رأي

جذور الثورة المضادة في “فبراير” (3-3)

 تحريف السلمية 

الصورة بإذن من عبدالرحمن جابر

غص نحو 16 ساحة في مدن البلاد بملايين المحتجين فتوافر للثورة عمق شعبي لم يتحقق لنظيراتها العربية المتزامنة تقريباً.

ومثلت السلمية سلاحاً فعالاً، أفقد النظام حيلته وأنزل به أول هزيمة حين عجز عنفه عن قطع دابر المظاهرات الأولى التي هيأت المسرح الثوري، فلولا إصرار الطلائع الشبابية على مواصلتها تحت الهجوم لنجا وكسب مهلة إضافية.

 تعني السلمية، ببساطة، مباشرة الثورة بتكتيكات وأساليب سلمية، لكن سلمية فبراير ما ان بدأت عملها حتى كفت يدها بفعل ما أصابها من التحريف والتجريد.

بتجريد مفهوم السلمية صارت الثورة تعني اعتصاماً مفتوحاً داخل ساحة لها منبر وحيد وحدود معلومة محظور على المحتجين تجاوزها.

أما تحريفها فعنى القعود شبه المطلق وكف أيدي الجماهير وعقولها عن تحريك الثورة أو المبادرة لتطوير تكتيكاتها وتنويع أساليبها والابتكار من وحي الميدان.

وأفرز تجريد السلمية وتحريفها نسخة الثورة المعدلة التي أرادها المحور الثلاثي واجهةً مجردة وطيعة، ليتدبر في خلفيتها طريقته الخاصة للانقضاض على السلطة.

من الطبيعي بطلان مفعول الثورة بعد إيوائها داخل مخيم مسيّج فماذا يتبقى منها بعد شل حركتها! وقبل ذلك سلبها تحريف السلمية خاصية التأثير السيكولوجي سواء في الجماهير المحتجة أو التي ينبغي التأثير فيها لتلتحق.

وتقضي هذه المسألة بالاسترسال في إجلائها، لأهميتها.

العمل الفني ل سعد الشهابي

لغوياً، الثورة هي الهيجان من بين معان أخرى، وتبلغ فيها العاطفة البشرية ذروة الهيجان فيجترح من هم على ميدانها أفعالاً غير عادية، يبدون فيها بقوة وشجاعة خارقتين لا قبل لهم بهما في أوقاتهم الطبيعية.

والأفعال الاستثنائية التي يصدرها الثوريون تحت التأثيرات السيكولوجية تصنع تأثيرات مماثلة في مشاهديها وسامعيها عبر وسائط الإعلام المختلفة.

إنها الانفعالات التي بدونها لا تعم عدوى الثورة، وحين تتدفق من الميدان إلى المنازل عبر الإعلام وتصيب المتلقين بانفعالات مماثلة إنما تحرضهم على الالتحاق برفاقهم في الميدان.

تصنع عدوى الانفعالات الثورية مشاهد غير مألوفة فنرى شرطياً بكامل التزامه وحزمه يلقي سلاحه فجأة ويعانق المتظاهرين، باكياً.

ومن ذا الذي خفقت فيه الثورة فلم يقشعر جلده أو يسيل دمعه لدى مشاهدته شاباً مصرياً يطير بمحاذاة أكتاف حاجز أمني بشري، محاولاً اختراقه أو شاباً بساحة التغيير يضع صدره على مقدمة عربة مدفع المياه العملاقة لمنع تقدمها فتدفعه لكن يتراءى، للمنفعلين، هو من يدفعها.

تؤدي هذه المشاهد دوراً تحريضياً يفوق تحريض ألف منشور سياسي وألف خطيب مفوه، وتشكل منشطاً حيوياً لتحريك الثورة سلمياً وتصعيدها وحفظ طابعها الشعبي.

لكن إقعاد الثورة داخل المخيمات بفعل تحريف سلميتها كان بمنزلة استئصال للغدد الثورية المسؤولة عن إفراز الجموح العاطفي الذي كان يرتقي بأصحابه لاجتراح الأفعال غير العادية مما قاد بالضرورة إلى تثبيط انفعالات الناس خارج الساحات، ومن ثم قطع صلتهم بهذا الحدث الذي بدأ بطولياً يخطف العقول وانتهى حفلة مملة، فاقدة الإثارة والبطولة.

ولم يكن استئصال الغدد الثورية إلا بعضاً مما خضعت له الثورة على سرير بروكرست (4) الذي أجرى لها عدداً كبيراً من عمليات التشويه والبتر لكل ما تطاول من مضمونها وحدودها وعنفوانها على القدر الذي يبقيها تحت سيطرة الحلف الثلاثي البروكرستي.

لتعويض ما ألحقوه بها من تشوهات وتقزم، نقل البروكرستيون فكرة “الزحف نحو القصر” نقلاً آلياً، وصنعوا بها تعويذة ذات وجهين: وجه لتسويف المحتجين وإبقائهم مشدودين إلى الساحات، والثاني لتهديد صالح بأن ورقة رابحة ما تزال في أيديهم لإسقاطه.

وتفتقت ذهنية المنصة الكشافية عن حيلة طفولية لتحويل الزحف إلى مجاز؛ وذلك بأن توجه المحتجين بالتقدم خطوة للأمام والعودة لمواقفهم، تعبيراً عن جاهزيتهم لزحف لن يحين أبداً، بل سترتد هي ضده وتعامل “مسيرة الحياة” بجفاء وتمنعها من إذاعة بيانها. 

تبرز في الثورات قوة البشرية وغضبتها وحتى أحقادها وعنفها، لا طقوس الشعوذة هذه.

وفكرة الزحف ولدت ميتة، إذ بانشقاق الجيش الذي حجز الثورة في الساحة، انقسمت العاصمة إلى شطرين: شمالي حيث تنتشر القوات المنشقة وتقع ساحة التغيير، وجنوبي حيث جيش صالح والدار الرئاسية، وهذا ألغى الزحف ضمنياً لأن التشطير ارتسم وفقاً لتمركز الجيشين، ما جعل اختراق أيهما لشطر الآخر مدعاة للاقتتال مراراً.

الصورة بإذن من عبدالرحمن جابر التقطت يوم جمعة الكرامة

ثم إن الزحف لا يحقق الاستيلاء على السلطة؛ فالزاحفون لن يجدوها تنتظرهم داخل تابوت في القصر.

ومثلما قلبت عواقب تحريف السلمية منحى الثورة من تصاعد مطرد كما هو مفروض إلى انحدار متدرج، سوف تمتد عواقبها الاستراتيجية حتى سقوط العاصمة كما سنرى.

اهترأت الساحات بعد شهور من الانتظار وتبدد الأمل في اختراقات ثورية جديدة، وشاعت الصدامات بين الائتلافات بداخلها، انعكاساً لسيادة الإحباط.

ومن هذا المحيط الذي دب فيه الانكماش واليأس، ذهب قادة اللقاء المشترك للتفاوض في مسودات الاتفاق الخليجي ولم يعد في أيديهم غير شبح الثورة التي رجت الكيان اليمني في أشهرها الثلاثة الأولى كما لم يرتج في تاريخه.

تركوا ذلك المزاج الناري الذي كان يغلي في رؤوس الملايين يبرد والحالة المعنوية الطائرة فوق الذرى يهيض جناحها تحت ممارسات إقصائية يومية داخل الساحات.

والتمس صالح اليائس مخرجاً في البداية، ولم يحل الخريف إلا وخصومه يلتمسون مخرجاً مثله.

وعند نقطة تساوي المأزق هذه، ألقيت بذرة اختلال الفترة الانتقالية، وانفتحت آفاق جديدة للثورة المضادة.

بدائل السلمية اللاتحريفية

 حري بهذا الجدل أن يطرق البدائل التي كانت متاحة بالسلمية غير المحرفة.

ولأن الثورة تنجز تكتيكاتها في الميدان بما يتناغم مع تطوراته المتجددة بين ساعة وأخرى، سينحصر الحديث في مبادئ عامة:

أولاً، في مقابل إدانة العنف التآمري خارج قرار الإرادة الشعبية الثورية وتعريته، يجب تحرير مبدأ السلمية من الجبرية.

فمثلما استخدم الحلف الثلاثي غطاء الثورة لعنف خارج سياقها، تعامل فريق ثوري واسع مع السلمية بجبرية ورأى فيها مبدأ حتمياً ثابتاً تدور حوله الثورة وتخدمه بدل أن يعمل في خدمتها.

والأصل أن السلمية أسلوب متحول ونسبي يؤخذ بها حين تحرز أفضل النتائج ويجب نبذها إذا عادت نتائجها بالوبال، والمرفوض هنا تحويلها من أسلوب إلى غاية معبودة، فلكل ثورة ظروف يتقرر فيها عنفها أو سلميتها.

 أبعد من ذلك، رأى الجبريون السلمية مفتاحاً سحرياً لكسب عقل المجتمع الدولي، وتوهموا أن وضع كل أوراقهم في سلتها سيغريه بدور المفوض وإتمام المهمات الثورية حتى تسليم السلطة مكتملةً للسلميين، المهذبين.

يأتي تأثير جبرية السلمية السلبي ثالثاً بعد تجريدها وتحريفها، ولهذا هان على فريق السلمية الجبرية تحريفها لأن أضرار التحريف لم تبد لهم فادحة مقارنة بأضرار جبريتهم فالتقطوا نصف صورة للمشهد، شجبوا بوساطتها جر الثورة إلى العنف وتغاضوا عن إقعادها.

ثانياً، تحريك الاحتجاجات:

الصورة بإذن من عبدالرحمن جابر التقطت يوم جمعة الكرامة

من النافل، التذكير بأن الحركة تصنع فاعلية أي حدث، أما تسكينه فيعطله.

وبتسكين احتجاجات الثورة، تعطلت حركتها.

كذلك سهل إقعاد الثورة على صالح استنساخ ساحات مضادة بعد إدراكه لما آلت إليه عند خصومه من عروض بشرية مجردة فحشد أتباعه بإغراءات متنوعة، ليصنع مشهداً مضللاً يوحي للمراقب الخارجي أنها مجرد أزمة سياسية حادة.

ما لا تستطيع الأنظمة استنساخه هي حركة الحشود الغاضبة التي لا تهدأ، وبين ساعة وأخرى تندفع من شارع لآخر وتباغت الشرطة بالظهور في المؤسسات والمصانع ومقرات الإذاعة والتلفزة الرسمية، وتحرض قوى الأمن عند كل حاجز ومفرزة.

وإذا كان لا بد من تكتلها في مواقع ثابتة فلمجرد اتخاذها نقاط انطلاق متغيرة لأنها قد صنعت بحركتها دوامة: يتجمع المحتجون في نقطة ما قبل تحركهم فتهرع الشرطة مستبشرةً أنها أغلقت ساحتهم لكنهم يعودون إلى نقطة أخرى ويعاودون التظاهر من ثالثة مختلفة، وإذا أغلقت قوى الأمن شارعاً لمنع تقاطرهم يغلقون شارعين، وإذا أغلقت شارعين يغلقون أربعة.

والراجح أن مشهداً مغايراً سيرتسم ويعطي نتيجة مختلفة لو أن نصف المليون المتكدسين في ساحة التغيير توزعوا في مظاهرات متفرقة يومية أو طافوا مجتمعين شوارع صنعاء.

 فتغيير أسلوب السلمية وتكتيكاتها يؤدي إلى نتيجة مختلفة؛ من قبيل أن إسقاط صالح ما كان سيعصى لولا تقييد الثورة داخل المخيمات، وما كان عتاة أشد قبضة منه ليسقطوا خلال وقت وجيز لولا انفجار غضب شعوبهم في كل شارع وحي.

أوشكت فبراير على بلوغ أعنف موجات مدها عقب مذبحة الكرامة، لكن اللجان التنظيمية كسرتها بمنع الغاضبين من التظاهر خارج حدود الساحة وجثامين الضحايا ما تزال دافئة ودمهم على الأسفلت.

وكما لكل ثورة ساعة حاسمة في مصيرها: إما تنقلها إلى الظفر أو ترتد بها إلى الهزيمة، شكل أسبوع مذبحة الكرامة ساعة المصير لفبراير.

 ففي الأحداث الكبرى ساعة معينة تعادل زمناً وتصنعه. وهي في الثورة، ساعة تهيؤ عوامل ظفرها مجتمعة كما لم تجتمع من قبل ولا تجتمع ثانية.

وبتعبير آخر هي أعنف موجة في مد الثورة وأخمل موجة جزر في تاريخ النظام.

 تتوقف نتيجة الساعة المصيرية على مدى كفاءة القيادة التي تحددها أولاً ثم تنفذ خلالها أخطر قرار يصنع نجاح الثورة، أو تتلكأ فتمنح الخصم فرصة للتماسك ثم التحول للهجوم.

ولا ارتجال في العملية، بل تباشرها قيادة على رأس تنظيم ثوري قد سبر أغوار المجتمع ورصد أدق التفاصيل عن مصالح القوى وتناقضاتها، واستكشف أنحاء المسرح الثوري، مستطلعاً كل ما يتصل بالسلطات القديمة المراد تقويضها وارتباطاتها الداخلية والإقليمية.

التنظيم هذا هو ما افتقدته فبراير فضاعت بين قوى إسلام سياسي غير ثورية وغاياتها من الثورة متناهية التهافت رغم قوة تنظيمها، وبين قوى يسارية عملت باستراتيجية القوى المهيمنة لغياب استراتيجيتها، فضلاً أنها غدت تخجل من الأصولية الثورية وتتفادى تهمتها.

إثر عودة صالح من الاستشفاء أواخر سبتمبر، تفجرت مصادمات دامية بين جيشه والجيش المنشق على خط التماس بينهما بالعاصمة، فأسقط في أيدي الحلف التحريفي بعد عجزه عن التقدم سواء بجيشه أو بجثة الثورة التي خنقها عامدا. 

لذا أخذ يحقنها وريدياً ليكمل بها الشوط فبدأ يفوّج مسيرات محروسة بالجيش بيد أن الموعد كان قد فات

أولئك الذين توهموا الثورة موظفة بمقدورهم استدعاؤها أو تسريحها متى شاءوا، غير مدركين أنها لا تتقدم موعدها أبداً، لكنها تتبدد بسهولة إذا ذهبت أوقات مدها سدى.

وفاتهم أيضاً أنها قد انحطت بعد سبعة أشهر من القعود وإلا لما برزوا في صدارتها.

فالتحولات الخطيرة يتقدمها استثنائيون لا يتهيبون عواقب تصدرها، أما التافهون والانتهازيون فيتوارون بانتظار تفسخها ليتسلقوا قيادتها ويتزعموا مرحلة انحطاطها.

وهذا ما حل بفبراير؛ إذ لما شقت مسيرها تحت النار والخوف تقدمها أروع وأشجع الفادين، وحين انحدرت بفعل البروكسترية أطلت في واجهتها دمى وضعها اللاعبون الأصليون وانصرفوا يشقون طريقاً التفافياً إلى السلطة، لا يمر بالإرادة الشعبية.

ثالثاً، من البؤر الثورية والأطراف الضعيفة إلى المركز العصي:

تسقط الأنظمة في الثورة كما في الحرب باستهدافها في أشد أجزائها ضعفاً.

في اليمن ورث صالح نظاماً مركزياً فزاد من مركزته على نحو فولاذي، يشد إليه عصب البلاد وسلطاتها ومقدراتها ويتركز فيه ثقله العسكري والأمني.

نجم عن هذه المركزية السادية ضعف سلطوي وإداري في الأطراف النائية مع تجذر للوعي المعارض في بؤر المعارضات التاريخية. ودلالة هذا أن خاصرة النظام الأضعف في فبراير تألفت من المناطق الملتهبة بالثورة والمناطق الطرفية.

وقد صدّق على ذلك اندلاع الثورة في تعز حيث سنجد مثالاً للمناطق الملتهبة ثورياً إلى حد غدا تأييد صالح عقب مذبحة الكرامة معادلاً للعار وران الهمود على حركة أنصاره في الأرياف واضمحل الجهاز الإداري في مديرياتها، وكذلك تحلت ساحة الحرية باستقلالية نسبية من سطوة الحلف الثلاثي مقارنة بنظيراتها.

لكن هذه السيادة الثورية المعنوية وسلطتها الأخلاقية الهائلة أهدرها المحتجون ذهاباً وإياباً إلى عاصمة المحافظة للمكوث في الساحة أو ليشهدوا الجمعة ويهتفوا ساعة ثم يعودوا.

أتيح لهم عوضاً عن ذلك، بديل ثوري عملي بتشكيل مجالس حكم بلدية بدءاً من القرى والعزل حتى مركز المحافظة والاستيلاء على المؤسسات العامة وتشغيل مصالحها المعطلة، وحمايتها بالقوة إذا اقتضى الأمر.

وفي المناطق النائية، كان على شيوخ القبائل الموالين للثورة في الجوف، مثلاً، حشد أتباعهم والسفر إلى ساحة التغيير في وقت لم يعد لمحافظتهم غير سلطة شكلية بعد انفراط قوة اللواء 115 إثر انشقاق الجيش. 

 ولو أنهم شرعوا في إدارة شؤون محافظتهم وتشغيل مرافقها العامة وتأمينها بتجنيد شبانهم في المعسكر المهجور والتسلح بعتاده، لغدا صنيعهم مركزياً ولخطف الأضواء من المركز الأصلي واستدار نحوه الاهتمام الشعبي والصحافة.

بتشكيل البلديات والحكومات المحلية في بؤر الثورة والأطراف الضعيفة يتوافر الخيار العملي لتقويض منظومة النظام الإدارية وسلطاته من الأسفل حتى الأعلى مع مواصلة هد دعاماته في كل بؤرة ثورية ومنطقة لينة.

وبقدر توسع هذه العملية ستتطور نحو الخارج؛ فكلما سقطت عزلة سينشق 20 نصيراً عن صالح وكلما سقطت مديرية سينشق مئة نصير، وإذا سقطت محافظة سينشق ألف نصير وفوج عسكري وكتيبة شرطة.

ولن تتفرغ الثورة لحسم أمر النظام في مركزه إلا وقد انفض من حوله وتهاوى من دعائمه ما كان يستعصي به على السقوط.

الصورة لمؤتمر الحوار الوطني

 لا عجب أن الحلفاء الذين انتزعوا قيادة الثورة أداروها بمركزية معادلة لمركزية النظام، مصرين على إسقاط صالح بضربة حاسمة من الأعلى.

فهؤلاء كانوا صقور المركزية في النظام وعاضدوا صالح ضد أي تقدم في الحكم المحلي ليحتفظوا بحصصهم من مديري المديريات ومديري أمنها والمحافظين.

ولم يكن المحتج الذي يجتاز 60 كيلومتراً ليهتف في ساحة الحرية بتعز، وذلك الشيخ المسافر بين الجوف والعاصمة ليعلن ولاءه الثوري إلا ضحايا لهيمنة ثقافية غرست فيهم أن الثورة صورة متلفزة.

صنعت مذبحة الكرامة نقطة التحول لانتقال الثورة إلى طور انتزاع السلطات بالتدرج، وإدارة المصالح ووسائل الإعلام العامة بعدما بات خطابها متأرجحاً، ومنح الأمل للمواطنين الذين يكفي أن يلمسوا جدارة القادة، ليتولوا حماية سلطاتهم المكتسبة.

سيقال إن الاستيلاء المتدرج على السلطات سيقود إلى قمع شامل أو حرب أهلية. وثمة سعة لتفنيد ذلك في مقام آخر يتيح التفصيل أكثر.

العمى الثوري في الفترة الانتقالية

الثورة بحد ذاتها وعد مفتوح بكل ما هو أفضل من السائد حتى لو لم تعلن وعوداً وأهدافاً محددة.

وهي عملية شحن تلقائي لآمال الجماهير ومناها إلى أعلى درجة في السلم العاطفي، وبعد حيازة السلطة تهبط تلك الآمال على واقع مزروع بالعقبات المتراكمة إضافة إلى تعقيدات جديدة.

يصدم تهاوي الأمل من ذروة مراتبه إلى أسفلها دفعة واحدة الجماهير كما يصدم الرضح الجوي ركاب طائرة لدى إقلاعها وهبوطها.

والفارق في قفزة الآمال بداية الثورة أن الجماهير أفرغتها في الأفعال الجامحة والتضحيات واستصغار العظائم، أما بعدها فترتد صدمة انهيار الآمال إلى داخل الجمهور ليظهر مفعولها في العزوف عن المشاركة والتطلع إلى الفرد المخلص بدل الإرادة الشعبية، والتعلق بالبديل القادر على انتزاع السلطة وطي خلافات الساسة ومفاوضاتهم بضربة خاطفة.

وبالتزامن، تبدأ تقيحات الخُرّاج الذي بضعته الثورة بالانهمار فتطفو على الساحة صنوف التفاهات السياسية والأمراض الاجتماعية وعصبيات لا حصر لها: منها المرتبط بالتخلف الاجتماعي ومنها ما كان موصولاً بالنظام الحاكم لأن فيها أحد شروط بقائه.

وفي حين تتسلم الحكومات الثورية، السلطة يبدأ عمل الثورات المضادة. فكيف إذا انطلقت قبل أن تسود الثورة بوقت طويل كما حال الحوثية التي كسبت أولى جولاتها قبل ثمانية أشهر من إعلان الحكومة الانتقالية.

أنهت قوى الثورة الشوط الثوري منهكة، لتبدأ مرحلة تكتنفها المجاهيل والطلاسم.

وطبعت الفترة الانتقالية سمات تنذر بأن هذا النمط من الانتقال السياسي غالباً ما انتهى إلى ثورة مضادة أو موجة تكميلية للثورة العاثرة.

تجسدت نذر الفترة الانتقالية في ازدواجية السلطة، الناشئة عن تنحية صالح صورياً وإبقاء مفاتيح الحكم بيده، وتأخر مهام الانتقال عن مواعيدها أو تعثرها، إضافة إلى تمردات وعصيانات السلطات العسكرية والأمنية القديمة ومحاولاتها تفجير الموقف.

وعلاوة على تأسيس الفترة الانتقالية مختلةً لمصلحة صالح الذي احتفظ وحزبه بنصف الحكومة ونخبة الجيش وأجهزة الأمن والاستخبارات والإدارة، زاد الموقف سوءاً أداء المشترك المحبط لأشد المتشائمين.

وضع المشترك على رئاسة الحكومة سياسياً كان صالح قد نحاه إلى مقصورة رجاله المهملين، بيد أن عقوده السبعة لم تنل من شباب لهفته إلى الجلوس وراء مكتب وزاري.

 وبينما لم يضع محمد سالم باسندوة بصمة تذكر بأدائه غير تضرعاته السياسية ومقابلة مع تلفزيون الجزيرة عنوانها العريض “لا أعلم”، انهمكت الأطراف التي اختارته في سباق محموم على المصالح الفئوية وتفكيك اللقاء المشترك.

تجلى سوء التقدير الفادح عند أحزاب المشترك في تحولها بسرعة إلى أضداد رغم ما تكشف لها من تحديات مصيرية تكتنف المرحلة.

واستلزم ما بعد فبراير بمهماته الكبرى وتعقيداته القاسية بقاء المشترك، مع تطوير نظامه.

فالنظام الديكتاتوري حين يتعفن، تكفي هزة صغيرة لطرح جثته أرضاً، لكن إرثه هو ما يتفجر تباعاً في طريق خلفائه حتى يغرقهم.

بالاستعانة بتاريخ الإصلاح الناظم لتحالفاته يمكن فهم سياسة الابتعاد التي سارعت بوفاة المشترك.

فقد استعاد الإصلاح وظيفة ظل النظام بل سيغدو مرشده هذه المرة، ما عنى لحزب تحترف قيادته الانتهازية السياسية انتفاء الحاجة لمواصلة التحالف مع أحزاب بعضها معتل تنظيمياً وبعضها صغير فيما هو الآن يد الرئيس وسيد الحكومة.

وسيبرهن الإصلاحيون في نوفمبر 2012 على مضيهم في هذا الاتجاه بإظهارهم حماساً منقطع النظير   للاحتفال بذكرى اختيار هادي رئيساً، رغم عدمية المناسبة وترفها مقارنة بمهمات المرحلة، وفي توقيت صعب لولا مغزاها وقيمتها لديهم.

ورغم نفور الأحزاب الأخرى من السلوك الإصلاحي إلا أنها ضالعة بمسؤوليات متفاوتة في تقويض المشترك، خصوصاً الاشتراكي الذي يفترض استرشاده بتراث وفير في النظرية الثورية، بما فيها الثورة المضادة وطرائق عملها.

 وصلت الثورة المضادة مشارف العاصمة في هيئة مسلح حوثي يلف الشال على ذقنه ويشق خندقاً في منطقة الصباحة لتطويقها من الغرب، وبالتزامن شيد آخرون تحصينات في شرقها الشمالي وجنوبها، أما أنصار الحركة فتظاهروا في اعتصام مفتوح بحي الجراف لإلباس الانقلاب المسلح مظهراً سلمياً مضللا.

ورداً على هذا التطور المرعب، استجر الإصلاح ماضي تحريف السلمية فهداه إلى مظاهرة ضخمة غطت شارع الزبيري كله. 

ها هو تحريف السلمية ما يزال ممسكاً بتلابيب فرسانه، ويتمادى حد الاستعراض بمظاهرة لتخويف حركة فاشية لم تترك شكاً في عداوتها للشعب والمرحلة السياسية وسحقت كل من اعترضها من صعدة حتى صنعاء.

ما بين توقيع الاتفاق الخليجي وسقوط صنعاء 34 شهراً، وهي مدة طويلة قياساً بوتيرة العمل التي تلي أي ثورة.

وجناية ساسة المشترك لا تكمن في توقيع الاتفاق فهو ما أمكن الحصول عليه بجثة الثورة، بل في صمتهم على طبع مضمونها وشكلها بطابع الحلف وتسخيرها لمراميه ثم في سياستهم الانتقالية.

فالاتفاق الخليجي أهون من اتفاقات تاريخية قبلتها بلدان وثورات مرغمة من ظروفها ولتفادي الأسوأ، لكنها وقعتها لتبدأ اليوم التالي في قلب الظروف التي فرضتها.

أما المشترك فوقع الاتفاق ليخلد إلى شكوى مريرة أصمت الآذان خلال ثلاث سنوات.

والتاريخ زاخر بشواهد على معاهدات بالغة الإذلال عجزت عن تقييد ضحاياها من خلق ظروف تضمن تحررهم منها.

أذل نابوليون بونابرت البروسيين ومزق مملكتهم باتفاق تيليست في 1807 فعادوا مع حلفائهم لينزلوا به هزيمة مدوية عام 1914 قبل أن يقتلعوا عرشه الإمبراطوري في واترلو.

ولن ينفك تيليست يجري على لسان لينين خلال كفاحه لإقناع القادة البلاشفة بتوقيع صلح مهين فرضته الإمبراطورية الألمانية في مارس 1918، قائلاً لهم إننا نوقع صلحاً تيليسياً (5).

ولم يكتمل العام إلا وقد تفككت الإمبراطورية الألمانية باتفاق أشد إذلالاً من بريست ليتوفسك الذي فرضته على البلاشفة قبل أشهر، والمقصود اتفاق فرساي الذي لقي نهاية أفظع من نهايات متقدميه.

ما من حكومة ثورة لا تصطدم بتحديات مهولة بما فيها ولاءات الجيوش، ولم يكن على قوى فبراير الإعداد لنقض الاتفاق بل لحمايته من خصومهم.

وبعدما استبان للرئيس هادي وقوى الثورة بالحكومة الانتقالية أن ولاء نخبة الجيش أبرز معضلات المرحلة، كان بوسعهما تجنيد جيش متكامل كما تفعل الحكومات الثورية حول العالم، عدا عن تعبئة الشعب وتعريفه بالخطر المحيق.

ويروي تاريخ غالبية الثورات كيف أبلت ضد الثورات المضادة وسحقتها خلال المدة نفسها (34 شهراً) وفي ظروف أشد قساوة من الظرف اليمني بعد 2011.

من بين مرافعات عدة، يستشهد قادة فبراير بوثيقة الحوار الوطني للتدليل على أنها وضعت الأساس النظري للمستقبل اليمني لولا انقلاب 2014.

ولا غبار على ذلك، مع التحفظ على القسر السلطوي لبعضه، لكن ليس النص حجة على الواقع، وقبل اتفاق القوى بشأنه ينبغي أن تؤمن له أرضية لينعكس عليها، ففي مرحلة مضطربة لن يشكل النص الواقع، بل الأخير يحدد مصير الأول. ودوماً يخطئ من يحضر العربة قبل الحصان.

لقد مثلت الثورة المضادة في أحد أوجهها امتحاناً لقادة فبراير في حماية منجزهم مهما يكن متواضعاً.

وليست بالنتيجة الجديدة سقوط ثوريتهم مجدداً، إنما عدم إقرارهم بأن الغول المدعو ثورة مضادة نما في تلك الأقاصي التي بتروا استطالات الثورة كي لا تصلها.

 _________________

(4) بروكرست: شخصية في الميثولوجيا الإغريقية كان حداداً، قاطع طريق وله سرير معدني يغدر ضيوفه الذين يستضيفهم ليلاً فيضعهم عليه ويبتر ما زاد من أجسامهم عن مقاسه أو يطيل ما صغر منها حتى تطابقه. ومن هذه الأسطورة اشتق مصطلح البروكرستية ليرمز إلى القولبة القسرية للأفكار والممارسات.

(5) خصص فلاديمير لينين مقالات وخطباً كثيرة للدفاع عن صلح بريست ليتوفسك ومهاجمة رافضيه، وجرى جمعها في كتاب “بصدد الجملة الثورية”، وقال في أحد مواضعه “من واجبنا من حيث الدفاع عن الوطن أن نوقع على صلح قاسٍ جائر، وحشي، مخزٍ، ولا أكثر، لا من أجل الاستسلام أمام الإمبريالية بل لكي نتعلم ونستعد بصورة جدية وفعالة لمحاربتها”.

لينين: بصدد الجملة الثورية، ترجمة إلياس شاهين، دار التقدم موسكو، تاريخ الطبعة غير محدد، ص 67.

اظهر المزيد

خالد عبدالهادي

صحفي، محرر تقارير سياسية ومقالات رأي في صحيفة الثوري وصحف ومواقع أخرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى