (صفحة الرابطة 2012)

سيكون قادة هذه المليشيات في فترة لاحقة، دعاة ديمقراطية وحقوق إنسان وتداول سلمي للسلطة، خصوصًا بعد 1990، بتوحيد جزئي اليمن، الشمالي والجنوبي.

شخصيًا، أشعر بفداحة “النسيان” الذي يواجه أسر المختفين قسريًا في اليمن، خصوصًا بعد أن اقتربت من أسر المختفين قسريًا في 2007، ثم عبر مشاركة صحيفة “النداء” في تنظيم ندوة يتم التحدث فيها لأول مرة علنًا أمام جمهور متنوع، وذلك في فندق متواضع في صنعاء (فندق ميركيور في جولة كنتاكي، 2008)[2].

عن عبدالعزيز عون ورفاقه المخفيين

في نهاية السبعينيات، وكانت أسرتي تعيش في مدينة صنعاء عاصمة اليمن الشمالي (قبل الوحدة اليمنية في 1990)، سمعت أمي تدعو الله من أجل العم الطيب أحمد عون!

كان العم أحمد عون يعيش في حارة (أو حافة حسب لهجة مدينتي عدن وتعز) شِعب الدبة في شمال مدينة تعز، والاسم يوحي بجدة الحارة رغم تقليديته، فمن الواضح أن المدينة القديمة على الطرف الآخر من المدينة. يعيش العم أحمد مع أسرته تمامًا كأبي وجاره الأقرب العم أحمد محسن سلام. والرجال الثلاثة عاشوا في صباهم ومطلع شبابهم، في عدن التي كانت الحاضرة العصرية الوحيدة في اليمن في الثلثين الأولين من القرن الـ20.

كذلك سمحت لهم الإقامة في عدن بالقدر الكافي من تعلم الحياة وتشرب قيم العصر، وبالتالي نقل هذه القيم إلى أبنائهم وبناتهم. كان العم أحمد محسن، والد مجايلي سمير، يمثل لي أمثولة حية على “الحداثة”.

لقد كان عصاميًا بالمعنى الحرفي للكلمة، يعمل في شركة الكهرباء، وفي وقت فراغه يكتب مقالات في الصحيفة المحلية أو يذهب إلى مشاهدة فريقه المفضل، نادي الطليعة، في ملعب الشهداء. كان ذلك معنى “الأب” في سبعينيات تعز. وللمفارقة فإن المرأة كانت تحضر مباريات كرة القدم، ولها قسم خاص في ملعب الشهداء، وكذا في ملعب مدينة إب، ويحصل أن تحضر أمي، يرحمها الله، بعض المباريات لتشجيع نادي الطليعة تمامًا كوالد صديقي سمير.

كان شقيقي الأكبر فوزي، والابنان الكبيران للعم أحمد محسن؛ عبدالكريم وعبدالناصر، يلعبون في نادي الطليعة، قبل أن يغادروا المدينة إلى مصر والاتحاد السوفيتي لاستكمال تعليمهم الجامعي في عام 1977.

كان اسم الشقيق الأكبر لصديقي لطفي (عبدالعزيز عون) يتردد أحيانًا في بيتنا، باعتباره سجينًا. لم يكن الأمر يبدو خطرًا بالشكل الذي أحسست به بعد 5 سنوات من اعتقاله.

في سنة 1981، وقد صرنا نعيش غربي صنعاء، غير بعيد من جامعة صنعاء، شاهد أخي سمير العم أحمد عون بالقرب من جامعة صنعاء، وأبلغ والدتي بذلك. كانت أمي تدعو بقلب يجيش تعاطفًا مع الرجل الطيب الذي أعياه الانتقال دوريًا من تعز (حيث يعول أسرته) إلى صنعاء حيث يقبع ابنه في معتقل من معتقلاتها العلنية أو السرية.

صار اسم عبدالعزيز مرتبطًا عندي بـ”مأساة” والده أحمد عون الذي طرق كل الأبواب بحثًا عن ابنه.

اعتقل عبدالعزيز أثناء خروجه من جامعة صنعاء، في فبراير 1976، في عهد الرئيس الحمدي!

فهمي السقاف في أواخر الثمانينات الفترة التي
خَبّر فيها جرائم الاختفاء القسري في عدن (النداء)

في أكتوبر 1978، حسب شهادات غير موثقة، جرى نقل 10 معتقلين في دار البشائر (وهذا اسم قصر إمامي تحول إلى سجن في عهد الثورة)، إلى مكان مجهول. صار هؤلاء المعتقلون اليساريون أشهر المختفين قسريًا في اليمن الشمالي، وبين هؤلاء الوزير السابق سلطان أمين القرشي، وطالبا الجامعة خان وعبدالعزيز عون. والأول كان أمين عام حزب الطليعة الشعبية (اعتقل في فبراير 1978)، والثالث عضو الحزب. وحزب الطليعة الشعبية هو حزب يساري ذو خلفية بعثية، إذ إنه تأسس مع مفارقة بعض قيادييه للاتجاه البعثي، وتبنيهم طروحات ماركسية.

في التسعينيات بدأت فعليًا أعي هذه التفاصيل والفروق. والأهم بدأ التساؤل عندي عن نظام الرئيس إبراهيم الحمدي ذي الشعبية الجارفة في اليمن، شماله وجنوبه. ولاحقًا، في 2007، عندما فتحت “النداء” ملف الاختفاء القسري في اليمن، حضر مجددًا اسم عبدالعزيز أحمد عون، لكنني شخصيًا تفاديت أن أكتب قصته، تاركًا المهمة لزميلي فتحي أبو النصر؛ ذلك أن عبدالعزيز هو أمر شخصي يعني كل الذين أحبهم، بدءًا من أمي وأم صديقي لطفي ووالده أحمد عون. بقيت بعيدًا، مكتفيًا فقط بمتابعة فتحي، حتى نشر القصة في يونيو 2007. [3]

في 2007، وبينما كنت أقارب الموضوع صحفيًا، تعجبت من كثر المختفين قسريًا حولي: كان هناك إلى جانب عبدالعزيز أحمد عون، آخرون عرفت قصصهم لاحقًا.

فتح ملف الاختفاء القسري في النداء

في منتصف أبريل 2007، بدأت عمليًا الشغل على ملف الاختفاء القسري. عند بدء العمل استعنت بالزميل القدير محمد الطويل الذي سبق له العمل مع اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان، ثم وزارة حقوق الإنسان. أمدني محمد بوثائق مهمة، أبرزها قائمة المختفين قسريًا في اليمن، التي تبلغت بها منظمة الأمم المتحدة، ووثقت لدى مفوض الاختفاء القسري، وهؤلاء يبلغ عددهم حوالي 200 اسم. ويمكن الإشارة، على عجالة، إلى أن أغلبهم من المحافظات الجنوبية والشرقية، وعلى وجه أخص، من ضحايا أحداث يناير 1986.

لكن الأهم على الإطلاق كان تاريخ العلاقة بين حكومة الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح ومعاونيه، وبين الأمم المتحدة. وستثبت السنوات من 1998 إلى 2007، أن هذا الملف المغمس بالأحزان والانتظارات والمرارات، لا يعدو أن يكون شأنًا بيروقراطيًا بين الأمم المتحدة والحكومة اليمنية. وقد لخص درهم العبسي (شقيق المختفي قسريًا عبدالسلام العبسي) تلك العلاقة في “شهادة وفاة” يسعى الطرفان لاستصدارها من “مصلحة الأحوال الشخصية”، لإغلاق ملف أخيه!

كانت بعض الوثائق تتضمن مراسلات مدير مكتب الرئاسة اليمنية (علي الآنسي) مع الأمم المتحدة، والتي تقطع بعدم وجود ظاهرة الاختفاء القسري في اليمن، وأن هناك المئات من المختفين قسريًا في جنوب اليمن قبل الوحدة (قبل 1990)، وبالتحديد في أحداث يناير 1986، وتم إنهاء هذا الملف بعد الوحدة![4]

بدأت بالتواصل مع الأسر..

العمل الفني ل س.ش

كان أول من تواصلت معهم اثنان سيرافقانني دائمًا بعد أولى الجلسات معهما. زارني في مكتبي في شارع الزبيري أولًا، درهم هائل العبسي، ثم بعده بيومين فتحي علي عبدالمجيد.

درهم هو شقيق المختفي قسريًا عبدالسلام العبسي. وفتحي هو نجل المختفي قسريًا علي عبدالمجيد، صاحب مطعم السندباد في شارع علي عبدالمغني في قلب العاصمة صنعاء.[5]

هذان الرجلان (درهم وفتحي) لم يقصا قصتيهما وحسب! لقد أدخلاني عوالم أسر المختفين قسريًا، وبفضلهما أساسًا تحمست للملف، وصارت قضيتهما قضيتي منذ أبريل 2007.

في تلك الأثناء، كان زميلي فهمي السقاف يجري مسحاً أولياً من محافظات عدن وأبين ولحج والضالع حول المختفين قسريًا وأسرهم. استغنت أيضًا بالزميلة نادرة عبدالقدوس، والزميل فضل مبارك، والزميل باسم الشعبي، وثلاثتهم يقيمون في عدن. ومراسل “النداء” في محافظة إب الزميل إبراهيم البعداني، وزميلتي في صنعاء بشرى العنسي، وبعض كتاب الصحيفة، وأبرزهم عبدالباري طاهر، نقيب الصحفيين الأسبق، والذي كان يعرف المختفي قسريًا الصحفي الشاب محمد علي قاسم هادي، وعشرات آخرين اختفوا أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات في صنعاء والحديدة وتعز، وفي 1986 في عدن، بينهم صحفيون ومثقفون.[6]

بدأت التجهيز للحلقة الأولى التي نشرت بتاريخ 23 مايو 2007. تم تجهيز الحلقة كاملة، وبقي أمامي إنهاء قصة المختفي قسريًا عبدالسلام العبسي. كنت جمعت المعلومات الخاصة بعبدالسلام في مفكرة صغيرة، وكنت بعد أن التقيت درهم، اتصلت بنجل عبدالسلام، واسمه وضاح، الذي ولد في تعز قبل اعتقال والده في صنعاء، بأسبوع. وعد عبدالسلام في رسالة إلى زوجته، بزيارتها في تعز بعد أسبوعين، وطلب منها تسمية المولود وضاح!

جرى اعتقال عبدالسلام، مطلع يوليو، وتم اعتقال شقيقه الأصغر في اليوم نفسه. أفرج عن درهم بعد شهر، لكن عبدالسلام لم يظهر قط![7]

التقيت درهم ووضاح، وتولت الزميلة بشرى العنسي المهمة الأصعب؛ لقاء منيرة، عروس عبدالسلام، التي انتظرت زيارته عقب ولادتها وضاح، لكنه لم يأتِ منذ يوليو 1978 حتى الآن! لقد كان ذلك هو الجزء الأصعب من القصة. وأذكر جيدًا ما قالته لي بشرى، وهي تناولني الجزء الخاص بمنيرة؛ قالت: سامي، هل ستصدقني إذا قلت لك إن منيرة تبدو شابة لكأنها العروس التي تنتظر عريسها ليرى مولوده الأول في يوليو 1978![8]

الزميل الراحل بشير السيد خلال مشاركته في حملة
الجدران تتذكر وجوههم (صورة من صفحة مراد سبيع)

صمدت وأنا أكتب القصة حتى انتهيت من آخر كلمة، تم أجهشت بالبكاء، وأنا في مكتبي الساعة الخامسة عصرًا! أوصدت باب مكتبي، وعدت أنتحب عدة دقائق. سلمت القصة للزميلين بشير السيد وحمدي عبدالوهاب، وكان عليَّ المغادرة إلى البيت، لتجهيز حقيبتي للسفر إلى الدوحة، رفقة صديقي نبيل الصوفي، والأستاذين مراد ظافر، ورباب المضواحي، للمشاركة في ورشات عمل حول تجربة الصحافة المستقلة في اليمن خلال الانتخابات الرئاسية.

هكذا نُشرت الحلقة الأولى في غيابي. في 23 مايو 2007. تولى المخرج الفنان طارق السامعي تنفيذ الإخراج في الصحيفة، وهكذا ارتسمت ملامح وقسمات ملف المختفين قسريًا في اليمن.

عدت لاحقًا، ونشرت قصة والد فتحي المختفي قسريا علي عبدالمجيد، فيما نشر فهمي المزيد من القصص عن مختفين قسريًا في محافظات جنوبية.[9]

في الحلقة الثالثة، بدأت التهديدات تصل إيميلات الصحيفة وموقعها الإلكتروني. إحدى هذه الرسائل الناقمة كانت تتوعد رئيس التحرير والصحفيين العاملين في “النداء”، بالإخفاء القسري إن لم تتوقف الصحيفة عن نشر حلقاتها. لقد وصف الصحفيون بـ”الخونة” الذين يسيئون لسمعة البلد، وأن مصيرهم سيكون مصير المختفين قسريًا، وحينها “لن يكتب أحد عنكم”.[10]

الهجوم الأشد تلقاه الزميل فهمي السقاف في عدن، إذ تلقى التهديدات على هاتفه المحمول، وكانت خلال أيام متعاقبة.

كان المتصلون هم معارضون لسلطة الرئيس صالح، لكنهم أيضًا أشد نقمة على الصحيفة التي تنشر عن ضحايا الماضي بقصد -حسب مزاعمهم- إثارة الفتنة بين أبناء الجنوب، وتعطيل دعوة “التصالح والتسامح” التي انطلقت في أبين والضالع وعدن، بدعوة من الرئيس اليمني الأسبق علي ناصر محمد، في 2006، في الذكرى الـعشرين لأحداث يناير الدامية. لقد تصور المتهمون أن فهمي السقاف “حُجري” حاقد لا يعجبه أجواء التصالح بين الجنوبيين، وهو في حُجريته -أي باعتباره من أبناء الحُجرية- يمارس ما اعتاد هؤلاء على فعله منذ الاستقلال عن بريطانيا، في 30 نوفمبر 1967.

معتقلون سياسيون صاروا مرضى عقليين لماذا تجاهلهم الجميع
– (مصحة دار السلام- الحديدة 2012)

تنتمي أسرة السقاف المنتشرة في اليمن، إلى وادي حضرموت، حيث حل الجد الأكبر أحمد بن عيسى المهاجر، في القرن الرابع الهجري، قادمًا من البصرة. ومن هناك انتشرت هذه الأسرة الهاشمية إلى مختلف أنحاء اليمن، وبخاصة أبين (مسقط رأس فهمي) وعدن ولحج (حيث ولد عمر الجاوي والدكتور أبو بكر السقاف، وهما من أبرز المثقفين اليساريين في اليمن) وتعز حيث تأسست قرية كاملة جنوبي المحافظة تسمى “الحضارم”، وأبرز أبنائها الرائد عبدالله عبدالعالم، القائد العسكري الموالي لرئيس اليمن الشمالي الأسبق إبراهيم الحمدي، والذي قام بعد مقتل الحمدي بمحاولة تمرد فاشلة انسحب بعدها إلى عدن (عاصمة اليمن الجنوبي). وإلى الحضارم في تعز ينتمي الدكتور عبدالعزيز السقاف، أستاذ الاقتصاد في جامعة صنعاء، والإعلامي البارز مؤسس صحيفة “يمن تايمز”، والذي لقي مصرعه في ربيع 1999، إثر حادث مروري في صنعاء، أثار لغطًا بدعوى أن الحادث مدبر من المخابرات. وهناك أيضًا أناس ينتمون إلى أسرة السقاف في محافظات إب وصنعاء ومأرب.

كذلك صار السقاف من تعز لدى بعض ناشطي الحراك الجنوبي، وليس من عدن حيث يقيم!

لقد تم نشر بلاغين في الصحيفة. وصدرت توجيهات من وزير الداخلية عهدذاك رشاد العليمي، إلى وحدة مكافحة الإرهاب في الوزارة، بالتحري حول هذه التهديدات. وكان معنى ذلك توقف التهديدات مؤقتًا. [11]

والحاصل أن وزير الداخلية نفسه كان عضوًا في لحنة شكلها الرئيس صالح، مهمتها إغلاق الملف. فقد تلقيت (بصفتي رئيس تحرير “النداء”) اتصالًا من وزيرة حقوق الإنسان، هدى البان (يونيو 2007) تدعوني إلى مكتبها في جنوبي غرب العاصمة، لغرض مناقشتي فيما يمكن فعله حيال الملف (وكنا قد نشرنا 4 حلقات فقط).

قالت الوزيرة إن رئيس الجمهورية كلف لجنة برئاسة مدير مكتبه علي الآنسي، وعضوية وزير الداخلية ووزيرة حقوق الإنسان، للتواصل مع رئيس تحرير “النداء”، لمعالجة الموضوع بهدوء!

سألت: كيف؟

بدت الوزيرة مرتبكة وهي تؤكد اهتمام السلطة بالملف، لكن لا تريد النشر بطريقة لا تخدم قضيتهم، لافتة إلى تكرار الإشارة في أعداد “النداء” إلى وجود ثمانية مختفين قسريًا من أسرة البان! كانت الإشارة محرجة لها هي الوزيرة المختصة التي لم تفعل شيئًا للأقربين الأولى بالمعروف![12]

قلت للوزيرة إن “النداء” قصدت وضع حد لمعاناة الأسر، لا الإثارة وجلب الأضواء. وعلى أية حال فإن “النداء” منفتحة على أي مقترحات تأتيها من الوزارة. لم تكرر الوزيرة اتصالها، ولم تغير “النداء” سياستها.

***

في 2008، نظمت أول فعالية يمنية عن المختفين قسريًا في اليمن، بالتشارك بين صحيفة “النداء” ومنتدى الشقائق لحقوق الإنسان. وكان انعقاد الفعالية حدثًا في حد ذاته. وتحدث في هذه الفعالية حقوقيون وحقوقيات ومحامون. واقترحت، في مداخلة لي، ضرورة التفكير بخطوات عملية، بينها تشكيل رابطة لأسر المختفين قسريًا. وفي الفعالية تحدث أمام الجمهور ولأول مرة في اليمن، زوجات وأبناء وبنات وإخوة مختفين قسريًا من صنعاء وعدن. وقد وجد جمهور المتلقين أنفسهم في وجه المأساة، ولم يكن أمامهم من سبيل سوى البكاء. [13]

تأخر تنفيذ المقترح 4 سنوات؛ ففي 2011 أدت ثورة شعبية إلى إجبار الرئيس اليمني علي عبدالله صالح على الاستقالة، استجابة لمبادرة خليجية، ومجيء نائبه عبدربه منصور هادي إلى الرئاسة مؤقتًا، إلى حين انتخاب رئيس جديد، على أن يقود المرحلة الانتقالية إلى جانبه حكومة مناصفة بين حزبه المؤتمر الشعبي العام، وأحزاب المعارضة (اللقاء المشترك).

في مارس 2012، تأسست الرابطة اليمنية لأسر المختفين قسريًا، في صنعاء، برئاسة وضاح القرشي، نجل المختفي قسريًا سلطان أمين القرشي، وعضوية سلوى زهرة وفتحي علي عبدالمجيد ويسرا البكري وناديا شعفل عمر (وهذه فقد الاتصال بأمها وشقيقها يوم 7 يوليو 1994، فور دخول قوات الرئيس السابق صالح إلى مدينة عدن، مدشنة ما صار يعرف طيلة السنوات اللاحقة بـ”يوم النصر”).

مخفيون في مصحة دار السلام 

في صيف 2012، اشتهرت مصحة مستشفى دار السلام للصحة النفسية في مدينة الحديدة في الصحافة المحلية والعربية، إذ قيل إن من يتواجد فيها هم نزلاء سابقون في معتقلات الأمن الوطني (صار اسمه جهاز الأمن السياسي، بعد 1990).[14]

في المصحة وجدت ندى مطهر الإرياني، من تعتبره أباها المعتقل في الحديدة، عام 1983. تم انتقال الشخص الذي اشتهر في المصحة باسم آخر، إلى منزل ندى (المقابلة في موقع النداء). وزار الحديدة رئيس الرابطة وآخرون من أقارب المختفين قسريًا، بينهم أروى أحمد عون وشقيقها لطفي أحمد عون (صديق الطفولة).

تبين أن المصحة كانت مقرًا لسجناء سياسيين تعرضوا جراء التعذيب، إلى تشوهات جسدية وأمراض عقلية. ففي منزل ندى كان من صار أباها (مطهر الإرياني)، يردد أغاني من السبعينيات، وفي نوبات غضبه يورد أسماء جلاديه. (لاحقًا تبين أنه معتقل آخر اسمه طه الجعفري. وتم تعرف أسرته عليه وانتقاله إلى منزل أسرته الفعلية في إب).[15]

تعلق وضاح بشدة بأحد النزلاء الذي صار مؤقتًا أباه، لكن العديد من أقارب وضاح قالوا إن الرجل الذي غيرت ملامحه التشوهات في وجهه، وشلت وسائل التعذيب حركته، ليس سلطان أمين القرشي.

كان هناك شخص هادئ لاح كأنه عبدالعزيز أحمد عون، شقيق لطفي صديق الطفولة. لم تتأكد هوية الرجل بمجرد المعاينة الشخصية من أشقائه الذين قرروا الانصراف عنه باعتباره شخصًا آخر!

لم يظهر أشخاص يقولون إن أحد الموجودين من أقاربهم.

في شتاء 2023، زار صديق المصحة، وقال إن أحد العاملين في المصحة استغرب أن يترك “فلان” في المصحة رغم تعرف أشقائه عليه، وذكر لصديقي أسماء بعض إخوته الذين كفوا عن السؤال عنه!

على أية حال، تجاهلت المنظمات الحقوقية اليمنية والأحزاب السياسية أمر المصحة، وانخرطت في مؤتمر الحوار الوطني في مارس 2013. ويتوجب الإشارة هنا إلى أن مؤتمر الحوار قسم الأعضاء إلى فرق حمل أحدها اسم فريق العدالة الانتقالية، وكان أحد البنود معنيًا بالمختطفين قسريًا، لكن دون أن يقوم الفريق بخطوات حتمية، أولاها معرفة المعتقلات السرية للحكومات المتعاقبة، وعدد المعتقلين فيها، ومآل المعتقلين الذين لم يعودوا فيها (بالموت أو بالأمراض النفسية والعقلية).

سلوى ابنة المخفي قسريا علي قناف زهره بجانب جدارية والدها

لقد غرق مؤتمر الحوار الوطني في الأوهام، ولذلك أخذت المرحلة الانتقالية (2012-2014) اليمن إلى سيطرة المليشيات (اجتاح الحوثيون، في 21 سبتمبر 2014، العاصمة صنعاء)، ثم في 26 مارس 2015، عصفت السعودية والإمارات بأي أمل في إمكان إنقاذ السلم الأهلي، عندما شنتا حملة عسكرية على جارهما الفقير، باسم “عاصفة الحزم”!

لقد انضم آلاف جدد إلى قائمة المختفين قسريًا المفتوحة، أبرزهم محمد قحطان، رئيس الدائرة السياسة للتجمع اليمني للإصلاح.

هناك الكثير من المفارقات في اليمن، وبخاصة فيما يخص ملف المختفين قسريًا، وكأنما الستون سنة الماضية عبارة عن شريط صور يظهر فيها الشخص نفسه، أحيانًا، في دور الجلاد، وأحيانًا أخرى في دور الضحية. تارة هو الذي يخفي، وتارة أخرى هو المختفي قسريًا. أستدعي هذا الشريط، وأتعجب قبل أن ألوم نفسي؛ لِمَ العجب؟ أليست تسمية “المختفي قسريًا” ذاتها تنطوي على تناقض؟ فكيف يكون المختفي، وهذا ممكن فيزيائيًا بالإرادة الشخصية، مختفيًا قسريًا، أي بإرادة غيره؟

وتلك مسألة تخص علماء اللغة العربية.

صباح اليوم 30 أغسطس 2023، أكتب هذا المقال بمناسبة اليوم العالمي لضحايا الاختفاء القسري، تحت إلحاح صديقة من البرتغال هي مارتا أبرانتس مينديز تقدر أن لديَّ ما أقوله اليوم، وقد اكتشفت عند إكمالي الفقرة السابقة، أن هناك الكثير الذي لم أقله، وتذكرت صديقي فتحي الذي استشهد في صيف 2015، قبل أن يكمل قصته، فتسلمت ابنته علا الراية، فهي حفيدة “السندباد” الذي اختفى بعد اعتقاله في 1983، في صنعاء.

إلى عُلا فتحي، ودرهم العبسي، وسلوى علي قناف، وإلى ناديا شعفل عمر، ويسرا البكري، وأحمد الضالعي. والى روح الراحلة صالحة البان التي ماتت قبل أن تعرف مصير زوجها حسين البان وابنها البكر الذي يبلغ من العمر 15 سنة، والاثنان تم اعتقالهما مع 6 آخرين من أسرتهما في 22 مايو 1971. وإلى روح زميلي بشير السيد (توفي إثر فيروس تنفسي، في صنعاء، 2017)، وإلى الذي يمت بقرابة إلى كل مختفٍ قسريًا؛ زميلي فهمي السقاف (توفي في عدن، يونيو 2021، بسبب فيروس كورونا)… إليهم جميعا أهدي هذا المقال.

*يُنشر المقال بالتزامن مع صحيفة النداء

[1] – تفيد المعلومات الخاصة التي تحصلت عليها “النداء” أن العديد من ضحايا الاختفاء القسري وقعوا في قبضة ميليشيا يسارية أو اسلامية في نهاية السبعينات او اوائل الثمانينيات في محافظة اب على الحدود بين جزئي اليمن.

[2] – رابط تغطية الندوة وكلمة سامي غالب، في ورقته المقدمة إلى ندوة «الإختفاء القسري»: «النداء» و«الاختفاء القسري».. الحياد المستحيل – صحيفة النداء (alndaa.net)
[3] – راجع: «النداء» تفتح ملف المختفون قسرياً:أحزان آل «عون» – صحيفة النداء (alndaa.net)

[4] – راجع نص موقف الحكومة ورأيها حول بيانات المختفين قسريا يظهر في رسائل الحكومة اليمنية: الرد الرسمي على تقرير الفريق الدولي: المختفون قسرياً ضحايا النظام الشمولي في الجنوب! – صحيفة النداء (alndaa.net)
[5] – راجع قصة فتحي وأسرته: المختفون قسرياً (4) – صحيفة النداء (alndaa.net)

[11] – راجع: إدارة مكافحة الإرهاب تحقق في التهديدات التي استهدفت محرري «النداء» – صحيفة النداء (alndaa.net)
[12] – في 20 يونيو 2007، نشرت “النداء” قصة صالحة البان وزوجها وابنها البكر وستة آخرين اختفوا قسريًا بعد اعتقال حسين البان وابنه وستة آخرين يوم 22 مايو 1972، في لحج،

[13] – رابط تغطية الندوة: أسر الضحايا عبرت عن اصرارها على كشف مصيرهم.. ملف الاختفاء القسري في ندوة غابت عنها وزارة حقوق الانسان – صحيفة النداء (alndaa.net)
[14] – راجع رابط خبر التأسيس للرابطة: أسر المخفيين قسرياً تشهر رابطة تهدف الى الكشف عن مصير ذويهم | الوحدوي نت (alwahdawi.net) وخبر كشف المصحة: بنات الشهيد الحي مطهر الارياني يطالبن رئيس الجمهورية ووزير الداخلية الكشف عن هوية والدهن وتسليمهن نتائج فحص DNA | الوحدوي نت (alwahdawi.net)[15] – قصة ندى وأبيها في رابط المقابلة التي اجرتها فاطمة الأغبري: بحثت عن والدها المختفي قسريًا فتسببت بإعادة آخر إلى أهله – صحيفة النداء (alndaa.net)

اظهر المزيد

سامي غالب

صحفي يمني ورئيس تحرير صحيفة النداء

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى