ثقافةثقافة

فهد الظرافي: رجل الصورة النادرة (2)

    عندما يبدأ الشخص في العمل على شيء، لابد أن يواجه الكثير من العقبات التي قد تعيقه وتجعله يتوقف في أول مشواره؛ لكن إذا كان لديه ما يكفي من الشغف تجاه ما يقوم به، فلا شيء سيوقفه. الاستمرار في العمل يصنع الكثير من المصادفات غير المتوقعة وأحياناً حتى غير المفهومة ثم يكون لهذه المصادفات دور كبير في الدفع بالشخص للمضي قدماً، لتتضح في النهاية الدوافع الحقيقية التي جعلته يختار القيام بهذا العمل دون غيره.

تجربة فهد الظرافي الموثق الفوتوغرافي الذي بدأ نشاطه قبل عقد واحد بالصدفة المحضة تحكي عن قصة مليئة بالعقبات لكن أيضا بالشغف الذي سمح لكثير من المصادفات بأن تتولى أدوار مهمة في تشكيل ملامح القصة. بينما الملامح الأخرى تتضح من حقيقة حاضر معقد الى الحد الذي يبدو معه الاهتمام بالتوثيق التاريخي مسألة هامشية.

باستثناء الخميس والجمعة، يخصص فهد الظرافي الفترة المسائية من كل يوم للعمل على أرشيف الصور. ترتيبها وجمعها في ألبومات. المراسلة والبحث عن معلومات الصور في مواقع الإنترنت بمختلف اللغات (عبر ترجمة جوجل)، وهكذا في ظل هذا الاستمرار تظل كل صورة توصله بالأخرى.

كان آخر شيء عثر عليه بالصدفة هو أرشيف التلفزيون السويسري (أس أر أف) وهو عبارة عن صور فوتوغرافية ومقاطع فيديو لمدينتي صنعاء وتعز خلال الشهر الذي أعقب اعلان الجمهورية في اليمن، في اكتوبر 1962.

عندما يعثر فهد على صورة جديدة، يبدأ بتفحصها واستنطاقها لكي يخرج بمعلومات تدعم عملية الأرشفة. وكما

يفعل الموثقون المحترفون، فهو يرصد كل التفاصيل. معالم المكان في الصورة ومقارنتها مع معالم المكان في الوقت الحاضر. ثم يقوم بتحديد تاريخ تقريبي لزمن الصورة غالبا ما يكون هو نفسه تاريخ التقاطها.

وثيقة توضح تاريخ سقوط منارة جامع المظفر.

لكن فهد لا يكتفي باستنتاجاته. بل يبحث على شبكة الانترنت ويعود للكتب التاريخية كما يراسل أشخاصاً يعتقد انهم يمتلكون المعلومة الأكيدة. وأحيانا قد يضطر لاستخدام تطبيق تغير التاريخ من الهجري الى الميلادي، خصوصا مع تلك الصور التي التقطت قبل ثورة سبتمبر عندما كان التاريخ الهجري هو المعتمد.

أحيانا قد يجد صعوبة في توثيق كافة معلومات الصورة. وبعض المعلومات تستغرق منه وقتا طويلا حتى يتأكد من دقتها. مثلا منارة جامع المظفر يقال إنها سقطت قبل ثلاثة أشهر من موت الامام وهناك معلومات تقول قبل شهرين، وبعد سنوات من البحث حصل على وثيقة مكتوبة بخط اليد في غلاف مصحف والد أحد اصدقائه (اسماعيل الشيخ) تذكر بالتاريخ متى سقطت المنارة.

بالنسبة للمصورين الأجانب فمعظمهم يوفرون على فهد الكثير من الجهد، فهم يكتبون على الصور التي يقومون بالتقاطها مكان وزمان الصورة وكافة المعلومات الأخرى وحتى المناسبة التي جعلتهم يتواجدون في مكان التصوير. لكن فهد عادة لا يكتفي بمصدر واحد لمعلومات الصورة، بل يحرص على ان يكون هناك أكثر من مصدر.

هذا الحرص في توثيق معلومات كل صورة بدقة، تعزز مع الاخطاء التي وقع فيها في بداياته. أحد أشهر هذه الأخطاء عندما حصل على مجموعة صور من طبيبة ألمانية. وقد جاءت هذه الطبيبة الى اليمن في عام 1982، حيث كانت تعمل في مدينة النور في مستشفى الأمراض الوبائية. وكانت توثق بعض المعالم، واحدة من الصور التي التقطتها كانت لشارع 26 سبتمبر وسط مدينة تعز؛ قالت الطبيبة الألمانية انها تعود لتاريخ 1982. لكن كثيرين كانوا يقولون له بأن هذه الصورة أقدم؛ في عام 1982 كان هناك مباني قد بنيت لكنها لا تظهر في الصورة. عندها قام بالتواصل مع الطبيبة وأخبرها ان هناك من يقول ان الصورة ربما يكون تاريخها أقدم، وقد ردت الطبيبة مؤكدة ان الصورة فعلا تاريخها أقدم وأنها تعود لزوجها الذي التقطها في عام 1977 عندما كان يعمل في نفس المستشفى التي عملت فيها في وقت لاحق. ثم بعثت له بجميع الصور التي التقطها زوجها خلال تلك الفترة ليضمها فهد إلى أرشيفه.

الحفاظ على صورة تعز من الاندثار

يشار لتعز في المصادر التاريخية بقلعة القاهرة التي تعد اليوم واحدة من أبرز المعالم التاريخية في المدينة. يعود ذلك إلى النصف الأول من القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي، عندما بادر السلطان عبد الله بن محمد الصليحي، شقيق الملك علي بن محمد الصليحي الذي حكم خلال هذه الفترة (1047-1066م) ببنائها، وعلى اثر ذلك بدأت تتشكل ملامح مدينة تعز في أحضان الجبل كحصن حربي ثم كمدينة لكونها ملتقى تجاري يربط بين مناطق شمال وجنوب اليمن([1]).

هذه النشأة سوف تتطبع تعز بطابعها، حيث ستشهد مراحل ازدهار بفعل الانتعاش التجاري والاستقرار السياسي، ومراحل ركود وانكماش بفعل الحروب والأزمات السياسية. أبرز محطات الازدهار كانت في عهد الدولة الرسولية في اليمن التي اتخذت من تعز عاصمة للدولة (1228-1454م) لتشهد ازدهارا كبيرا، حيث بُني فيها كثير مما يعد اليوم معالم تاريخية نادرة؛ كجامع المظفر، وجامع ومدرسة الأشرفية وغيرها من المعالم. أما المحطة الثانية فتعود الى ما بين عامي (1948-1962م) عندما أصبحت عاصمة للإمام أحمد حميد الدين بعد مقتل والده مؤسس المملكة المتوكلية في اليمن؛ خلال هذه الفترة توسعت المدينة وخرجت من أسوارها القديمة.

جامع المظفر بدون منارة.

ترتبط تجربة فهد الظرافي في التوثيق الفوتوغرافي، بتاريخ المدينة والقيمة التاريخية للمعالم الأثرية فيها. ما سيوضح أن الأمر ليس مجرد هواية لجمع الصور القديمة، بقدر ما هو إحساس عميق بالمسئولية تجاه التاريخ وحفظ معالم المدينة التي عندما يأتي الحديث عنها تصبح كلماته عبارة عن امتزاج للارتباط العاطفي والشعور بالأسى. فكثير من معالم المدينة كانت قد تعرضت خلال مراحل مختلفة للتدمير والخراب.

يردد دائما: “أنا لست موثقا تاريخياً ولست أكاديمياً، لكن هذه الهواية طغت”. لهذا أصبح الشغف عنده مرتبط بالأسى كلما عثر على صور او معلومات تتحدث عن معلم تاريخي اندثر. فجزء كبير من معالم تعز التاريخية اندثرت خلال الخمسين السنة الماضية.

عندما يتحدث عن هذا الأمر، يسارع الى اخفاء ملامحه باستدعاء مثال يصفه بالبسيط: “يكلمني أحدهم ان سور المدينة كان قد أصبح آيلاً للسقوط بعد ثورة 26 سبتمبر تقريبا عام 1963، وقد هدوه وبنوا بدلا عنه محلات تجارية من الباب الكبير إلى باب موسى. قالوا قده ايل للسقوط! طيب رمموه. هذا معلم. هذا تاريخ اليمن، تاريخ المدينة. أضف الى ذلك بقية السور والنوبات بنوا داخلها أسر واحفاد من كانوا حراس داخل هذه النوبات. هذا لأنه مافيش دولة. مافيش مؤسسة تختص بحماية هذه المعالم. بعكس باقي الدول التي تولي آثارها وتاريخها عناية خاصة”.

أحيانا يعثر فهد أثناء عمله على صور فوتوغرافية عمرها يقارب المائة العام. تظهر فيها معالم أثرية وتاريخية (منارة، قباب تاريخية، حمامات أثرية)، وعندما يبدأ البحث عنها في الواقع، يجد انها قد اندثرت منذ زمن.

هناك أيضا مباني قديمة تستمر عملية هدمها والبناء الحديث على أثرها. يتحسر فهد لأنه لا يوجد دولة تشتري هذه المباني وتقوم بترميمها وتحويلها الى متاحف او الحفاظ عليها كمعالم لتاريخ المدينة.

صور تستعيد إرث المدينة

في شهر أبريل من عام 2023 ستكون قد مرت ثمانية أعوام منذ اندلاع الحرب في مدينة تعز وهي الحرب التي تحولت الى حصار مطبق على المدينة من ثلاث جهات.

خلال سنوات الحرب المتواصلة تعرضت المعالم الاثرية والتاريخية في تعز لكثير من الدمار، سواء بالقصف او بالتفجيرات. فالمتحف الوطني “متحف العرضي” تعرض للقصف والحريق وانهيار بعض اجزائه، قبل أن تنهب جميع محتوياته من قبل عصابات مسلحة. كان المتحف قبل اندلاع الحرب يحتوي على “نحو 45 ألف قطعة أثرية متنوعة من الحجريات والنقوش والمخطوطات ‏والسيوف والوثائق والقطع النحاسية”([2])

شارع الجحملية الوسطى مدينة تعز بعد ثورة سبتمبر.

هذا الدمار الواسع، وغياب دور الجهات التي يقع عليها مسئولية حماية تاريخ وآثار المدينة واسترجاع ما فقد منها، يلقي بثقله على كاهل فهد الظرافي. وعندما يأتي الحديث عن المتحف الوطني ومتحف صالة في تعز (الذي كان قصراً للإمام أحمد وفيه 360 غرفة وتحول بعد ثورة سبتمبر 1962 الى متحف)، سوف تظهر عليه ملامح العجز. أما السبب فيعود إلى أن جميع القطع الاثرية التي كانت في المتحفين لا يوجد صور فوتوغرافية لها “كان ممنوع التصوير داخل المتحف؛ حتى الأجانب لما كانوا يصوروا كانوا يصوروا من خارج المتحف؛ لكن داخل المتحف ممنوع التصوير”.

غير أن العجز لا يعني اليأس. لأنه سوف يكرس بعض جهوده لجمع صور المعالم التي تضررت بفعل الحرب، وذلك حتى يكون من السهل اعادة ترميمها مستقبلا. فكثير من المعالم لحسن الحظ لها صور كثيرة التقطت في أزمنة متفرقة. عندما كانت هذه المعالم بحالة جيدة قبل ان تتعرض للقصف او التخريب بفعل الاهمال.

بات شغف فهد في تجميع الصور وتوثيقها منذ اندلاع الحرب يأخذ منحى أكثر وضوحا نحو تعز. وكأنه بات يخاف على مدينته من الاندثار ويحاول ما استطاع تحجيم الضرر الواقع عليها.

هذا التقدير العميق لمعالم تعز التاريخية سوف يقدم ملمحاً آخر عن سر اهتمامه الكبير بتوثيق تاريخ المدينة من خلال الصور. لكنه كما سيؤكد، لا يعني بذلك أنه لا يهتم بالصور التي توثق مناطق أخرى من اليمن. ففي المراحل الأولى من انخراطه في التوثيق الفوتوغرافي كان عمله يشمل كافة مناطق ومدن اليمن. ومع مرور الوقت وجد أن تاريخ مدينة تعز مهمل، لهذا قرر أن يكرس جهده للمدينة التي نشأ وترعرع فيها. وفي الأثناء عندما يعثر على صور عن أي منطقة أخرى في اليمن، يقوم على الفور بإرسالها لأشخاص أخرين يعيشون في تلك المناطق او المدن ولديهم اهتمام بالتوثيق.

مساهمات لحفظ تاريخ تعز

للتوثيق الفوتوغرافي دور كبير في الحفاظ على الهوية التاريخية لأي معلم أثري. هذا التوثيق أو ما يسمى في لغة علماء الأثار (التسجيل العلمي للأثر) يكون له الدور الأهم في أي عملية ترميم حالية أو مستقبلية. ومن الضروري ان يعتمد الترميم على المعلومات الموثقة بشكل علمي ودقيق لكي يظل المعلم محتفظا بهويته التاريخية.

 في العام 2019، أنجزت المرحلة الأولى من ترميم المتحف الوطني في تعز بدعم وتمويل من الصندوق العالمي للآثار WMF  بمنحة من المجلس البريطاني. وقد طُلب من فهد صور قديمة حتى تكون عملية الترميم بنفس النمط القديم. وقد قدم لهم الكثير من الصور، ليس فقط للمبنى الخارجي، ولكن حتى للأجزاء الداخلية: صور القمريات، المشربيات، الأبواب.

المتحف الوطني يعد واحداً من أبرز المعالم الأثرية في تعز، بُني طابقه الأول في عهد العثمانيين، وبُني الطابق الثاني في عهد الإمام يحيى حميد الدين مؤسس الدولة المتوكلية في اليمن، والطابق الثالث والرابع بعهد الإمام أحمد يحيى، وقد تم افتتاحه في عام 1967[3]. وتم بناؤه من الياجور – يصنع من الطين ثم يُحرّق – ويعتبر أول نمط صنعاني يُنقل إلى تعز، كما يتميز المتحف بالقمريات الملونة والمشربيات الخشبية المزخرفة، والزخارف ذات اللون الأبيض (الجصّ)، التي تحيط بجداره من الخارج، وأيضًا الأبواب المنحوتة، ويحتوي المتحف على 45 غرفة([4]).

ساهم فهد أيضا في تقديم صور عند ترميم قبة الحسينية وعند ترميم الحمامات القديمة جوار جامع المظفر. وهناك مساعي لإعادة ترميم بعض المنازل القديمة في المدينة وقد طلب من فهد ان يمدهم بالصور المتوفرة في أرشيفه لهذه المنازل.

بوابة المتحف الوطني بعد ثورة سبتمبر (قصر العرضي سابقا) تصوير أحمد عمر العبسي.

تعد هذه المساهمات بالنسبة لفهد تأكيدا على أن ما يقوم به يستحق العناء ويعطيه دفعة لكي يواصل، بل يمكن المجازفة والقول من خلال قراءة ملامحه وهو يتحدث بسرور عن هذه المساهمات أن تلك الجهات التي طلبت الصور من أجل إعادة ترميم بعض المعالم الأثرية في تعز هي من قدمت خدمة جليلة له وليس العكس.

وبالطبع ليس هذا مصدر الفرح الوحيد في مسيرة فهد، فهناك باحثين كثر يستعينون بأرشيفه لإنجاز ابحاثهم عندما تكون موضوعاتهم الدولة الرسولية أو قلعة القاهرة أو جامع المظفر. أحد هؤلاء الباحثين مهندسة يمنية مقيمة في مصر، موضوع بحثها عن تصميم جامع الأشرفية، أيضا باحثة من عدن أسمها امة الرحمن العفوري مهتمة بتاريخ الأديان.

لا يقتصر الأمر على الباحثين اليمنيين، بل هناك باحثين عرب يتواصلون مع فهد ويستعينون بأرشيفه، لتوثيق أبحاثهم بالصور أو لكي ينجزوا ابحاثهم بالاعتماد عليها، أحد هؤلاء باحثة عراقية كانت تعمل على رسالة دكتوراه عن الدولة الرسولية. تواصلت معه عبر فيس بوك فمدها بكثير من الصور التاريخية لمدينة تعز. المدارس والجوامع التي تعود للدولة الرسولية. وقد حصلت هذه الباحثة على الدكتوراه بتقدير ممتاز وهي لم تزر تعز.

 يشعر فهد بالسعادة الغامرة عندما يتعاون مع آخرين. وعلى عكس السمة شبه السائدة في الأوساط الثقافية حيث الاحتكار سيد الموقف. يقول: هذه صور ليست لي، أنا اجمعها فقط، ومن حق الجميع ان يحصل عليها ويستفيد منها لأن هذا هو هدفي من عملية جمعها”.

عقبات ومشاريع مستقبلية

رغم مهاراته إلا أن الشكل الذي يظهر فيه عمل فهد الظرافي للناس، لا يزال ينحصر في منشورات على صفحته في فيس بوك أو في المجموعات المهتمة بالصور التاريخية. يقوم بكتابة بعض تفاصيل الصورة او الألبوم ونشرها. غير أن هذا لا يناسب طموحه وطبيعة المشروع الذي يعمل عليه.   

لدى فهد مشروع كتاب بعنوان: ذكريات تعز في صورة. يريده أن يكون شبيها بكتاب الرحالة الألماني هارتمان الذي قامت سفارة بلاده بإصدار كتاب يوثق ثلاث رحلاته الثلاث الى اليمن، حيث هناك معلومات كاملة عن كل صورة[5].

اندفع فهد نحو التوثيق بفعل الشغف ثم تعزز ذلك بفعل السياق العام. لكن السياق العام ذاته لا يكتمل ولا يوفر مساحات وفرص كافية لتطوير وازدهار مثل هذه المشاريع. يمضي وقت طويل دون ان يتخلق واقع يسمح في التطوير والانتقال الى مرحلة تالية؛ لا وجود لمؤسسات داعمة؛ كما ان ثقافة العمل المشترك في اليمن شبه منعدمة. حتى أولئك الذين لديهم نفس الاهتمام نادرا ما يتجمعون في مشروع مؤسسي يسمح بازدهار الجهد وتحقق الهدف الذي يعملون لأجله؛ على سبيل المثال انشأت المؤسسة العربية للصورة في بيروت من قبل موثقين وباحثين قبل نحو عشرين عاما؛ واعتمدت على الأرشيفات الشخصية للأسر بهدف اعادة قرأتها وانتاج أبحاث ومواد فنية بالاعتماد عليها.

بينما في اليمن لا يوجد مؤسسات من هذا النوع. بل لا يوجد جهات تؤمن بهذا النوع من العمل ويمكنها التعاون مع هذه المؤسسات والاستفادة من خبراتها المتراكمة. والأمر لا يشمل فقط التوثيق الفوتوغرافي، بل يكاد يشمل كافة المواضيع المرتبطة بالتاريخ والفن والثقافة.

هناك كثير من المشاريع تظهر من خلال أفراد، لكنها لا تتطور لتأخذ الشكل المؤسسي؛ أحد هؤلاء الذين ينشطون بجهد ذاتي هو صلاح النهمي، حيث يقوم بجمع صور أثار اليمن من مصادر مختلفة من خلال عملية تتبع دقيقة ثم إعادة نشر هذه الصور على صفحته في فيس بوك.

مثل هذا الجهد يمكن أن يلهم إنشاء متحف الكتروني لتوثيق وجمع كافة الاثار اليمنية والاستعانة بخبراء في هذا المجال؛ بالطبع جمع صور هذه الاثار والمعلومات الرئيسية عنها وأماكن تواجدها وما ان كانت داخل اليمن او خارجها، وفي حال كان مكانها غير معروف يظل من المهم توثيقها خلال هذه المرحلة على أمل العثور عليها مستقبلا واستعادتها.

ومن الطبيعي أن يبرز اشخاص في الظروف غير الاعتيادية ليقوموا بدور المؤسسات. يحدث هذا لأن السياق العام يدفعهم لذلك. يقول صلاح النهمي عن جهوده في تتبع الاثار اليمنية، أن الامر “يعود الى كوننا في مرحلة نعاني فيها من اضطراب الهوية”.

لهذا تتزايد هذه المبادرات؛ فهناك مثلا من بدأ يهتم بجمع الكتب التي تتحدث عن اليمن وتصويرها بصيغة بي دي أف ورفعها على الانترنت، لسد فجوة عدم توفر كتب عن اليمن، بينما قام أحد الأشخاص بجهود ذاتية قام برفع قرابة ألف كتاب.

من احتفال الامام يحيى بعيد الجلوس. أرشيف القنصل الألماني.

هناك أيضا من آخذ يهتم بجمع وتوثيق الأغنية اليمنية. كما بدأ النقاش يتصاعد حول اهمية توثيق الموروث الشعبي من أهازيج واغاني شعبية واغاني الزراعة وكل ما له علاقة بالتراث اللامادي.

لكن هذه الجهود لا تزال بحاجة الى مأسسة. لأن الجهود الفردية مهما بلغت من مستوى تبقى جهود فردية متوقفة على الشخص الذي يقوم بها والظروف التي يواجهها، بينما العمل المؤسسي يمكن البناء عليه وبوسعه ان يخدم الهدف العام بشكل أفضل.

من الممكن ان تبدأ هذه الأشكال المؤسسية المأمولة من أبسط شكل ممكن بالاعتماد على الجهود الجماعية بالنسبة لأولئك الذين لديهم نفس الاهتمام. صحيح ان الثقافة المؤسسية في اليمن لا تزال تعلي من شأن الفردية على حساب العمل الجماعي لكن يبقى الامر مرهونا بأن يتعمق الإيمان بمثل هذه الانشطة حتى يصبح الأهم هو تحقيق الهدف العام المشترك بعيدا عن أي أهداف شخصية.

بالنسبة لفهد الظرافي حتى قبل ان يأخذ عمله في التوثيق الفوتوغرافي الشكل المؤسسي، فهو منفتح على التعاون مع أي شخص او جهة؛ دائما يردد ان هذه الصور التي يجمعها ملك الجميع. لأنها ليست صوره ولكنها صور قام بالتقاطها اناس اخرين ومثلما حصل عليها واستفاد منها يمكن للآخرين ان يفعلوا ذلك. ومن هذا المنطلق كان تعاونه مع الباحثين والجهات التي ترغب في ترميم المعالم الأثرية كما يخطط للتعاون مع المصورين الجدد من خلال التقاط صور لبعض المعالم من نفس الزاوية التي التقطت فيها الصور القديمة.


[1])) فيصل سعيد فارع، “تعز فرادة المكان وعظمة التاريخ”، مؤسسة السعيد للعلوم والثقافة – تعز 2012، ص 15.

[2])) آثار تعز.. تاريخ اليمن المتسرب بين ثلاثية: الحرب والتهريب والإهمال، يمن شباب، 12 سبتمبر/ ايلول 2020، https://yemenshabab.net/reports/59531

[3] https://amakn.net/%D9%85%D8%AA%D8%AD%D9%81-%D8%AA%D8%B9%D8%B2-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B7%D9%86%D9%8A/

[4])) شهاب العفيف، “عوامل التعرية والحرب “تنخل” معالم تعز”، خيوط، 9 أكتوبر/ تشرين الأول 2020، https://www.khuyut.com/blog/taiz-museum

[5] أحد ألبومات الرحالة هارتمان المتاحة: https://www.facebook.com/media/set/?set=a.536077049791193&type=3

هذا المقال بدعم من

اظهر المزيد

وسام محمد

كاتب وصحفي وباحث في مجال السياسات العامة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى