ثقافة
أخر الأخبار

أفتيك من بازل.. قراءة تحليلية في اللغز الشعبي الشعري

This post is also available in: English (الإنجليزية)

يحضر اللغز ضمن الفنون الشفاهية الشعبية ويعد وسيلة تعليمية ورياضة ذهنية ترفيهية ذات أبعاد ثقافية ومعرفية متنوعة. إنه أحد أشكال الفلكلور التي تكشف الكثير عن النظام الإدراكي لدى الجماعة ذات الثقافة الواحدة.

منذ القدم كانت الألغاز جزءًا من الموروث في الثقافات المحلية، فهي شكل تقليدي ذو قيمة ثقافية، كما أن أشكال الفلكلور الأخرى كالأسطورة والحكاية الشعبية قد تضمنت ألغازًا كجزء محوري في بنيتها الحكائية، ويتفاعل اللغز مع المثل والنكتة الشعبية في التمثيل الرمزي والدور الوظيفي أحيانًا، ومن الواضح أن اللغز هو أقل أجناس الأدب الشعبي حظاً من حيث التوثيق والدراسة؛ إذ لا تتوفر دراسات وافية حول اللغز في ثقافتنا الشعبية حتى الآن.

قال ابن الأثير الجزري في تعريف الأحاجي – أي الألغاز -: “وهي الأغاليط من الكلام، وتسمى الألغاز: جمع لغز، وهو الطريق الذي يلتوي ويُشكل على سالكه وقيل جمع لَغز بفتح اللام وهو ميلك بالشيء عن وجهه وقد يسمى هذا النوع أيضاً المُعَمَّى وهو يشتبه بالكناية تارة وبالتعريض أخرى ويشتبه أيضاً بالمغالطات المعنوية..”[1]

يختلف اسم الأحجية الشعبية في اليمن بحسب اختلاف اللهجات المحلية فهي ‘حزية’، ‘حزوية’و’حزوة’، محزاية’ وجمعها “محازي”،’محزاة’ و’حزاية’، ومنها الفعل ‘يحزي’ أي يحزر ويقال أيضًا عن الكلام المُبهم ‘حُزا’ كناية عن عدم الوضوح. غالبًا هناك مطلع شائع يُفتتح به اللغز غرضه لفت انتباه المستمع مثل: ‘يا حاز بحزيك..يا حزا’، ‘احزيش’،’احزى لي على …’،وأحزيك من ” .كلمة ‘أحزيك’ تعني بالعامية إحزر لكنها هنا فعل متعدٍ التصق بضمير المخاطب.

وإذا كانت كلمة أحجية أكثر تخصيصًا من كلمة لغز لأنها تشير إلى شكل معين من الألغاز، فإن كلمة لغز أكثر شيوعاً، وهي في هذا المقال تعني تحديدًا اللغز الشعبي.

الإطار المنهجي لدراسة اللغز الشعبي 

يتخذ اللغز واحدًا من ثلاثة أشكال فهو إما نثري أو مسجوع أي منظوم سجعاً وإما شعري. وقد تعددت الدراسات التي سعت لتعريف وتحليل اللغز الشعبي يمكن إجمالها في ثلاث اتجاهات رئيسية، الأول: يهتم ببنية اللغز سواءً من الجانب النحوي أو من جانب الوحدات المضمونية، أما الاتجاه الثاني: فقد اهتم بالجوانب المعرفية للغز كالوظيفة السيكولوجية والسوسيولوجية والعقلية ضمن سياق أدائي مُعين، والاتجاه الثالث: يركز على الجانب اللغوي للغز، أي على دراسته بوصفه فعلا لغوياً.[2]

من خلال تحليل المكونات الأساسية للغز بوصفه رسالة لغوية حُدِدت خمسة مكونات: 1)جلسة اللغزriddle session أي المناسبة أو الموقف الذي يتم فيه عرض اللغز و تمثل السياق الأدائي للغز 2)فعل التلغيزriddling و هي العملية التي يتحول فيها منطوق ما إلى لغز ولها مستويين: الأول لغوي والثاني ثقافي، ولهذه العملية استراتيجياتها التي سيأتي ذكرها لاحقاً 3) اللاغز، الصفة هنا مأخوذة من البردوني’  riddlerأي الشخص الذي يُلقي/يُنتج اللغز[3] ، 4)المُلغز له riddlee  أي الشخص الذي يستقبل اللغز وعليه إعطاء الحل 5) التعمية  block وهي الأثر الذي يحدثه اللغز نتيجة غياب الحل و يتوقف مع التوصل الى الجواب من قبل المُلغز له أو كشف اللاغز للجواب[4].

من ناحية أخرى، يصف باحثو الفلكلور خمسة عناصر في الشكل البنائي للغز، هي :1) الإطار الافتتاحي للغز مثل العبارات الاستهلالية للغز، 2) المكون الاسمي؛ أي الدوال المذكورة داخل منطوق اللغز، 3) المكوِّن الوصفي الذي يقدمه اللغز ويحتوي على نوع من التعارض، 4) المكوِّن المشتت أو التعمية، 5) الإطار الختامي.[5]

بالنسبة للتحليل المعرفي للغز، تعتبر الألغاز مفاتيح لفهم الوسائل التي تتبعها ثقافة ما لتنظيم إدراكاتها لذلك تمثل عملية التلغيز جدلاً معرفياً، إضافة إلى أن اللغز فعل رمزي يجسد ويقترح استراتيجيات لمواجهة المشكلات والمواقف العويصة، وهدف كل دراسات الفعل الرمزي هو اكتشاف تلك الأنساق الأساسية التي تُختزل في كثير من مجالات النشاط [6].

العمل الفني لراوية العتواني

وتبعا لعلم النفس الادراكي يتضمن اللغز صيغة جشتالت[7] تُولدها الكيفية التي يقوم عليها التلاؤم بين وصف اللغز والشيء المحال إليه.[8]


من ألغازنا الشعبية

 

هنا نماذج من ألغاز شعبية نثرية ومسجوعة، ولا يفوت القارئ الكريم مراعاة اللغة المحكية في كل الألغاز الواردة في هذا المقال.

– لغز: يحمل أكبر الأوزان وما يحمل مسمار (البحر)

-لغز: أسود من الليل وأسرع من الخيل إذا شافه ‘رآه’ المسلم كَفر. (الكَفَر: إطار السيارة)

يستخدم هذا اللغز الأخير الجناس بين كلمتي كفر: أي خرج عن الِدين، وكَفَر: المفردة العامية التي تعني إطار السيارة. الغموض الذي قام عليه هذا اللغز هو غموض صوتي عن طريق وجود مفردتين مختلفتين في المعنى، غير أنهما متطابقتان صوتيا؛ وهو ما يتسبب في حالة من الالتباس لدى المتلقي.

-لغز: عبدعبدالدين طلع النَجدين معه إلوف لايِعَتديِن.

يبدأ اللغز بذكر اسم عَلَم بطريقة غريبة “عبد عبدالدين” لجذب انتباه المستمع، ثم يصف أن هذا الشخص صعد مُرتفعين ‘طلع النجدين’ وبمعيته ألوف كثيرة العدد ‘لا يعتدين’، مبالغة وكناية عن الكثرة الكبيرة كما هو معروف، والحل هو ‘الحُلِيلبان’ وهو الاسم العامي للدودة الألفية “ذات الألف رجل’. شخصنة الحيوان -هنا-وسيلة لتضليل المستمع.

بعض الألغاز لها سياقها الخاص الذي يمتزج بالنكتة وتسمى ‘اللغز النكتة’ وقد يستبعده البعض من المفهوم الفعلي للغز لأنه يحاكي اللغز وأن كان يشبه اللغز في توليد الغموض[9] مثل:

شي كما شيشو و الماء على ريشو، عيونو عيون بيبي،يا ناس مو هذا، يا ناس فَجَعّني (السمك).من الواضح أن هذا اللغز موجه للأطفال؛ فالعبارة مجهولة المعنى ‘كما شيشو’ وظيفتها صوتية لخلق جرس صوتي، كما أن كلمة ‘بيبي’ تستخدم فقط مع الأطفال: و تعني وحش أو أي كائن مخيف. ولإضفاء عنصر درامي إلى اللغز جاءت العبارة المكررة ‘يا ناس’ لأنها قد تفيد الاستنجاد، وأيضاً التساؤل النابع عن حيرة شديدة، أما كلمة ‘فجعني’ التي تعني أخافني، فتعزز دلالة كلمة ‘بيبي’ للإيغال في تصوير غرائبية هذا الكائن.

-لغز: طاسة طرن طاسة، بالبحر غطّاسة (الشمس عند غروبها في الأفق على البحر).

يبدو من الكلمة المجهولة المعنى ‘طرن’- التي ربما كانت كلمة ‘ترن’ لأن ‘الطاسة’ المعدنية غالبا لها رنين- أن المطلوب تأثير صوتي أضيف إليه السجع بحيث يُضلل السامع ليعتقد أن الحل متُضمن في حقل دلالي هو في الحقيقة بعيد عن الحل المنشود. إضافة الى أن الصورة المجازية التي يرسمها اللغز بعيدة كثيرًا عن الصورة الحقيقية للشمس. إن من طبيعة اللغز أن ينتهك البنية الصوتية والمعجمية للغة؛ ولذلك ليس غريبا أن تحتوي بعض الألغاز على منطوقات تبدو كأنها زلات لسان.

 -لغز: يَدّك على بطنه وظهره على بطنك (آلة العود) من الملاحظ في هذا اللغز استخدام حيلة بارعة في تشتيت انتباه المتلقي تتمثل في الإيحاء الجسدي الذي يقود التفكير إلى فضاء دلالي مغاير تمامًا عما يعنيه اللغز، كما أن ضمير المُخاطب يُوهم المتلقي أن هذا الشيء يمسّه شخصيًا.

-لغز: تدخل وهو ‘يُوزخك’ وتخرج وهو ‘يوزخك’ (معلق أو مشجب الملابس).

 الألفاظ ‘يوزخ، يمّنع، يخّطف’ هي ألفاظ مختلفة تدل على فعل واحد هو رفع الكف أمام وجه شخص آخر، ثم ثني الأصبع الوسطى إلى الأمام: وهي إشارة تُعبر عن الاستهجان. وعادة ما يثبّت في البيوت اليمنية قضيب حديدي أو مِشجب معدني برأس واحد أو عدة رؤوس على الجدار، غالبًا يُوضع مقابل باب الغرفة أو جوارها. يدور اللغز حول الشيء الذي في الغرفة ويشبه أصبعًا بارزة ويُوجه لك إشارة استهجان. يبدو واضحًا في اللغز اختلاق غموض كبير، ومن الملاحظ أن اللغز يبدأ بفعل مُخاطب لاستفزاز المتلقي.

-لغز: دجاجة بيضاء باضه ‘باضت’ بيضة بيضاء بجبا ‘سطح’ جامع أبيض.

(قبة الجامع) التي غالبًا تكون بيضاء اللون؛ لأنها مطلية بالجص، فالمساجد عمومًا كانت بيضاء في مظهرها الخارجي. السجع المُفرط في اللغز إلى جانب الصورة الفانتازية لدجاجة هائلة لها بيضة كبيرة الحجم تُوحي بأن اللغز فكاهي بالدرجة الأولى. الغموض -هنا – هو غموض صوتي يقوم على تكرار اشتقاقات اللون الأبيض، فاللغز – من الناحية اللغوية – قد يحمل واحدا من ثلاثة أشكال من الغموض: على مستوى الصوت، وعلى مستوى تركيب الكلمة، وعلى مستوى تركيب الجملة[10].

-لغز: حرقسة برقسة بالقاع ‘على الارض’ متقربسة ‘رابضة’. (مَوقِد الفحم)

الكلمتان الواردتان في بداية اللغز تبدوان بلا معنى سوى إيجاد جرس موسيقي، والتوصيف هنا واسع جدا لأنه يُقدم صفة واحدة فقط للشيء هي ثباته على الأرض، وهنا قد يؤدي اعتياد المتلقي في معرفة الوحدات المضمونية للألغاز إلى حصر إطار الاحالة قدر الامكان.

-لغز: من السلطحانة للبلطحانة للدردبوش. هذه ثلاثة أسماء يبدو أنها بلا معنى والمقصود بها: من اليد للفم للبطن. هذا اللغز يندرج تحت صنف “اللغز المأزق neck riddle” وهو اللغز الذي يتطلب حله معرفة خاصة متعارف عليها في مكان انتاج اللغز؛ أي أن الغموض في اللغز ذو خصوصية ثقافية[11]

-لغز: بحه بحابح،,كلبه تذابح، ,سويدان يركب، , شداد يلعب .

السجع هو أحد الأشكال التي يتخذها اللغز حيث يؤدي وظيفة لغوية ودلالية، وفي اللغز السابق يستخدم الوصف المشهدي لتعجيز المتلقي؛ إذ يتكون اللغز من أربعة مقاطع صغيرة مسجوعة كل مقطع يرسم صورة، ولا تكتمل الصورة إلا بفهم جميع الأجزاء. المقطع الأول يقدم غموضا صوتياً، أما الثاني فهو استعاري، والثالث والرابع فيهما تشخيص وإحالة إلى أسماء علم. ومقصود اللغز بحة بحابح ” التنور الطيني الذي يستخدم الخشب والفحم للوقود”، كلبة تنابح: هي نار التنور وهي تصدر صوتا، سويدان يركب: القصيص وهو إناء فخاري كبير يوضع على النار لطبخ الطعام، شداد يلعب: المجحي وهو عصا خشبية تستخدم لتحريك الطعام والذي يلعب “يتحرك” داخل القصيص من شدة الحرارة.

غرض اللغز هو خلق غموض، والغموض في اللغز نوعان: غموض صوتي(معجمي) وفيه يظهر مدخلان معجميان مختلفان لهما شكلان صوتيان متماثلان وغموض دلالي. ينتج الغموض من التماثل السطحي لبنيتين مضمرتين مختلفتين[12].

-لغز: شي يجري وأمغاله ‘أمعائه’ بعده. (إبرة الخياطة)

الاستعارة هي أهم الأساليب البلاغية التي يتم توظيفها في اللغز، “واللغز في جوهره استعارة، والاستعارة تنشأ نتيجة التقدم العقلي في إدراك الترابط والمقارنة وإدراك أوجه الشبه والاختلاف، على أن اللغز فضلاً عن ذلك يحتوي على عنصر الفكاهة التي تنجم عن احتواء اللغز لعنصر المفاجأة.”[13]

عادة في جلسات تبادل الألغاز وبعد إن يعجز المتلقي عن الاجابة ويريد معرفة الحل، يُطرح عليه السؤال الفكاهي:

تتحمل الشيخ ذارق… وقره بشامق؟

معنى ذلك هل ستحمل عبء الشيخ ذارق الذي ينوء بِحمل ‘وقره’ أحذية بالية ‘بشامق’، والشيخ ذارق شخصية ترد في المثل الشعبي القائل ‘حّملني الشيخ ذارق’ ويُضرب لمن تّحمل عبئًا ثقيلا بلا فائدة. إنه استفهام بلاغي غرضه التندر على من عجز عن حمل اللغز بغموضه الثقيل.

العمل الفني لراوية العتواني

البازل..فن اللغز الشعري 

في اليمن يتم تداول اللغز الشعري في أكثر من منطقة و خصوصًا  بعض مناطق وسط اليمن وأجزاء من جنوبه وتحديدًا شمال إب والبيضاء وذمار ويافع وشبوة ويزدهر فن كتابة اللغز الشعري و يتجاور بل وأحيانًا يندمج مع أشعار الزوامل في المناطق التي لا يزال يَروج فيها الشعر الشعبي إنتاجاً وتلقيا كما يحضر اللغز ضمن حلقات “الباله”[14]  حيث يتبادل الشعراء الألغاز و حلها شعرا في سياق سجالي  بين من  يبدأ بطرح اللغز شعريا و تسمى ابياته ‘البدء’ أو ‘البِدع’ كما يقال في اللغة المحكية ،ومن يجيب عن اللغز واصفا الشيء المقصود في اللغز بأبيات شعرية تسمى “الجواب”.

 في هذا السياق، تتنوع مسميات اللغز الشعري بحسب المنطقة بين ‘لغز’ و’محزاة’ و’بازل’ وهذه الأخيرة هي كلمة تعني اصطلاحاً شيئين متداخلين في المضمون: الأول هو اسم مخصوص للغز المصاغ في قالب شعري، والثاني هو موضوع اللغز خاصة إذا كان مذكرا، فاللغز، كفن شعري، اسمه بازل والشيء موضوع اللغز له نفس الاسم.

المعنى الحرفي لكلمة بازل هو طائر الباز الجارح الشبيه بالصقر وهي كلمة عربية فصحى ورغم أن معاجم اللغة العربية تبين أن معنى كلمة بازل هو الجمل الذي بانت أنيابه فإن اللفظة لا تحمل هذ المعنى في اللغة المحكية[15]، لكن الكلمة أخذت معنى اصطلاحيا يشير إلى اللغز المصاغ شعرًا، وأيضًا يشير إلى الشيء موضوع اللغز إذا كان مذكرًا.

تمثل حلقات ‘الباله’ سياقا أدائيا لتداول البازل (جلسة اللغز بحسب التوصيف البحثي)، لكن في المناطق التي لا يوجد فيها فن الباله يختلف قليلا أسلوب أداء اللغز، مع بقاء العناصر الشكلية لجلسة الباله /البازل واحدة. يأخذ تداول البازل شكلا آخر غير المعاجزة الشعرية القصدية وهو الشكل العَرَضي الذي يتم في المقايل والأسمار؛وقد يكون اللغز لشاعر شعبي أو لا يُعرف قائلها ربما بسبب القدم أو التناقل الشفاهي. و يمكن هنا الاستئناس بالنموذج الذي قدمه البردوني؛ إذ قام بتصنيف الألغاز مضمونيا إلى ثلاثة أصناف: 1) معاجزة شعرية كما في حلقة الباله /البازل 2)محازاة غرضها التسلية، 3) اسمارية مقائلية و قد يكون فيها اللغز منظوما أو على شكل حكاية[16]. هذا؛ مع ملاحظة أن هذه الأصناف قد تتداخل بحسب السياق الاجتماعي. علاوة على أنه قد طرأ عليها الكثير من التغير لاندثار جلسات اللغز التقليدية لصالح وسائل التواصل الالكترونية التي أتاحت وسيطًا جديدًا لتبادل الألغاز، ونقلته من الطور الشفاهي المباشر إلى الطور الكتابي التفاعلي.

 في الغالب يقع البازل في بيتين إلى خمسة أبيات شعرية أو أكثر. ويهتم الشعراء الشعبيون في المناطق التي اشتهر فيها، بتأليف وتدوين البازل وتحدي الشعراء الآخرين في التوصل إلى الحل، ومن ثم صياغته شعرا ضمن النسق التواصلي السالف الِذكر’الِبدع -الجواب”. وأحيانا يدمج الشاعر البازل ضمن زامل فيذكر البازل في السياق الافتتاحي للزامل قبل عرض فكرته التي كُتِب الزامل لأجلها. يبدأ البازل عادة بالمطلع الشهير ‘أفتيك من بازل’ أو ‘أحزيك من بازل’ أو ‘أحزيك من شي’، ويعني ‘إحزر عن شىء…’ وبه يلفت انتباه القائل أو الشاعر المستمع إلى أن ما سيسمعه هو لغز وكلمة “أفتيك” لها أصل من الفعل ‘أفتى’، يقال أفتى في المسألة أي أبان الحكم فيها[17]

أما إذا كان الشيء موضوع اللغز مؤنثأً فقد يُستهل اللغز بعبارات مثل ‘أفتيك من بَكرة’ والبَكرة هي صغيرة الجمل، أو ‘أفتيك من عذراء’، أو ‘أفتيك من بنت’.

يعتمد اللغز عمومًا، واللغز الشعري خاصةً، استراتيجيات تلغيز تأخذ شكلاً لغويًا أولياً يتمثل في التوظيف الفني للمستويات الصوتية والصرفية والتركيبية[18]  وشكلاً سياقيًا ثقافيًا ثانويًا، وبالطبع فإن غرض التلغيز هو إضفاء أكبر قدر من الغموض وإظهار القدرة في اللعب البارع بالدلالات. ينتج التلغيز من التطابق الظاهري لبنيتين مضمرتين مختلفتين، ومن جهة اخرى ينتج التلغيز بشكله السياقي المتمازج مع الشكل اللغوي من حقيقة أنه خلال فعل التلغيز لا يعي المُلغز له طائفة محددة من المعلومات التي يقوم عليها مجاز اللغز، وبينما يتشارك مجتمع اللغز معلومات متعارف عليها سائدة ثقافيا، فإنَّ المُلغز له لا يعي فورا سياق اللغز، فالمنافسة التلغيزية تتطلب الكثير من الذكاء لتوليد الإرباك[19].

العمل الفني لراوية العتواني 

بوازل شبوة 

تزخر شبوة بتراث شفاهي غزير يتمثل في الشعر الشعبي الذي يعد اللغز أحد أغراضه الشائعة. وهنا نتعرف على بعض النماذج.

لغز:

بأحزيك من بنت قد غطت ع بنت البلد /الميم رأس البنت يا بو محسنة/والسين فضلها ع كم من ولد/والشين لبّسها ملابس ثانية/واللام يُمحى الشين فيها لا ورد.

(الحل: الشاي)

يقدم اللغز الحروف الأولى لأسماء أربعة أشياء بحيث تكتمل الصورة بمعرفة كلماتها. يوصف الشيء بأنه بنت ثم يتدرج بناء الصورة فالميم هو الماء، والسين هو السكر، أما الشين فهو الشاي واللام اللبن الذي يضاف. بدأ اللغز بإظهار تفوق الشيء ‘البنت/الشاي’ على ‘بنت البلد’؛ أي القهوة كونها المشروب المحلي الأول. هذا التركيب المتصاعد للصورة المجازية يُعقد حل اللغز.

في البازل التالي، يمكن ملاحظة كيف يمكن لعنصر “التعمية” أن يكون ناتجا عن التركيب النحوي للبازل، فالشيفرة اللغوية وليست الرسالة في ذاتها هي المحور المركزي للبازل:

يا حازِ بإحزيك من عِدة وهم واحد

ورايهم رأي واحد والهدف هو هوه

أعداد شي منهم حياً وشي جامد

وأمرهم بيد ربي والمُصَرِف هوه

يجون في اسبوع من الاحد لا الاحد

ولا تعل المقرب منهم من هوه.

(الحل: أسباب الموت)

في البازل السابق يتلاعب التركيب النحوي بالمتلقي سواء عن طريق تضليله بالإحالة في الضمير ‘هوه’ أو عن طريق التلاعب بالموافقة بين المفرد والجمع، وفي كل سطر تقريبا أداة جر ‘من’ والتي تربك المتلقي في تحديد المسند و المسند إليه داخل الجملة. الواضح هنا أن الشاعر يشير إلى البيت المعروف: من لم يمت بالسيف مات بغيره  .. تعددت الأسباب والموت واحد.

لغز للشاعر محمد القادري:

وإيش الثلاث البيض ذي يحمنك

من طعنة الجاهل ومن طعنة الظهر

يشوفن عيوبك بس ما قالن لك

ما ينقلن الاسرار بالسر والجهر

(الحل: مرايا السيارة الثلاث، مرآتان جانبيتان ومرآة أمامية)

يسمح اللغز للجماعة الثقافية بأداء تجارب على مبادئ النظام، فهو يكشف بعض المبادئ التي تكتنف التصنيف في الفعل الاجتماعي والمعرفي، وهو يستطيع الإشارة الى الدور الذي يلعبه الغموض في عملية التصنيف.

وكما رأينا في اللغز السابق، يدفع عنصر” التعمية” بالتأويل نحو أطر إحالة frames of reference مختلفة في وقت واحد، وهي أطر منفصلة بطبيعتها لكن التعمية تجعلها تتقارب[20].

 يعد الغموض ‘ملائمة دلالية’ بين الدال داخل اللغز والمدلول المتضمن في الجواب، ولكن من طبيعة هذه الملائمة أنها تتملص من محاولات التحرير فهي تصر على البقاء غامضة. إن الاستعارة المستخدمة داخل البازل تحوي عنصرا غامضا ولذلك فهي عرضة لأكثر من تفسير متعارف عليه. من جانب المتلقي، يقدم التعرف على العنصر الغامض في الاستعارة الواردة في البازل وما يتبع ذلك من حل بصيرة جديدة ونوعا من الإحجام ازاء ما انكشف له[21].

 كما نرى في اللغز التالي للشاعر سالم لنجف:

باحزيك من محسوب الاول في إخوته

من ضمنهم في كل وادي له مسير

إذا تقدم ما يلامس فرقته

ويندمج معهم إذا كان الأخير

(الحل حرف الألف)

الملائمة الدلالية بين الشيء وحرف الألف تتضح بعد معرفة الحل وخلال ذلك يبقى إطار الإحالة غامضا.

هنا قصيدة بدع ” بدء” للشاعر سالم لنجف المرزقي:

بأحزيك من آكلة تاكل ولاتشبع/باتخرب البيت لا ناموا وهي هامل/صامت من اللحم مرة يا فطين اسمع/في اليوم ذاك تغير وصفها كامل.

يحتوي “البدع ” على اللغز وهو هنا مركب لأن المطلوب، أولا، معرفة “الآكلة “، وبعد المكون الاسمي يبدأ المكون الوصفي الذي يورد صفات الشىء، وكان المطلوب، ثانيا، معرفة المناسبة التي صامت فيها هذة الآكلة عن الأكل.

يأتي الجواب من الشاعر ناصر حربوش المرزقي :

محزاتك النار لا قد ضوها ولع/تقضي على ما حواليها قضاء شامل

صامت بأمر الذي له كل شي يركع/ذي لاقضى بالعمل مايظلم العامل

من لحم طاهر حماه الله وتشفع/له من حماها وقال القادر الكامل

كوني سلاماً على ابراهيم لايفزع/وتحولت من حَمى لا برد متكامل.

يأتي الجواب على نفس القافية ويقوم بتوضيح الحل على نفس المنوال المتدرج فالآكلة: هي النار، وقد صامت عن إحراق النبي إبراهيم، كما في القصة المذكورة في القرآن “يا نار كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم” (69، الأنبياء).

لغز:

انا بإحزيك من بازل ملثم

يغوص الماء ولا يطلق لثامه

وكم من بير فيها قد تِحَمّم

ويبكي دم لو انهارت عظامه

الحل: كيس الشاي ‘المعروف محليا لبتون نسبة لماركة شاي شهيرة’.

غالبا لا يبدو البازل تساؤلاً بل يكون خبريًا. فالبازل هو استفهام مفاهيمي؛ سواء كان التساؤل ظاهرا على البنية السطحية أم لا. وهنا تظهر أهمية المطلع الاستهلالي ‘الإطار الافتتاحي’ كبديل لصيغ الاستفهام المألوفة في تهيئة السياق لطرح البازل. فالبازل هو، في المقام الأول، فعل كلامي مباشر محكوم بالسياق الذي يحدد وظيفته. في البازل السابق يظهر المكون الاسِمي ‘بازل ملثم’، وهنا بداية التلغيز؛ فالبازل ‘أي الشيء المُذكر’ ملثم وهي غالبًا صفة للأنثى. بعد ذلك يستمر البازل في تقديم المُكوِّن الوصفي وسرد صفات ملازمة للشيء، ويتصاعد التلغيز حتى الصورة الأخيرة المتمثلة في الدم النازف، وهي الصورة المُشتتة أو عنصر التعمية حتى يتضح أن الحل: هو كيس الشاي الذي نضعه في الماء الحار فيبدأ تدريجيا بإكساب الماء اللون الأحمر؛ ‘يبكي دم’. وهو تعبير عامي شائع للدلالة عن الحزن البالغ، ويوظفه الشاعر، هنا ضمن، أساليبه الفنية في تلغيز البازل.

العمل الفني لراوية العتواني

النسق التواصلي للرسالة /اللغز المتمثل في ثنائية ‘البدع’ البدء و ‘الجواب’ الرد يماثله نسق آخر ثنائي في حالة تفاعل/تعارض؛ فالبازل يولد حالة توتير أو شد، غرضها إرباك المتلقي بالغموض، يقابلها حالة استجابة أو انفراج عند التوصل إلى الحل. لذلك يرى باحثو الفلكلور أن هذه الحالة تشابه البناء الدرامي التصاعدي الذي يقوم عليه مبدأ التطهير عند أرسطو، وهو مبدأ مهم في تحليل كثير من أفعال التواصل الرمزي[22].

البازل في ذمار

ضمن مناطق وسط اليمن المشهورة بفن اللغز الشعري تتميز ذمار بتراثها الحافل بالتقاليد المتوارثة لفنون الشعر الشعبي كالزامل والباله. و لا يزال البازل يتمتع بحضور جماهيري ملفت هناك. ويذكر الشاعر الشعبي أ/علي صالح القعشمي واقعة طريفة تؤكد ذلك؛ فذات مرة تبنت تسجيلات الكوماني الشهيرة تسجيل قصيدة تضم لغزا شعريا، وتم توجيهه إلى الجمهور والشعراء، وكانت الجائزة بندقية آلية لمن يتمكن من حل اللغز. وقد حصلت القصيدة اللغز على أكثر من 100 جواب من ذمار والمحافظات المجاورة، وبعد الاطلاع على الاجابات والقصائد أجريت القرعة وسلمت الجائزة للفائز.

هذا اللغز ” البِدع” جاء فيه: أفتيك من دار خمسة دور معمورة / وأربع نوب حول بنيانه وله حكام.

الاسم دار، والوصف هو خمسة دور لها أربع ” نوب”: وهي جمع نوبة؛ أي مكان الحراسة. ويتطلب البدع جوابًا بنفس القافية:

 الدار الاسلام والاركان مشهورة /موارد الخير تتواجد من الاسلام

وأربع نوب في مذاهب عدل منشورة /صلى وزكا وحج البيت جاهد وصام.

عادةً يُحدد صاحب اللغز ما إذا كان اللغز شرعيا أو عُرفيا؛ فالأول يُبين أن مرجعية اللغز دينية من القرآن أو الشرع، أما الثاني فهو مما يتعارف الناس عليه.

لغز:

أفتيك من بنت تشرب دون ما تأكل.. نصف الجمال يحمله قوامها الحالي/ما تعرف النوم ما تجلس و لا تزبل..لا أم و لا اب يضبطها و لا والي/تخالط القوم لا تخزى و لا تخجل..وتنفرد وحدها في اي رِجَالي/هي الوحيدة التي تعطي و لا تبخل..من حولها الناس ذا مهموم و ذا سالي /هي الأميرة على راس الحضور الكل.. والتاج على راسها ما هو من الغالي/لا وجه لا ايدي ولا حتى معاها أرجل.. وبطنها جوف جامد خلف وإقبالِ. الحل: المداعة ” النارجيلة”.

إن تركيب اللغز الشعبي ليس فعلاً فرديًا بل هو إسقاط عقلي ضمن تقليد شعبي قديم[23]؛ لذلك قد يبدو مجاز اللغز بعيداً عن الربط الذهني المألوف لدينا. وبالتالي يمكن القول إن اللغز يجري ضمن عملية ذهنية جماعية خاضعة لمواضعات خاصة؛ وليس مجرد اختبار فردي، كما هو الحال مع الألغاز المبتكرة حديثاً.

 


[1] موسى بن سليمان السويداء.http://www.saaid.net/wahat/a/66.htm

[2] Green,Thomas A and W.J. Pepicello .The Folk Riddle : A Redefinition of Terms.Western Folklore,Vol.38,No.1 (Jan,.1979) p3.JSTOR,www.jstor.com/stable/1498981

[3] انظر: عبدالله البردوني. الألغاز الشعبية، ضمن كتاب: الثقافة الشعبية تجارب واقاويل يمنية، دار المأمون للطبع والنشر.

[4] Green,Thomas A and W.J.Pepicello.The Folk Riddle:A Redefinition of Terms.WesternFolklore,Vol.38,No.1(Jan,.1979)p3-20.JSTOR,www.jstor.com/stable/1498981

[5] Ibid p 3.

[6] Ibid p5.

[7] جشتالت : كلمة ألمانية  تعني شكل أو صورة وهي نظرية في علم النفس المعرفي مفادها أنه لا يمكن فهم الكل إلا بفهم الأجزاء المكونة له.

[8] Green,Thomas p4.

[9]   Green,Thomas p19

[10] Pepicello,W.J.Linguistic Strategies in Riddling.Western Folklore.1980.Vol 39.No.1 (Jan.1980) p2,JSTOR,www.jstor.com/stable/1499760.

[11] Green,Thomas,p18.(

[12] Ibid,p9-10

[13] د. نبيلة إبراهيم، أشكال التعبير في الأدب الشعبي، دار نهضة مصر, ص215.

[14] الباله : أحد الفنون الشعرية الشعبية الشهيرة وسط اليمن

[15] ttps://www.almaany.com/ar/dict/ar-ar/%D8%A8%D8%A7%D8%B2%D9%84

[16] عبدالله البردوني، الثقافة الشعبية تجارب وأقاويل يمنية، ص88.

[17] مرجع قاموس المعاني almaany.com/ar/dict/ar-ar/افتى/

[18] Pepicello,W.J.p1.

[19]   Ibid,p10,12

[20] Green,Thomas,p5

[21] Ibid,p12

[22] Ibid,p15,17

[23] Sendrovich,Savely.The Riddle of The Riddle.Routledge.p12.

 

اظهر المزيد

صفوان الشويطر

باحث وكاتب يمني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى