أدبثقافة

السلام في الثقافة الشعبية اليمنية

This post is also available in: English (الإنجليزية)

بالرغم من سيطرة ثقافة القبيلة والثأر والعصبية العمياء على المجتمع اليمني في العقود الماضية؛ مما يعني الإعلاء من قيمة الحرب، فإن ثقافة السلام كانت وما زالت حاضرة، فهناك عدد لا بأس به من النصوص في أغلب أنماط التراث الشعبي اليمني تدعو إلى السلام، وتعلي من قيمته. فالإنسان بطبعه يحب أن يعيش بسلام، والحرب ليست إلا نزوة من نزواته، أو تصورًا خاطئًا يتعلق بكون الحرب من الضرورات المرتبطة بقضية كرامة الذات وشرفها من حيث موقعها في العالم وعلاقتها بغيرها. وفي كل مجتمع، وفي كل زمان يوجد المصلحون المحبون للسلام، كما يوجد الداعون إلى الحرب.

تصنف منظمات الأمم المتحدة والجمعيات الداعية للسلام التراثَ الشعبي بشكل عام ضمن أدوات السلام العالمية، وتَعُدُّهُ وسيلةً للتعايش والحوار بين الشعوب. من هنا، فإن للتراث الشعبي وظيفتان فيما يخص السلام، الأولى: أنه أداة للتقريب بين الشعوب، وإرساء السلام بينها. والأخرى: الدعوة إلى السلام ونبذ العنف/الحرب من خلال النصوص صراحةً أو ضمنًا. وسأركز على الوظيفة الثانية في هذا المقال؛ لأن المجال لا يتسع للحديث عن الأولى؛ لسعة موضوعها، وغزارة مادتها.

من خلال استقصاء ما توفر لديَّ من نصوص التراث الشعبي اليمني وجدتُ نصوصًا عديدة تعلي من قيمة السلام بطريقة مباشرة، وأخرى غير مباشرة. فمن الطرق المباشرة: 1) التنفير من الحرب والدعوة إلى تركها2) الدعوة إلى الصلح. ومن الطرق غير المباشرة: 1) تصوير النهاية المؤلمة للقاتل ومؤجج الحرب والفتن 2) التقليل من شأن القوة لصالح العقل 3) إعلاء قيمة الدولة بوصفها معادلًا موضوعيًا للأمن والسلام. وغيرها من الطرق غير المباشرة التي ستتضح في السطور القادمة.

  • التنفير من الحرب وتقبيحها والتحذير منها

العمل الفني للفنانة شروق الرمادي

الحرب في الثقافة الشعبية شرٌّ، فهي تحذر منها، وتصورها بأبشع الصور، وتذكر عواقبها الوخيمة. وأكثر ما ورد ذلك في أقوال الحكماء، فالحميد بن منصور يجعل مشعلها نذلًا ومفلساً:

قال الحميد بن منصور

الحرب هي كسب الأنذال

والقتل كسب المفاليس

فلا يفرح بالحرب ويدعو إليها إلا المفلس أخلاقيا، ومن لا يكترث بمصيرالمجتمع. ويدعو الحميد بن منصور على مشعل الحرب وبادئها، ويذكره بعواقبها:

«لا عشت وا بادع الحرب ** وا ذي تلاصي بناره

إن أوَّل الحرب حالي ** وتاليه به مراره

مرارته قتل لجواد ** وغارةً بعد غاره»([1])

فالحرب وإن بدتْ لبعضهم في أولها نزهةً، فآخرها ندامة؛ لأنها تذهب بالأجواد من القوم، وتصبح شغل الناس وهمهم، فتتكرر الهجمات والغارات التي تقضي على الرجال والمال.

وبقريب من هذا يصفها الحكيم الشعبي علي ولد زايد:

يقول علي ولد زايد

أول الحرب عدامه

ووسطها غرامه

وآخرها ندامه

وبعدها السلام

«فأول الحرب حماقة؛ لأن المرء يعرف بدايتها ولا يعرف نهايتها، وأوسطها غرامة لا مفر منها؛ لأن البداية حتمتها، وآخرها ندامة؛ لأن المرء لا يعرف سوء البداية إلا من مرارة النهاية».([2]) ويذكر علي ولد زايد أن بعد الحرب تكون السلامة، لكن هذه السلامة هي لمن سلم من الحرب؛ لأنَّ الحربَ حطبها الناس، وعلى وجه الخصوص المقاتلين؛ لذلك «يتحسر الحميد بن منصور على من يذهبون ضحايا الحرب بقوله:

بعد الحروب العوافي ** يا ويل من راح فيها»([3])

تزيد بشاعة الحرب عندما تطول، وكلما طالت قويت واشتدتْ، وأصبح من الصعب إخمادها، يقول علي ولد زايد:

«الحرب لا بات ليلة ** أمست حباله تناوى

وإن حمي بعدها يوم ** أمس حباله تقاوى»([4])

وإذا طالت الحرب أصبح الإنسان بين الحياة والموت، بين الأمن والخوف. وعن هذه الحقيقة يعبر المثل الشعبي «حرب طول الزمان، لا خوف ولا أمان».([5])

فهذه هي صورة الحرب في الثقافة الشعبية اليمنية، وهي صورة قبيحة، تجعل النفس تنفر منها، بالإضافة إلى التحذير الصريح منها. وهو ما يعني أن الثقافة الشعبية تعلي من شأن السلام، بوصفه قيمة إيجابية، في مواجهة الحرب بوصفه قيمة سلبية. فهي برفضها للحرب وتشويهها لصورتها تدعو إلى السلام.

هذه النظرة إلى الحرب شبيهة بنظر عقلاء العرب ومصلحيهم في عصر ما قبل الإسلام، ومن أشهر من عبَّر عن هذه النظرة الشاعر زهير بن أبي سلمى في معلقته الشهير في قوله:([6])

وَما الحَربُ إِلّا ما عَلِمتُم وَذُقتُمُ ** وَما هُوَ عَنها بِالحَديثِ المُرَجَّمِ

مَتى تَبعَثوها تَبعَثوها ذَميمَةً ** وَتَضرَ إِذا ضَرَّيتُموها فَتَضرَمِ

العمل الفني لشروق الرمادي

إلى آخر الأبيات التي يصور فيها بشاعة الحرب ونتائجها الكارثية.

  • الدعوة إلى الصلح

الدعوة إلى الصلح والتسامح حاضرة كثيرًا في فن الزامل أو فن المراجيز كما يسمى في بعض مناطق اليمن؛ فكما أن الزامل فن الحرب، فهو كذلك فن السلام. ومن أشهر زوامل الصلح المتداولة بين الناس تلك الزوامل المتبادلة بين قبيلتي مراد وقيفة، عبّر فيها شاعرا القبيلتين عن انتهاء الحرب وإحلال السلام، وكان (البدع) من شاعر مراد:

يا جبال الطور ذي راسيه فوق الــــبحـور ** والمراكــب ذي تشـل الحمـول الجايـره

تنشر البيضاء على الدور واجناح الطيور ** والصحافه تنشر اخبارها فـي القاهـره

وكان الرد من شاعر قيفة على النحو الآتي:

يا بنات الحور نبي على ذي في القبور ** ما بقي عند المرادي لقيفـه قاصـره

إن هذا صلح منشور إلى يوم النشور ** لا في الدنيا دعاوي ولا فـي الآخـره

فالشاعر يعلن الصلح في البيت الأخير، وهو صلح دائم، وهو ما يفهم من تعبير الشاعر بقوله “إلى يوم النشور”، و”لا في الدنيا دعاوي ولا في الآخرة”

وكل النصوص الشعبية التي تدعو إلى الصلح تعلي من قيمة السلام؛ لأنه الهدف من الصلح.

  • النهاية الوخيمة للقاتل ومشعل الفتن

ترتكز الحكاية الشعبية اليمنية على الصراع بين الخير والشر، والشر تمثله شخصيات لا تحب السلام، وتسعى لإقلاق سكينة الناس بالمكائد، والقتل، وإشعال الفتن. ومن الخصائص المميزة لهذه الحكايات أنها تنتهي بخسارة الشر وانتصار الخير. فالشخصيات الشريرة فيها تلاقي نهاية مؤلمة وعاقبة وخيمة. فـ”جرجوف” ينتهي به المطاف بالقتل بعد أن خطف البنت وقتل أخاها.([7]) وتلك المرأة طلقها زوجها الذي كانت توغر صدره على أخته حتى قتلها.([8]) وهكذا في الحكايات أخرى.

تقوم الفلسفة التربوية والنفسية لهذه الحكايات على التخويف من أفعال القتل والفتن، وعلى غرس هذه الأفعال في عقول الأطفال. وهو ما يعني غرس السلام والخير في نفوسهم.

هذه الطريقة في تعزيز قيمة السلام تتبعها بعض الأمثال الشعبية، فهي تخوف القاتل وتحاصره بحقيقة مفادها أنه سيقتل ولو بعد حين، كالمثل القائل: “بشر القتال بالقتل، والمسايس بالهليكة”. أو تلك الأمثال التي تتوعد القاتل إن نجا من القتل بحياة مليئة بالخوف والمصائب، كما في المثلين الآتيين:

من نجا من القتيل ما سلم من السبيل.

يوم القاتل شمسه ما تغيب.

فهذه النصوص تخوف من القتل، وتذكِّر بعواقبه الوخيمة، وتزرع في نفوس الناس الرهبة منه. فـ«القتيل شبح ناري يطارد القاتل والطريق – أو (السبيل) على تحديد المثل – يطارد القاتل وإذا نجا من ضحيته فلن يسلم من غوائل الطريق؛ لأن روح القتيل تظل مشبوبة في حلق الجاني وأجفان عينيه، تميته كل يوم مرات، ثم تلحقه بضحيته بعد أن تذوقه المرارات».([9]) لذلك فهي تدعو إلى السلام عن طريق التخويف بنهاية العنف المؤلمة، فـ”العبرة بالخاتمة”، كما يقول المثل، أو كما يقول المثل الآخر: “يا امذيب عيِّنْ مخرجك قبل امدخول”.

  • التقليل من شأن القوة لصالح العقل والكلام الطيب

تغرس الثقافة الشعبية قيمة السلام في النفوس عن طريق التقليل من شأن القوة؛ لأن الشعور بالقوة من أهم دوافع الحرب. فهناك نصوص في هذه الثقافة تقرر أن العقل يغلب القوة، وأن الكلمة الطيبة تعمل ما لا تعمله القوة:

البصر غلب القوة.

الكلمة الطيبة تكسر العود اليابس.

والبصر هنا التبصر والتعقل. فالقوة لا تجدي نفعًا؛ لأن التعقل وحسن التصرف والكلام الطيب يغلبها.

  • الإعلاء من قيمة الدولة والتحذير من غيابها

مفهوم الدولة في الثقافة الشعبية اليمنية يعني الأمان والسلام، ففي ظل الدولة تتوقف الحروب، ويسود السلام، ويأمن الشخص على نفسه وأهله وماله؛ لذلك حرصت الثقافة الشعبية على الإعلاء من شأنها، فالمثل الشعبي “نخس السلطان، ولا خصب زمان” يشير إلى هذه الفلسفة، التي تؤمن بالدولة، فوجود الدولة (السلطان) حتى وإن كان ضعيفًا (نخس) خير من خصب طويل. فما فائدة الخصب في ظل غياب الدولة. فالبديل للدولة هو الفتنة، فالدولة هي السلام، وغيابها هو الحرب والخوف، وهو قريب من المثل العربي الفصيح “سلطان غشوم خير من فتنة تدوم” يعبِّر عن هذه النظرة. فالسلطان وإن كان شديد الظلم (غشوم) خير من غياب السلام، أو بتعبير المثل “فتنة تدوم”.

وهناك أمثال أخرى تعزز من قيمة الدولة وهيبتها، كالأمثلة الآتية:

شبر مع الدولة، ولا ذراع مع القبيلي.

حرب القبيلي على الدولة محال.

لا تأمن الدولة ولو كانت رماد.

فمنطوق هذه الأمثلة يؤكد أن القبيلة لا يمكن أن تكون بديلًا صالحًا أو مناوئًا للدولة، التي هي الأصل.

العمل الفني للفنانة شروق الرمادي
  • المسالم في مأمن من الخطر

تعزز الثقافة الشعبية قيمة السلام بتقرير حقيقة أن المسالم يعيش بعيدًا عن الأذى والخطر، فالذي لا يصدر منه الشر، لا يناله شر، كما في المثل “اللي ما منه شر ماليه شر”. وهذه الحقيقة يقولها المثل «من يزرع عنب ما يجني خس».([10]) بطريقة أخرى

وتدعو هذه الثقافة إلى المسالمة، وغلق الأبواب في وجه الفتن، ففي المثل “الباب المغلق رد الشيطان المطلق”، فإذا أغلقت بابك في وجه المشاكل لن يؤذيك حتى مردة الشياطين. وإذا جاءتك المشاكل من جهة ما، فتجنبها، وهو قريب من المثل المتداول اليمن وفي مناطق مختلفة من البلدان العربية: “باب يجيك منه الريح سده واستريح”. فبتركك للمشاكل تسلم وترتاح.

ومثلما تؤكد الثقافة الشعبية أن من سالم سَلِمَ، فإنها تؤكد أن من تعرض للمشاكل والحروب لا يسلم من عواقبها، يقول علي ولد زايد:

«من قابص الناس يقبص ** ولا قبص لا يقل آح»([11])

وهذا المعنى يعبر عنه شطر بيت شعري شعبي قديم، أصبحَ مثلًا، يقول: “من فقش الناس يصبر للتفقاش”. فمن آذى الناس يصبر على أذاهم، ومن أسال دماءهم، أسالوا دمه، وهكذا، فـ”الجزاء من جنس العمل” كما يقول المثل العربي المعروف.

وبعد

فكل هذه النصوص من الثقافة الشعبية اليمنية تدعو إلى السلام، وتعلي من شأنه، بطريقة مباشرة، وغير مباشرة. وعليه، فالسلام هو الأصل في هذه الثقافة، والحرب ليست إلا أمرًا طارئًا بسبب ظروفٍ معينة. الأمر الطبيعي، وفقا للثقافة الشعبية، هو أن يغلِّب الإنسان الصلح والسلم على الاحتراب الذي قد ينشأ نتيجة للصراع على المصالح أو على المكانة والسلطة. لقد طورت الثقافة الشعبية هذه النظرة المغلِّبة للسلام من واقع الخبرة المعيشية الطويلة التي رسَخَ فيها على نحوٍ لا يقبل الشك أن التعاون والتعايش هما السبيل إلى النجاح والبناء وأن الصراع يهلك منجزات الإنسان على هذه الأرض بل قد يهلك الإنسان نفسه.


([1]) الحرب في أقوال الحُميد بن منصور، علي صالح الخلاقي، موقع عدن الغد، 17 يناير 2016، http://adengad.net/news/189458/#ixzz6VflG3veA

([2]) فنون الأدب الشعبي في اليمن، عبدالله البردوني، دار البارودي، بيروت، ط5، 1998، صـ107

([3]) الحرب في أقوال الحُميد بن منصور، علي صالح الخلاقي موقع نت.

([4]) فنون الأدب الشعبي في اليمن، عبدالله البردوني صـ110.

([5]) المرجع السابق، صـ491.

([6]) ديوان زهير بن أبي سلمى، اعتنى به: حمدو طمّاس، دار المعرفة، بيروت، ط2، 2005، صـ68.

([7]) حكايات وأساطير يمنية، علي محمد عبده، دار الكلمة، صنعاء، ط2، 1985، صـ27.

([8]) المرجع السابق، صـ108.

([9]) فنون الأدب الشعبي في اليمن، عبدالله البردوني صـ555.

([10]) المرجع السابق، صـ556.

([11]) المرجع السابق، صـ109.

اظهر المزيد

Alawi al-Maljami

Yemeni poet and writer residing in Egypt.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى