ثقافة
أخر الأخبار

الباهوت الحديث: تأملات نقديّة في أسطورة الحمدي

This post is also available in: English (الإنجليزية)

إبراهيم الحمدي (1943-1977) اسمٌ محاط بالتبجيل الاستثنائي وباعث للخشوع في الذاكرة الشعبيّة، وقد ترقّى هذا الاسم في عمليّة معقّدة وغير مُنظّمة على امتداد عقود إلى مصاف الأسطورة المركزيّة في الوعي الاجتماعي اليمني.

مثل كل الأساطير الكبرى -دينيّة وعلمانيّة- تُقدّم أسطورة الحمدي إما كمعطى محسوم وإما كخرافة تجب إهانتها ونسفها، في حين أن غرابة بنائها وتطاول زمنها نسبيًا يفرضان تناولًا يتجاوز الأحكام إلى مناقشة أسئلة التكوين والاستمرار والدور والدلالات.

لا يحاول المقال المساهمة في التأريخ لعهد الحمدي أو مناقشة سياساته، ولا يشير إلى الأخيرة إلا حين تتصل بأسئلة الأسطورة ومعانيها، محاولًا فتح نقاشٍ نقدي حول دور الحمدي وعهده في تشكُّل الهوية الحديثة.

-أولًا: أساطير تجسيد “حلم الشعب”

في كل هويّة وطنية/قوميّة حديثة بؤرة أساطير وسرديات تتركّز فيها خطوط الهويّة. منها مثلًا افتراض غائيّة التاريخ ثم فرضها على الماضي حتى يبدو تكوّن الشعب والدولة في هذه السرديّة قدرًا احتشد له التاريخ، أو الأسطورة التي تختزل حُلم الشعب وتجعل تأسيس الدولة تجسُّده التاريخي.

 في الظروف الاعتياديّة تضطلع الدولة الحديثة، وأحيانًا بوعي كامل، بمهمة خلق أسطورتها العلمانيّة وعالمها الرمزي (النصب التذكارية، النشيد الوطني، المتاحف والأعياد الوطنيّة وطقوسها..إلخ) وبغرسها اجتماعيًا عبر التعليم الإلزامي ومناهج التاريخ الدراسية وترميز المكان (إطلاق أسماء رموز وأحداث تاريخية على الشوارع والحدائق والجامعات..إلخ) والاحتفالات الوطنيّة؛ فالأسطورة ليست من يخلق الدولة، بل الدولة هي التي تصنع وتشفر الهويّة بخلق الأساطير. أسطورة تجسيد حلم الشعب تسمى مثلًا في الولايات المُتحدة الأمريكيّة “الآباء المؤسسين”، وفي تركيا “كمال أتاتورك”، ولكن الفارق الأساسي بينهما وبين أسطورة الحمدي أن من اضطلع بخلق الأخيرة لم يكن الدولة بل الوعي الاجتماعي، وهذا أصل فرادتها؛ فالنظام اليمني بعد مقتل الحمدي لم يكتفِ بالاستقالة من مهمة تشكيل الهوية الوطنيّة بل وحارب بشتى الطرق تكوينها؛ مُحِيَ اسم الحمدي من المجال العام: من على أحجار أساس المشاريع، ومحيت صوره ومقابلاته من البرامج التلفزيونيّة والإذاعيّة، ولا يحظى ضريحه المتواضع بأي رمزيّة رسميّة أو احتفاليّة، ويكاد عهده القصير (13 يونيو 1974- 11 أكتوبر 1977) لا يُذكر في مناهج التاريخ الدراسية، ولم يطلق اسمه على أي مؤسسة تعليمية أو عسكرية أو مرفق عام، وبطبيعة الحال لا وجود لعمل فني (تماثيل، لوحات) يخلّده، بل وأخفيت متعلقاته ومقتنياته من المتحف الوطني بصنعاء ورميت في المخازن منذ عام 1987.[1]

 يحمل الإصرار الاجتماعي على ترسيخ الحمدي في الذاكرة الشعبيّة وتناقل أسطورته شفاهيًا على مدى عقود، وبدون إسناد مؤسسي دولتي أو حزبي أو ثقافي، دلالة تتجاوز شخص الحمدي وعهده؛ هي دليل تحوّل السكان في اليمن الجمهوري إلى شعب وإصرارهم على ذلك رغم محاولات النظام العنيفة طوال ثلث قرن عرقلة هذا التحوّل، ولنا عودة إلى هذا الموضوع في ختام المقال.

ثانيًا: عوامل التكوين 

أ- الشخص والشخصيّة 

رغم مكانته الشعبيّة وملئه الدنيا وشغله الناس في الأوساط الحزبية وتجمعات المثقفين، ليس من السهل إطلاق آراء قاطعة حول اتجاهات الحمدي الفكريّة وتاريخه الحزبي؛ في مقابل وضوح الشخص غموضٌ يلف الشخصيّة.

الحمدي قادمٌ من طبقة اجتماعيّة محافظة ومرموقة في العهد الملكي؛ الأب قاضٍ معروف والبيت يهتم بالعلم، وقد حفظ الحمدي القرآن الكريم صغيرًا وتلقى العلوم التقليديّة من فقه وتاريخ ولغة على يد أسماء علميّة مرموقة في ذلك الزمن. ولهذه الخلفيّة حُسبت عائلة الحمدي على النظام الإمامي ولوحقت في بدايات ثورة سبتمبر 1962. رغم هذا، انخرط ابراهيم سريعًا في القوات الجمهوريّة وقاتل الملكيين وترقّى في الجيش الجمهوري ووصل إلى مناصب كبيرة ولمّا يصل الثلاثين بعد.

رغم تكوينه المُحافظ، يقول البعض إن الحمدي كان عضوًا في حركة القوميين العرب، وهي حركة تقدميّة وعلمانيّة واضحة، ويبدو من بعض الشهادات أنه ظل عضوًا فيها حتى بعد تحولها إلى الماركسيّة[2].

رغم عضويته في الحركة، كان هو نفسه أحد رؤوس الحملة العسكرية التي أطلقها النظام لإخماد المعارضة اليساريّة المسلحة في المناطق الوسطى[3]، ورغم مقترحاته المبكّرة -والتفصيليّة- للإصلاح الإداري داخل الجيش، لم يدخل في صراع واضح مع قيادات نظام 5 نوفمبر وظل محسوبًا في أجنحته حتى بعد قيادته الانقلاب الهادئ على الإرياني عام 1974.

الحمدي أيضًا كان من المسؤولين الذين سجنهم الرئيس جمال عبد الناصر عام 1966 في مصر، ورغم هذا ثمّة شهادات كثيرة على انتسابه في أواخر أيامه إلى التنظيم الوحدوي الشعبي الناصري.

وعلاوة على ما سبق، نستحضر أمرين: الأول أن الحمدي فتح المعاهد العلميّة الدينيّة في اليمن الشمالي تقربًا لحركة الإخوان المسلمين ذات العمق المؤثر في جهاز الدولة آنذاك، والثاني أنه هدّأ من عنف هجوم أجهزة الأمن على الاشتراكيين والماركسيين في الداخل واستطاع التفاهم مع المليشيات اليسارية في المناطق الوسطى لإيقاف نشاطها، كما أنه حقق تقاربًا حقيقيًا ومبنيًا على التفاهم مع النظام الماركسي في اليمن الجنوبي -بل ومع جناحه الماوي الأكثر راديكاليّة- وسعى لتحقيق تقدّم واضح لتحقيق الوحدة اليمنيّة، وثمة قرائن تشير إلى أن تلك الخطوة تحديدًا هي التي سرّعت بمقتله.

هذا الملخص السريع للمواقف والاتجاهات يفتح لنا باب الفهم لأمرين: الأول هو سهولة وصول الحمدي إلى السلطة ومساعدة خليط القوى النافذة له: البعثيون، والقوى المحافظة الحاكمة في الداخل (شيوخ قبائل نافذون، الإخوان المسلمون، كبار العسكريين، الملكيون العائدون بعد صُلح عام 1970) وفي الخارج (المملكة العربيّة السعوديّة)، ثم سهولة تلاعبه بكل هؤلاء وتقليص نفوذهم في غضون عام واحد. هذا يقودنا إلى تناقض جانبي بين الصورة والواقع؛ فالحمدي في الذاكرة الشعبيّة شخصٌ حاسم لا يعرف المراوغة، ولكنّ تاريخه السياسي قبل إحكام قبضته على السلطة يقول عكس ذلك تمامًا؛ فالتلاعب المُدهش بالأطراف النافذة في اليمن الشمالي يشي بدهاءٍ خطير يختبئ خلف وجهه المُسالم.

والأمر الثاني هو قابليّته لأن يكون أسطورة وطنيّة؛ فلا يمكن لقوة سياسية أو اتجاه فكري احتكاره أو الزعم أنه كان مجرد ترسٍ يؤدي دورًا أكبر منه في مصنع حزبي.

المجتمع اليمني من أكثر المجتمعات العربيّة حيويةً سياسيًا وحزبيًا، ولكن صراعاته السياسية بسبب عدم تأطيرها -قبل 1990 على الأقل- بديمقراطيّة ليبراليّة تُسهّل تحول الانتماء الحزبي إلى عصبيّة تنفي الآخرين، وبالتالي يصعب اندراجه في إجماع وطني، وهكذا يقع المجتمع السياسي في معضلة: إما الإجماع الوطني بلا أحزاب، وهذا مستحيل لأن الإجماع أصلًا يكون بين مختلفين، وإما الانتماء الحزبي ما فوق الإجماع الوطني، وهذا يعني جحيم صراعات لا تنتهي.

الحمدي إذًا يُمثّل للناس يَمَنِيَّة متعاليَة على الحزبيّة بمعناها التعصُّبي الشائع عربيًا، وهذا يعني أنه “وطني” خالص في الوعي الشعبي اليمني الذي عرف جيدًا عواقب التعصُّب السياسي في احترابات ومجازر قبل الحَمدي وبعده.

ب- عهد مثير

العمل الفني بواسطة علي المعبري

لن أتطرق هنا إلى تفاصيل السياسات التنموية في مرحلة الحمدي؛ ثمة بعض المراجع الجيّدة -ولكنها غير كافية- التي تناقشها، ويمكن فهم تكوّن أسطورته بالإلمام بركائز عهده والمعاني الطبقية لإنجازاته في العموم.

ثمة أربعة أمور ساعدت على وضع عهد الحمدي في سرديّة “العهد الذهبي”: 

– دماء شابّة

قبل كل شيء آخر، افتتح عهد الحمدي بشابٍ في الثلاثين يصل إلى سدة الحكم بمعيّة شباب آخرين. هذا عاملٌ مهم في العموم وفي السياق اليمني تحديدًا. كانت رموز الطبقة الحاكمة في نظام 5 نوفمبر كهولًا، في حين أن قطاعًا واسعًا من المعارضة الراديكالية من القوميين واليساريين كان شابًا تتقاذفه المنافي والاعتقالات. وفي أحداث أغسطس 1968 وامتداداتها، كان النصيب الأكبر من التصفيات والاعتقالات للقيادات العسكريّة والسياسية الشابّة. لقد ظهر الأمر في أحداث أغسطس وكأنه تصفية جيلٍ كهلٍ متعقّل لجيلٍ شابٍ متهور، ولهذا بدا وصول الحمدي ومن معه إلى السلطة عودةَ جيل أبناء الثورة الذي قُمِعَ وصودر حقه السياسي بعنف، رغم تناقض الانطباع الجِيلي مع الاستنتاج السياسي، لأن كثيرين رأوا في حركة 13 يونيو الانقلابيّة امتدادًا أصيلًا للتحالف الحاكم منذ 5 نوفمبر 1967 رغم انقلابها عليه.

– “المُخلّص”

لا معنى لأي تغيير جيّد في الوضع القائم إن لم يلحق الأذى بمصالح أحد ويوسّع مصالح آخرين؛ فالتغيير السياسي قلبٌ للطاولة وليس تبديلًا للكراسي.

انقلاب الحمدي (الحركة التصحيحيّة في 13 يونيو 1974) كانت تغييرًا حقيقيًا، ولهذا كانت شبكة المتضررين واسعة. لكن الأهم في هذا السياق أنها كانت شبكة لا تحظى بالإعجاب الشعبي: قادة عسكريون متغوّلون، وشيوخ قبائل نافذون، كلهم يستنزف الخزينة العامّة وكثيرٌ منهم فوق القانون وحوّل الدولة الوليدة في عهد الرئيس عبد الرحمن الإرياني (1910-1998) إلى مجمع إقطاعيات بيروقراطيّة يستفرد كل فريق منهم بإقطاعيّة في جهاز الدولة (إدارة محافظة، مؤسسة حكوميّة، قطاع في الجيش.. إلخ) وينافح عنها. كان هذا سبب القلاقل الحكوميّة المستمرة وتبرُّم الإرياني واعتكافه في سوريّة أكثر من مرّة؛ في ظل نظام الإقطاعيات ذاك كان تنفيذ الحكومة أبسط المشاريع أو اتباع الإرياني أية سياسات إصلاحية اقتصادية أو خارجيّة يستلزم مشاورة الطبقة النافذة (والمسلّحة) ومراعاة مصالح قادتها الشخصيّة أو الفئوية. في ظل وضعٍ كهذا كل خطوة سياسية قد تقدح شرارة احتراب أهلي.

من المفارقات التاريخيّة أن وصول الحمدي ذاته إلى السلطة كان منتجًا مباشرًا لهذا الوضع. فمن المعروف أن انقلاب 13 يونيو كان انقلابًا أبيض، ولكن هذا لم يكن لأن الحمدي ورفاقه لم يتعطّشوا للدماء في المقام الأول، بل لأن أقطاب النظام وقادة الإقطاعيات البيروقراطيّة لم يتمكّنوا من التوافق على حدود نفوذهم ولأن الإرياني لم يجد مخرجًا للأزمة الحادّة القابعة في النظام السياسي.

ونتيجة لهذا الوضع، ساعد الحمديَّ تقريبًا كلُّ أقطاب النظام أملًا في حلحلة أزمته وطمعًا في توسيع مساحات نفوذه وخلاصًا من القاضي الإرياني الذي توجّست أقطاب النظام من سياساته الحذرة والهادئة الهادفة لتقوية نفوذه. لعب الإرياني حينها آخر “نقلة” في حياته السياسية الزاخرة بالتجربة[4] بأن ورط بقية المنقلبين عليه في النظام بالاستقالة من مناصبهم ثم سلَّم السلطة للحمدي في هدوء تاركًا الطبقة الحاكمة المتآمرة مع الحمدي تواجه مصيرها في قبضة الأخير!

في غضون عامٍ واحد، كان نظام 13 يونيو قد أطاح، سلميًا وبلا دماء، كل أقطاب نظام 5 نوفمبر في الجيش والحكومة، وبدأ في أخذ مسافة سياديّة من المملكة العربية السعوديّة.

 الإطاحة بهؤلاء وبدون نزوع للانتقام أو حتى للعقاب مكرّس أساسي لأسطورة الحمدي مخلّصًا عجيب القوة والحزم، ولكن أيضًا رحيمًا لا يطلب الدماء ويعفو عند المقدرة.

  تفكيك الحمدي الطبقة الحاكمة بتلك السرعة لم يكن، في المقام الأول، بسبب قدراته الذاتيّة ودهائه في إدارة اللعبة منذ بداياتها؛ فنظام الإقطاعيات البيروقراطية عمومًا حساس ومعقّد التوازنات ولا يتميز بقدرات اتصال ومبادرة عاليّة، ويمكن لقوة صغيرة ولكن منظمة الإخلال بتوازنه. وما حصل مع الحمدي ورفاقه كان أكثر من ذلك؛ قادة الإقطاعيات أنفسهم هم من رتبوا معه الانقلاب على نظامهم المبعثر[5]، وأكمل هو الطريق وأطاح بهم بعد ذلك.

– برهان الذات

أهم ما يُذكر به عهد الحركة التصحيحيّة هو الإنجازات الاقتصاديّة والسياسية القياسيّة وسرعة تشييد الدولة، ولن أسرد تفاصيلها في هذا السياق؛ فثمّة بعض الدراسات والمقالات التي تُفصّل في هذا الشأن[6]. المهم في موضوعنا هو غاية وشكل النجاحات الاقتصاديّة ومعناها الإنساني والطبقي.

استكمل نظام الحمدي عمليّة تشييد الدولة كمؤسسات (إدارات، هيئات، جيش، بنوك حكومية…إلخ)، وأهم تلك العمليات -وأخطرها أثرًا على التاريخ اليمني الحديث- كان إصلاح المؤسسة العسكرية والذي بدأ في 27 إبريل 1975.

أما النجاحات الاقتصاديّة فتُرجمت سريعًا إلى تنمية بسبب السياسات الحكوميّة الواضحة (الخطة الخمسيّة) ومحاربة الفساد الإداري والمالي عبر ما سمي “لجان التصحيح”_ وليس إلى معدلات نمو عالية فحسب (وصل متوسط معدل النمو إلى 7 % سنويًا، وهو أعلى معدل نمو في تاريخ اليمن الحديث)؛ انتقلت قطاعات اجتماعيّة في الأرياف والمدن إلى الطبقة الوسطى وتمكنت البرجوازيّة الوطنيّة من مراكمة الثروة وتوسيع مجال حركتها.

طوّر نظام الحركة التصحيحيّة العلاقات بين الحكومة والتعاونيّات في الأرياف إلى أعلى مستوى عرفته اليمن في تاريخها المعاصر؛ فقد اعتمد النظام حينها فهمًا ديمقراطيًا للتنمية مؤسَّسًا على الشراكة الشعبيّة في عمليات الإصلاح وإقامة المشاريع. غير مهمٍ في هذا السياق إثبات أن هذه السياسة صدرت عن إيمانٍ شخصي لدى الحمدي بضرورة المشاركة الديمقراطيّة على المستوى التنموي؛ فالأكيد -بدليل نجاحها- أنها كانت صائبة سياسيًا، بل وتعطينا درسًا يفيدنا في يومنا الراهن، وهو صعوبة التنمية المركزيّة في اليمن.

بُنيَت أجهزة الدولة اليمنيّة الحديثة بعد ثورة 62 على المثال البيروقراطي المصري القائم على المركزيّة، وكان هذا أحد الأسباب الثانوية لعجز دولة اليمن الشمالي عن تحقيق تصوراتها التنموية أو تحصيل إيراداتها؛ فاليمن الشمالي آنذاك (واليمن كله اليوم) يعرقل جغرافيًا وديمغرافيًا التنمية المركزيّة. ويبدو أن حل المشكلة المُجرّب تاريخيًا هو ربط القيادة والتخطيط الحكوميين بالمشاركة الاجتماعية.

هذه النجاحات المختلفة وعلى أكثر من صعيد، ليست إعجازًا كما يعتقد البعض؛ فقد تجدّلت في عهد الحمدي عواملٌ ذاتية وتاريخيّة وآنيّة مع حظٍ نادر.

أشرتُ آنفًا كيف كان للمتواطئين في الطبقة الحاكمة على الإرياني، ورد فعل الأخير عليهم، دورٌ كبير في تمكين الحمدي منهم لاحقًا. أما على مستوى التنمية؛ فقد كانت الحركة التصحيحيّة محظوظةً بتغيُّرٍ كبير في السوق العالميّة وهو الطفرة النفطيّة نتيجة قطع السعوديّة للنفط في حرب 6 أكتوبر 1973. صحيح أن أسعار السلع ارتفعت بطبيعة الحال، ولكن في مقابل ذلك دخلت ثروة كبيرة للبلاد: في عام 1973 كان إجمالي تحويلات العمال اليمنيين في الخليج إلى اليمن الشمالي 135 مليون دولار، في حين أنها بلغت عام 1977 قرابة مليار دولار[7].

نمط الاقتصاد الريعي في اليمن الشمالي آنذاك كان مختلفًا عن ريعيّة الدول النفطيّة؛ فالأموال تصل إلى المجتمع مباشرة وليس إلى خزينة الدولة فتصرّفها كما تشاء. إحدى النتائج السلبيّة لهذا النمط الريعي تعزيز قوة المجتمع في مواجهة الدولة التي تعاني أصلًا من ضعف بسبب وعورة التضاريس والتبعثر الديمغرافي، لكنه من ناحية أخرى يوفّر النقد الأجنبي، كما أنه يخفف من أعباء الدولة نتيجة الشراكة الاجتماعية في التنمية؛ فأهم المشاريع الريفيّة في عهد الحمدي أنجزت بالمساهمة المادية والتطوعيّة من المواطنين، أي أن قسمًا من تحويلات الخارج للمواطنين في الداخل يُصرف بعد ذلك في مشاريع تنمية الأرياف إما بالمساهمة المادية المباشرة أو بالتطوّع للعمل المجاني.

من جانب آخر، استلمت الحركة التصحيحيّة جهاز دولة مُرهقًا وضعيفًا، ولكن أساساته جاهزة منذ عهد عبد الله السلّال (1917-1994) وظروف البناء عليه مهيّأة في حال رُشّد القرار السياسي. إنهاء الحرب الأهليّة مع الملكيين عام 1970، وتهدئة الجبهة مع اليمن الجنوبي عام 1972، وتكوين العلاقات الدبلوماسية مع الخارج، وإنشاء البنك المركزي عام 1971، والجهاز المركزي للتخطيط وجامعة صنعاء وغيرها من المؤسسات والترتيبات الدبلوماسية_ كل هذا أنجز في عهد الإرياني. بل وحتى أهم إنجازين اقتصاديين في عهد الحمدي، وهما تحقيق معدلات نمو عالية والشراكة الاجتماعية في التنمية، زُرِعَت بذورهما في عهد الإرياني؛ فالبرنامج الإنمائي الثلاثي -والذي كان عتبة الخطة الخمسيّة عام 1976-وُضِعَ عام 1973، كما أن “الاتحاد العام لهيئات التعاون الأهلي للتطوير” أُسس برئاسة الحمدي عام 1973. بالإضافة إلى ذلك، مرحلة الصراع في نظام 5 نوفمبر (1967-1974) أنتجت توازنات جديدة ولكنها أزاحت كذلك أسماءً قويّة، وهذا عمومًا ديدن الصراع العنيف على السلطة؛ هو يزيد رصيد النفوذ عند قوى نافذة لكنه يضعف مجموعها. في حقبة الإرياني هُمش بعض الضباط السبتمبريين، وقطاعات من الشباب المسيس رُميت في المعتقلات، كما تخلص الإرياني من العسكري القوي الفريق حسن العمري (1916-1989) بنفيه إلى خارج البلاد، وصُفّيت مجموعة من الضباط الراديكاليين الشباب من أمثال عبد الرقيب عبد الوهاب (1943-1969)   ومحمد مهيوب الوحش (1942-1968) بعد تفجر الصراع معها في أحداث أغسطس 1968.

كان لليمن الشمالي أيضًا ظروف تاريخيّة مميّزة عن باقي الجمهوريّات العربيّة عبّدت الكثير في طريق نظام 13 يونيو. أولًا كانت الجمهورية العربية اليمنية تشترك مع موريتانيا في كونها الجمهوريّة العربيّة الوحيدة التي لم تعرف في الستينيّات رأسمالية الدولة المفروضة أيديولوجيًا. في بداية تشكل الدولة بعد ثورة سبتمبر كان القطاع العام والشركات العامة هي المسيطرة على الاقتصاد، ولكن ذلك لم يكن بدافع أيديولوجي بل ناتج الواقع، حيث لم تكن البرجوازيّة، بسبب هشاشتها وبفعل الحرب الأهليّة، مستعدة بعد لتكوين قطاع خاص نشيط، وكانت الطبقة للفقيرة الكاسحة والبرجوازيّة الصغيرة الناشئة والضئيلة هي السائدة، بالإضافة إلى التراتبيات الاجتماعية التقليدية التي يصعب وضعها داخل نموذج طبقي حديث. ظاهرة رأسمالية الدولة المفروضة واقعيًا في دولة غير اشتراكيّة عرفتها دول أخرى؛ فقد أنتج ضعف البرجوازيّة المحليّة نفس السياسات في دول ثريّة انضوت تحت جناح المعسكر الرأسمالي في الحرب الباردة مثل السعوديّة من الخمسينيات وحتى نهاية السبعينيّات -على الأقل-من القرن العشرين. ولكن مع انتهاء الحرب الأهلية في الشمال (1962-1970) وارتفاع أسعار النفط واستقرار الأوضاع بدأت البرجوازية في التشكُّل مدعومة ببرامج حكومية مباشرة وغير مباشرة (في برنامج الإنماء الثلاثي وفي الخطة الخمسيّة الأولى). البرجوازيّة الوطنيّة بطبيعة الحال زادت من قوة المجتمع من جهة، ولكنها ساهمت أيضًا بتوسيع هامش الحراك الاجتماعي أمام قطاع واسع من المواطنين، وبالتالي ساهمت في الاندماج الاجتماعي وتوسيع الطبقة الوسطى الصاعدة بقوة منذ الثورة عامة وفي عهد الحمدي على وجه الخصوص، فشدّت من عضد الدولة من جهة أخرى. بالإضافة إلى أن وجود اليمن الشمالي على حدود السعودية وعلى حدود الدولة الماركسيّة الوحيدة في المنطقة العربيّة سهّل على القيادة اليمنيّة في الشمال توسيع مجال حركتها مستفيدة من الحرب الباردة والتنافس الإقليمي؛ فكان اليمن الشمالي يعامل معاملة خاصّة من المعسكرين الشرقي والغربي في المساعدات التنمويّة والمنح الدراسية وصفقات السلاح والاستثمارات الخليجيّة وغيرها.

أما التعاونيّات؛ فما فعله الحمدي هو تنظيمها على المستوى القُطري عام 1973 قبل وصوله إلى الرئاسة، ثم إشراكها في الخطط الحكوميّة للتنمية بعد 13 يونيو 1977. أما فكرة التعاونيّات فتمتح من ثقافة الأوقاف الإسلاميّة الراسخة في المجتمع اليمني. كما أنها أيضًا ذات جذور تاريخيّة ناشبة في مرحلة الإمام أحمد في الخمسينيّات، حين انتظم المواطنون في بعض المناطق لتشكيل تعاونيات تنجز -وحيدةً بلا دعم من السلطة وبأموال المواطنين-بعض المشاريع التنموية مثل توفير المياه النقيّة؛ فالمملكة المتوكليّة كانت دولة سلطانيّة تقوم على الشرعيّة الدينيّة الطائفيّة والتميُّز العِرقي وقوة التغلّب ولا ترى أنها ملزمة شرعيًا أو شعبيًا بأي شيء إزاء “الرعيّة” باستثناء حمايتهم من الغزو الخارجي.

وأخيرًا، عندما أراد الحمدي تنفيذ سياساته الطموحة، وجد أمامه كوادر عربيّة مبثوثة في طول البلاد وعرضها من معلمين وأطباء وحتى موظفين حكوميين تقاطروا إلى البلاد في عهد السلال، كما وجد قطاعًا جاهزًا من التكنوقراط اليمني الرفيع المؤهل لتنفيذها. هذا الكادر يتكوّن بعضه من الذين أرسلتهم دولة الثورة للخارج كي يتعلموا، والبعض من بعثة الأربعين التي أرسلها الإمام يحيى حميد الدين، وبعضهم من الذين ابتعثتهم الهيئات الأهليّة المعارضة للإمامة، وجُلُّهم تمرّسوا بالعمل الحكومي في المرحلة الجمهوريّة قبل وصول الحمدي إلى الحكم. علينا ألا نستهين بهذا الامتياز التاريخي الذي تهيّأ لحكم الحمدي؛ فرئيس آخر، يكاد يكون نسخةً إفريقيّة من الحمدي وهو الرئيس الراحل توماس سانكارا في بوركينا فاسو[8]، عانى الأمرّين نتيجة غياب التكنوقراط الكافي والكوادر التعليميّة والدعم الإقليمي بالكوادر لتنفيذ سياساته الطموحة.

هذا النجاح الاقتصادي والسياسي في التاريخ اليمني الحديث هو المكوّن الأساسي لأسطورة الحمدي؛ فعهده هو الإثبات التاريخي الوحيد أمام جموع اليمنيين أن الفقر والمهانة والجهل والفساد ليست قدرها لأنها ليست عن عطبٍ فيها بل عن مشكلةٍ في السلطة لأن من جاء بعده عرف ظروفًا مساعدة مثل ظروف عهد 13 يونيو وأكثر، والجميع يعلم كيف كانت سياسته الداخليّة وسياساته الاقتصاديّة وما قادت إليه اجتماعيًا.

الحمدي، من هذه الزاوية، هو البرهان الدامغ عند الوعي الشعبي على قدراته الذاتيّة وحقه في الأمل بالمستقبل.

– مخايلٌ من الماضي

حاول المقال آنفًا خوض نقاشٍ نقدي في بعض جوانب تاريخ الحمدي شخصيةً ونظامًا المتصلة بموضوع الأسطورة، وفيها الكثير ليقال على كل حال. لكن من الأمور الثابتة بالوثائق والأدلة القاطعة نزاهة الرجل وزهده في المال وأبّهة السلطة، ولكنها لا تقول إنه كان زاهدًا في السلطة ذاتها.

نزاهة اليد، وزياراته المفاجئة للمصالح الحكوميّة لمراقبة أعمالها، وتجوّله أحيانًا في أحياء المدن بلا حراسة، وقدرته العالية على التواصل مع الشرائح العريضة من المواطنين، وما ذكرناه من إزاحته لأقطاب نظام 5 نوفمبر غير المحبوبين اجتماعيًا_ كل هذا يلامس شيئًا عزيزًا في مخيال المجتمع اليمني ومجتمعات الحضارة العربيّة-الإسلاميّة عمومًا الذي يمتلئ بقصص الخلفاء الزهّاد والمنصفين بصرامة.

من نزاهة اليد والنشاط المتقد وثقة الحركة وسلاستها سَهُلَ على الناس الذين عاصروا عهد الحمدي نسج القصص والحكايات عن رؤيتهم له صدفةً في الشارع فيوصلهم بسيارته إلى المدرسة في صنعاء، أو ليحل مشكلةً صغيرة لعجوزٍ في تعز. كما كَثُرت حكايات توبيخه لمسؤولين مهملين في زياراته المفاجئة أو تكريمه لموظف صغير نزيه يتقن عمله. وعلى كل حال تحتاج هذه القصص والحكايات للجمع والدراسة لا بوصفها حقائق أو أكاذيب، بل بصفتها تعبيرًا عن الخيال الاجتماعي وآماله والقيم السائدة فيه.

هذا الميل في الخيال الاجتماعي اليمني ليس متصلًا بالتاريخ الحضاري العربي فحسب، بل ناشب الجذور في الثقافة الشعبيّة والتاريخ الثقافي أيضًا. المقابل الخُرافي للحمدي هو الشيخ الصوفي أحمد بن علوان الملقّب بالباهوت لأن طلعته كانت تبهت الجن والعفاريت.

 يعلل البردّوني (1929-1999) خرافات ابن علوان تعليلًا اجتماعيًا؛ فأقطاب الصوفيّة كثيرة في التاريخ اليمني وليس ابن علوان إلا أحدها، ولكنه امتاز منهم بنضاليّته ضد الظلم ونصرته للضعفاء[9]؛ فاختاره بسطاء الناس منقذًا لهم من الجن والعفاريت فلا يلبث المبتلى بخطف الجن لعزيز له أن يلفظ اسم ابن علوان حتى يأتي كلمح البصر ليعيد من خطفته العفاريت الشريرة بعد أن يصرعها خوفها منه.

لصورة وحكايات الحمدي الشعبيّة اتصالٌ بصورة الباهوت ابن علوان، والفارق أن الأولى أسطورة علمانيّة تفرزها الحداثة والثانية خرافة سحريّة أنتجتها العصور الوسيطة.

العمل الفني بواسطة علي المعبري

ثالثًا: استمراريّة الأسطورة 

أ-عصر قصير

حكم الحمدي ثلاث سنوات وبضعة شهور، وهذا أقل من ولاية رئاسية في بلدٍ ديمقراطي. هذا العهد القصير المثير يفتح في أذهان المجتمع سؤال الإمكانيّة: ماذا لو كان عهده استمر؟ الجواب الاجتماعي المُفضّل هو أن اليمن كلها -شمالًا وجنوبًا- كانت ستقفز إلى مصاف الدول الواعدة في التنمية والخدمات والسلم الأهلي واحترام الإنسان، بل وربما إلى أعلى من ذلك، وتُقصى تمامًا احتماليّة أخرى، وهي نكوص النظام عن التزاماته وتغيير توجهه نحو النقيض، وهذا أمر شاعَ بين دول الاستقلال غير الديموقراطيّة في العالم الثالث طوال القرن العشرين؛ فالدكتاتوريون محطمو مجتمعاتهم لم يبدأوا بالضرورة فاسدين وتافهين، بل قد يكونون في بداياتهم مناضلين وأصحاب سياسات تنمويّة وتوجهات تحفظ السيادة، ثم لمزاجات شخصيّة وصراعات داخليّة وظروف خارجيّة يتنصلون من كل وعودهم بل ويدمرون عمدًا ما أنجزوه هم في مرحلة سابقة من حكمهم، ولدينا عربيًا المثل الأبرز في العالم وهو العقيد معمّر القذافي: من الجمهوريّة والنزعة القوميّة والتنمية ومساعدة الجيران إلى أسوأ وأتفه أشكال الديكتاتورية العائليّة والفشل التنموي المدوي والفساد المتبجّح والتحرّش بالجيران وإفسادهم بالأموال والمكائد ثم تحطيم البلاد كلها عقابًا لمن أرادوا تغيير حكمه.

الأحلام الموؤودة تفتح أبواب المستحيل، وهذا سر إلهامها الدافع للنظر إلى المستقبل في عهود الانطلاق الاجتماعي والسياسي، وقابليّتها أن تكون ملاذًا وموضوعًا للحنين كفردوس مفقود في زمن الانحطاط والانهيار.

ب-العهد التالي 

أعتقد أن العامل الأساسي في رسوخ أسطورة الحمدي هو النظام الذي جاء بعدَه. فكما يعمل عهد الحمدي في الوعي الشعبي كأسطورة تجسّد إمكانات الشعب التاريخيّة، عمل نظام صالح كنقيض يُذكّر المجتمع بكوامنه المُظلمة وأمراضه المزمنة.

 طوال أربعين عامًا ثمة محاربة رسمية ضروس لذكرى الحمدي -أشير لها آنفًا- وتساندها محاربة حزبيّة كذلك؛ فباستثناء التنظيم الناصري -لأنهم يحسبونه عليهم- لدى كل الأحزاب موقف سلبي من نظام 13 يونيو: البعثيون يعلنون مقتهم له ولرئيسه بلا مواربة[10]، والإخوان المسلمون كانوا من أدوات النظام -في أثناء تحالفهم معه- في المبالغة بتشويه سمعة الحمدي الشخصيّة لما لهم من قواعد اجتماعية في الأرياف والمؤسسات التعليميّة ولاشتراكهم مع النظام في كراهية الماركسيين الذين تقارب معهم الحمدي وطنيًا، كما أن القيادات الإخوانية (خاصّة القبليّة) تعلن كراهيتها صراحةً في المذكرات والمقابلات الصحافيّة، وقطاع واسع من الاشتراكيين لا يزال يستجرّ إلى اليوم معاركه الحزبيّة لمهاجمة نظام 13 يونيو وشخص الحمدي. وفي مقابل هذه الحملة الرسمية والحزبيّة ثمة تكوين اجتماعي عفوي لأسطورة الحمدي تُنشر وتُنقَل شفاهيًا من جيلٍ إلى جيل. هذه الظاهرة تفهم في مستويين: مستوى ظاهر (ومهم) ويفهم فيه أن ما يحدث مقاومة جَمعيّة وغير منظمة للنظام والنخب السياسيّة، ومستوى عميق يفهم فيه ذلك الشد والجذب بين المجتمع والنخبة (نظامًا وأحزابًا) باعتباره معركةً في حربٍ أهليّة مستعرة على الهويّة الوطنيّة وفضاءها الرمزي.

ج-خاتمة تراجيديّة

ثالثة الأثافي هي الموت؛ بانقضاء حياته وحياة من معه اكتسبت أسطورة الحمدي نهايتها المأساويّة اللازمة قبل أن يكسبها “العهد التالي” بداياتها المشرقة الكافية. وتكوين الأساطير، مثل كتابة الروايات، لا يلتزم بالترتيب.

ما حدث في 11 أكتوبر عام 1977 لم يكن مجرّد اغتيال رئيس -كما حدث مع الرئيس الغشمي في يونيو 1978-بل انقلابًا دمويًا لم يعلن عن نفسه قاده جناح في نظام الحمدي، بدعم إقليمي، على جناح آخر على رأسه الحمدي، ولم تعرف الجمهورية في شمال اليمن (1962-1990) انقلابًا دمويًا مثله. واستمر الجناح المنقلب في تصفية جناح الحمدي والمتعاطفين معه من اليساريين والقوميين داخل جهاز الدولة والجيش طوال عامٍ كامل بعد الانقلاب (إخفاء علي قناف زهره وعبد الله الشمسي، أحداث الحجريّة وهروب قائد قوات المظلات عبد الله عبد العالم إلى اليمن الجنوبي، اخفاء سلطان القرشي وعلي مثنى جبران (1946-؟) وآخرين، إعدام قادة التنظيم الناصري وإخفاء جثامينهم بعد محاولة انقلابهم الأبيض الفاشلة على الرئيس علي عبد الله صالح في أكتوبر 1978).

إذا كان القتل بحد ذاته باعثًا على الحزن، فإن طريقة القتل بتفاصيلها ومحاولة التغطية عليها قد جمعت خيوطًا تراجيديّة مَسرحيّة يمكن أن تنسج منها كبرى الملاحم.

 تُجمع الشهادات -باستثناء رواية النظام-والقرائن أن من رتّب لقتل الحمدي كان صديقه المقرب ومحل ثقته المقدم أحمد الغشمي (1941-1978)، وقد قتله بمساعدة ضباط ومسؤولين آخرين وبدعم سعودي داخل بيته بعد أن دعا الحمدي لوليمة غداء[11]، ثم أذيع ما أذيع من تشويه لسمعة الرجل وادعاء أن مجهولًا، قُيّدت الجريمة ضده!، قتله وقتل أخاه عبد الله الحمدي مع فتاتين فرنسيّتين.

تكتسب رواية النظام شعبيّة في أوساط ضيّقة تريد تصديقها، ومن سخرية الأقدار أن “قصة القتل” بقيت وصمةَ عارٍ لا تُمحى في تاريخ النظام حتى بين بعض معارضي نظام الحمدي ومن لا يعارضون مبدئيًا قتله والتخلص منه[12]!

هكذا نرى شابًا لم يكمل بعدُ الخامسة والثلاثين من عمره يخونه أصدقاؤه ويجهزون عليه طمعًا في الكرسي بالتعاون مع آخرين في الخارج، ولا يجرؤون على إشهار فعلتهم لمعرفتهم بوضاعتها؛ فيسعون لقتله ميتًا بتشويه سمعته وإخفاء اسمه وصوته وصورته.

هذا المد التراجيدي يغمر الحكايات الشعبيّة والمقالات وشهادات المعاصرين التي تدور عن خاتمة الحمدي: غضب الحشود في جنازته ورميُ الغشمي بالأحذية، بكاء الناس في الشوارع وإغلاق الأسواق والدكاكين، رفع الرايات السوداء في الأرياف وعلى السيارات المسافرة في الطرقات حدادًا وكمدًا. إن قصة الحمدي ونهايته مكنزٌ للفن والأدب والمسرح، والغريب أنها مع ذلك لم تدخل إلى عوالم الإنتاج الفني النخبوي بكثافة رغم محتواها الدرامي والتراجيدي الثري.. وربما كان ذلك إحدى علامات الصراع الثقافي العنيف في اليمن بين المجتمع ونخبته.

من خيوط هذه الخاتمة والقصة التراجيديّة بدأت تتكوّن، رويدًا رويدًا، بدايات الأسطورة الأبرز في اليمن الحديث.

خاتمة: “ملكٌ ذو جسدين” أو كيف نرى الأسطورة؟ 

كثير من المثقّفين والمسيّسين اليمنيين يرون مسألة الاحترام الشعبي لإبراهيم الحمدي من زوايا مختلفة؛ البعض يحتفظ بتركة العداوات الحزبيّة، وآخرون لديهم موقف مَبدئي -ديمقراطي وغير ديمقراطي- من العسكر ووصولهم إلى الحُكم، أو موقف من سياسات الحمدي إزاء القبائل والجيش والنظام في الجنوب وطريقة إدارته للحكم وما أورثته البلادَ بعد مقتله، والبعض يذهب أبعد من ذلك فيَرى في علاقة الوعي الجمعي بالحمدي دلالة استعداد اجتماعي أصيل لعبادة الفرد والبحث عن مُخلّص، أو يراها ظاهرة غير عقلانيّة يجب التصدي لها، وغيرها من وجهات النظر التي تستحق النقاش.

هذا النوع من النقاشات مهم، وله وظيفة خطيرة كما سنرى لاحقًا، حين يوضع في سياقه، أي سياق التأريخ لنظام 13 يونيو أو إبداء الرأي فيه، ولكنه بلا معنى إذا لم يستحضر تمييزًا دقيقًا يتجاوز  نظام 13 يونيو وسياساته وتاريخه ورجالاته، وهو أن الحمدي ليس شخصيّة تاريخيّة فحسب، بل أيضًا، وباستعارة محرّفة من سياقٍ آخر، “ملكٌ ذو جسدين”[13]: جسد الشخصيّة التاريخيّة، وهذا هو الذي نُعمل مباضع النقد في سياساته وأفكاره وسياقه وعهده ونجاحاته وكوارثه وتنطلق العواطف في كراهيته أو محبته، وجسد الأسطورة العلمانيّة الوطنيّة الذي يجب معاملته بأدوات أخرى.

الهويّة القوميّة الحديثة تُبنى وتُرَسّخ ويعاد إنتاجها بتوسيع الطبقة الوسطى والتنمية والمواطنة والديمقراطية والعدالة الاجتماعيّة وربط المجتمع بعضه ببعض بشبكات الطرق السريعة والسكك الحديديّة، ولكن هذا كلّه يهوي وبعضه يستحيل عاملَ تمزيقٍ للهويّة إذا لم يقف على عالمٍ من الرموز والأساطير والسرديات والمتخيّلات.

في اليمن لدينا رموز تاريخيّة من حضارات سحيقة ووسيطة، وسرديّتان للدولة الحديثة وهي سردية الجمهوريّة في الشطرين: التخلص من النظام الطائفي والعرقي في الشمال، وطرد الاستعمار وتوحيد السلطنات في الجنوب، وسرديّة الوحدة. ويحيط هاتين السرديَّتين لغة قوميّة هي اللغة العربيّة.

 تحتاج الهويّة في اليمن الحديث علاوة على ما سبق إلى أسطورتين: أسطورة ثقافيّة، أي شخصيّة ثقافيّة تُصعَّد إلى مرتقى التعبير عن “العقل الجَمعي”، وأسطورة تاريخيّة تجسّد الحُلم الشعبي، وهذا ما يمثّله الحمدي.

من اللافت للنظر -وآمل التأمل فيه-أن السرديات في اليمن منتج مشترك بين الدولة والمجتمع، لكن كلا الأسطورتين من إنتاج شعبي وليس من جهد دولتي ونخبوي؛ فالأسطورة الثقافيّة لليمنيين هي بلا شك الشاعر والمفكر المغضوب عليه من النظام عبد الله البردّوني. كما أنهما علمانيتان ومعقولتان؛ لا تحملان مضمونًا خرافيًا، وهذا أمرٌ لا يتكرر كثيرًا؛ فثمة أمم كثيرة -منها أمم أوروبيّة رائدة في الحداثة-تختلط أساطيرها التأسيسيّة بالخرافات والمعجزات.

علينا، إذا أردنا بناء هويّة جامعة في اليمن، دفع الدولة للتورّط في مهمة تكريس عالم الرموز وترسيخ الشخصية كأسطورة: إدراجها في المناهج الدراسيّة، إقامة النصب التذكاريّة، إعطاء قيمة احتفاليّة أو رمزيّة لضريحها،  ..إلخ. كما يجب التفريق بين وضع أسطورةٍ في مركز فضاء الهويّة وبين ملء الفضاء الهويّاتي بها؛ فالأسطورة المركزيّة يجب أن تنتظم في مداراتها أساطير أخرى تضمن تماسك الهويّة من جهة، وتعبر عن تنوع روافدها من جهة أخرى بما يساعد في جعلها أكثر انفتاحًا وقدرةً على مقاومة الانزلاق إلى الشوفينيّة.

الأمم الحديثة لا تعدم الوسائل للعثور على أساطير كهذه، بل وأحيانًا تختلقها اختلاقًا! تاريخ اليمن الحديث صراعي محموم، وبالتالي فيه ملحميّة تفرز بسهولة أحداثًا وشخصيّات سياسية وعسكريّة وثقافيّة وفنيّة يمكن للدولة تحويلها إلى رموز في شفرة الهويّة.

 من الأمور المُطمئنة قليلًا أن أسطورتي الحمدي والبردوني لم يخلقهما إجبار فوقي بل عفويّة اجتماعيّة، ورغم ذلك ثمّة حدٌ يجب الوقوف عنده حين تقرر الدولة الاضطلاع بدورها في تكوين الهويّة، فبدون ذاك الحد ينزلق المجتمع من تكوين هوية إلى التمهيد لثقافة فاشيّة (والتي لا تحتاج لنظام فاشي لكي تنتشر). عملية التكريس الدولتي للفضاء الرمزي عنصرٌ في مركبٍ له عنصرٌ موازٍ آخر: يجب فتح فضاء ليبرالي-ديمقراطي بلا حدود أمام الدارسين وأصحاب الرأي للتعبير والبحث في كل هذا العالم الرمزي وأساطيره، وهنا يأتي دور النقاشات التي ذكرتها آنفًا بخصوص عهد الحمدي؛ فدخول الدولة في هذا المضمار بدون فضاء نقدي للشخصية التاريخية وعهدها -أو إنتاجها الثقافي وتاريخها الشخصي في حالة أسطورة التجسيد الثقافي-سيُسيِّد الثقافة الشعبويّة وقد يحوّل الأسطورة بسهولة إلى عنصر في مركّب فاشي يقدّس الجيش أو يعبد الفرد. الدولة بأجهزتها وعنفها الرمزي والمادي يمكنها فرض عبادة الأفراد، أما المجتمع بدون ضغط فوقي فلا يستطيع فعل ذلك، وهذا أمرٌ أردت الإشارة إليه ردًا على من يرون في مكانة الحمدي الشعبيّة عبادةً لفرد؛ فما يتحدثون عنه ظاهرة أخرى لا علاقة لها بما يدور في الواقع اليمني لا في شكلها ولا في مضمونها ولا في وظيفتها[14].

تبقى مشكلة أخيرة ولا فكاك من إلحاحها في تحوّل الحمدي إلى أسطورة وطنيّة، وهي أن الحمدي حكم الشمال اليمني فقط. لا توجد تحليلات أو ظواهر يمكن الاستناد عليها لمعرفة مدى تغلغل الحمدي في الوعي الاجتماعي جنوبًا، وهذا إشكال حقيقي يحتاج حلًا حتى لا تتحوّل وظيفة الأسطورة إلى عامل تقسيم عوض أن تكون رباطًا جامعًا.

في ثورة فبراير 2011، اتضحت نتيجة ما أسميته سابقًا بالحرب الأهلية الطويلة على الرموز بين النخب والمجتمع: صور الحمدي في كل زاوية وتملأ خيام المعتصمين في ساحات تطالب بالديمقراطيّة والعدالة الاجتماعيّة وعمودها الفقري شباب ولدوا بعد مقتل الحمدي بسنوات. انتصر الوعي الشعبي في هذه المعركة نصرًا بيّنًا، وبدأ، بشكل عفوي، في حل مشكلة حدود الحمدي الجغرافيّة والتاريخيّة؛ فانتشرت آنذاك في الساحات صور للحمدي مع رئيس اليمن الجنوبي سالم ربيّع علي “سالمين” (1935-1978)، وبدأت تظهر كتب مُهمَلة ونادرة عن اليمن الجنوبي، وشهادات وقصص وحكايات عن الرئيسين وخططهما المشتركة للمستقبل اليمني وإنجازات سالمين الاجتماعيّة وآماله الوحدويّة وصداقته بالحمدي.

هذه إشارة يجب على النخب -على الأقل-التأمل فيها. ولا أدري كيف يمكن لمثقّف تفويت فرصة متابعته بأم العين كيف يخلق مجتمعه في لحظة فارقة وبلا شعبويّة عالمًا رمزيًا لهويّته الوطنيّة ويقترح حلولًا لمعضلاتها.

ختامًا، نقاش الحمدي بالمعنى الذي توخّاه المقال هو نقاشٌ لصميم الحاضر وليس حنينًا لماضٍ لا نريد أصلًا عودته؛ إذا تأملنا اليمن في اللحظة الراهنة سنرى عالمه الرمزي ينهار وسرديّاته تتداعى بمعاول نخبٍ ومليشيات في الشمال والجنوب:

 الكفاح المسلح ضد الاستعمار أضحى خطأً تاريخيًا، وتوحيد السلطنات جريمة ويجب إرجاع ما أخِذَ باسم تلك الجريمة إلى أصحابه وهم أحفاد السلاطين والأمراء، وإقامة الجمهوريّة في الشمال وإنهاء حكم الإمامة كان تعديًا على حقوق عائلة ملكيّة حاكمة ممتازة العرق والدين، ومعاداةً لنواميس الكون التي جعلت الناس طبقات يستعبد بعضها الآخر، والوحدة غدت جريمة تاريخيّة ومنبع كل الشرور، أما اللغة العربيّة فلا يستحيي بعض المثقفين من إعلان موتها والسخرية منها وتوبيخ من يهتم بها بمناسبة وبغير مناسبة على وسائل التواصل الاجتماعي، والبيروقراطيّة أضحت ظاهرة ورقيّة وسفارات في الخارج، ويتفسخ ما تبقى من رمزيّة في الرئيس وحكومته على يدهم ويد من يدعمونهم.

إن اليمن اليوم يعاني أكبر وأعنف إبادة رمزيّة في تاريخه المعاصر.

في هذا السياق، نقاش أسطورة الحمدي من أوجب الأمور، تحديًا للحاضر المجنون بإبادة الهويّة والذاكرة، وتحضيرًا لمستقبلٍ يتجاوزها نحو آفاق إنسانيّة لائقة.

 

 


هوامش ومراجع:

 

 [1]https://almasdaronline.com/article/38310

[2] عضوية الحمدي في حركة القوميين العرب مثار جدلٍ في أوساط الساسة والمؤرخين. البردّوني في كتابه “اليمن الجمهوري” يؤكد انتسابه للحركة، في حين يرجح البعضُ عكس ذلك، مثل حسن العديني. ويبدو أن انتماءه أرجح؛ فالعديني يستند إلى سلسلة شهادات بعضها ينتهي عند جار الله عمر الذي نُقِلَ إلى العديني أنه نفى انتساب الحمدي للقوميين العرب، في حين أن جار الله عمر يذكر في مذكراته عضوية الحمدي في الحركة. 

أنظر مقال العديني على الرابط:

https://www.alwahdawi.net/articles.php?id=1220

ومذكرات على جار الله عمر على الرابط: 

https://www.bidayatmag.com/node/810

[3]علاوة على دوره في الحملة على المليشيات اليساريّة، يتهم البردّوني الحمدي بأنه غدر بزملائه القوميين ولعب دورًا في حملة النظام على القوميين العرب في صنعاء في أحداث أغسطس 1968 وما تلاها مستفيدًا من معرفته بأسمائهم ومخابئهم، أنظر: 

عبد الله البردوني، اليمن الجمهوري، ط 5 (دار الأندلس، 1997) ص 527.

في حين يقدم جار الله عمر صورة مختلفة كثيرًا عما يسرده البردوني، أنظر مذكرات جار الله عمر، مصدر سابق. 

[4] تختلف الروايات حول ما حدث: هل ورّط الإرياني المتآمرين عليه بأن طالبهم بالاستقالة شرطًا لاستقالته أم أنهم أخطأوا في الحسابات وأقدموا على الاستقالة بأنفسهم إلى القوات المسلحة. أرجح الرواية الأولى لأسباب مختلفة ليس هذا مقام تفصيلها. 

[5] يُنقَل عن الشيخ سنان أبو لحوم أنه وصّف نادمًا مشاركته في الانقلاب على الإرياني، وبعد أن تمكن الحمدي من السلطة وقلص نفوذه ونفوذ غيره من رموز نظام 5 نوفمبر، بالقول “لقد انقلبنا على أنفسنا!”. أنظر مقال مصطفى نعمان على الرابط: 

https://www.independentarabia.com/node/7466/%D8%A2%D8%B1%D8%A7%D8%A1/%D8%AE%D9%88%D8%A7%D8%B7%D8%B1-%D8%B9%D9%86-13-%D9%8A%D9%88%D9%86%D9%8A%D9%88-1974-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%84%D9%82%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9

[6] لتكوين فكرة موجزة ومركزة عن الاقتصاد والتنمية في نظام 13 يونيو، أنظر “ملف الحمدي” في: 

مجلة الاقتصاد الآن، العدد الأول، مارس 2015. 

[7] خلدون النقيب، المجتمع والدولة في الخليج والجزيرة العربية (منظور مختلف)، ط 2 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيّة، يناير 1989) ص 187.

[8] أوجه الشبه بين الرجلين كثيرة: المهنة وأحلام التنمية والحفاظ على السيادة والإنجازات القياسية وإطلاق مشاريع التشجير وقصر فترة الحكم ونزاهة اليد والمصرع غدرًا على يد أقرب صديق بدعمٍ من دول خارجيّة. كما ترقى سانكارا إلى مرتبة الأسطورة الوطنيّة في الوعي الشعبي البوركينابي، وصوره كذلك كانت مرفوعة في مظاهرات الثورة الشعبية التي أسقطت نظام كومباوري -قاتل سانكارا-عام 2014.

للمزيد حول سانكارا وسياساته أنظر: 

حمدي عبد الرحمن، جيفارا الأفريقي: دراسة في الفكر السياسي لتوماس سانكارا، ط١ (مركز البحوث العربية والأفريقية/ مكتبة جزيرة الورد، 2015).

[9] عبد الله البردّوني، فنون الأدب الشعبي في اليمن، ط 5 (بيروت: دار البارودي، 1998) ص 81.

[10] على سبيل المثال، تحدّث محسن العيني، وهو من أبرز الشخصيات البعثيّة اليمنيّة ورئيس أول حكومة بعد انقلاب 13 يونيو، بمرارة وغضب عن الحمدي في مذكراته، وهذا أمر استثنائي لأنه تحدث عن باقي الشخصيات السياسية التي اختلف معها في أثناء عمله الحكومي بحصافة وهدوء.   

أنظر: 

محسن العيني، خمسون عامًا في الرمال المتحركة: قصتي مع بناء الدولة الحديثة في اليمن، طبعة دار الشروق الأولى (القاهرة: دار الشروق، يناير 2001).

[11]ثمة عشرات الشهادات والمقابلات الصحافية والتقارير التي تسرد قصة الاغتيال. جمع جزءًا كبيرًا منها الفيلم الوثائقي: 

 https://youtu.be/l3olhyRydn8

[12] يقول البعض إن الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر، وهو من ألدّ أعداء الحمدي، كان منزعجًا من لا أخلاقية قصة القتل التي نشرها المنقلبون. طبعًا لا يُذكَر أنه اعترض على القتل، بل على قصة تبريره.

[13] فكرة “جسدا الملك” ظهرت في نهايات القرون الوسطى الأوروبيّة وتلعب دورًا مهمًا في الثيولوجيا السياسية والتأسيس للدولة الحديثة. بحسب هذه الفكرة، للملك جسدان: جسدٌ طبيعي فانٍ، وجسدٌ سياسي مستمر كتعبير عن الدولة.

[14] بالمناسبة، عدم إدراك النخبة اليمنيّة لهذه التمييزات يقدم تشكيكًا مزعجًا في الفكرة القائلة إن النخب العربيّة لم تنظّر للدولة لأنها كانت مشغولةً طول الوقت بالتنظير للأمّة؛ فعلى ما يبدو، لم تدرك النخب كل جوانب بناء الأمم والهويّات الوطنيّة، ولم تفرّق بعدُ بين الشعبويّة وصياغة الهويّة. سأتهوّر هنا وأقول إن هذا قد يكون أحد جذور غياب التنظير للدولة، لأن أي فهمٍ نظري لكيفية بناء الأمة والهويّة سيقود المرء بالضرورة إلى التفكير في الدولة التي تبني الأمة -أو على الأقل تقود عملية البناء-وتدعي تطابقها معها. 

غياب التقدير الجيد لدور المتخيل والأسطوري في تشكيل الهويّة، وإبقاء نقاش بناء هوية المجتمع في مستواه السياسي التفصيلي، قد يكون أيضًا هو سبب الاحتراب بين النخب والمجتمع في اليمن وليس السبب تعاليًا نخبويًا على “الجماهير” بالضرورة.

اظهر المزيد

أيمن نبيل

كاتب يمني مقيم في ألمانيا. يكتب في العديد من الصحف والمجلات اليمنية والعربية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى