أدب
أخر الأخبار

السفر عبر الكلمات

هل قرات يوما ما رواية؟ لابد أنك قد فعلت، ولابد أنك مثلي قد اكتشفت من خلالها عالما مليئا بالعجائب محشورا بكل تفاصيله بين أغلفة الكتب وأوراقها، عالما يأخذك إلى ما وراء البحار السبعة بلا أشرعة أو سفن. أعدك ستركب الريح وتقطف النجوم من السماء  بلا أجنحه وستراقب  تشكل المجرات والزمان والمكان بشكل لم تعهده من قبل، ستعيد من خلال الرواية  تعريف الحب والكراهية، الحرب والسلام ، الظلم والعدالة. وستراقب أحلامك  وهي تتجسد من خلال الكلمات في مخيلتك لتعيش اللحظة الشعورية معها بكامل إمكاناتها. ستراقب  التاريخ وهو يعاد رسمه وتجديده، وسترتكز على هذا التجديد حضارات يوما ما  بل معتقدات وفلسفات  أيضا حتى تتحول من أسطورة إلى معتقد، ومن خيال إلى حقيقة.

نعم ستغير الرواية في أحيان كثيرة وجه التاريخ. سأهمس لك بأمر أهم لا تخبر به أحدا:  هناك أسرار وأفكار تختبئ  خلف رمزية الحرف والجملة والصورة   لِتَعبُرَ حدود الزمان والمكان إلى مالا نهاية..

بدأت بكتابة أول رواية لي في عمر الحادية عشر، كنتُ أرغب وقتها في لملمة الهواجس التي كانت تنتشلني من واقعي، على الأقل في صورة كلمات وحروف منتظمة. كان لدي رغبة في أن أتجسد في شخصية البطلة وانتصاراتها وخروجها عن المألوف الذي سيفتح لها الكثير من أبواب الغرائب والعجائب، لأشبع فضولي من جهة، ومن جهة أخرى لأقرر النهايات التي أرغبها أنا وحدي والتي لا أستطيع التماسها في الواقع.

لذا فقد عكست تلك الرواية الأولى بساطة العالم  الذي عرفته من خلال قصص الأطفال التي كان والدي يحرص على شرائها لي إلى جانب مجلات الأطفال، وكذلك عكست ما أختزنه حينها من الرسوم المتحركة ومن واقع الحياة في حدود القدرة الاستيعابية لطفلة في ذلك العمر. إنه عالم مليء بالفنتازيا والألوان والبهجة والنهايات السعيدة.

الرواية بالنسبة لي هي الاعتراض الأدبي على صلادة الواقع ومحدوديته. هي العالم الموازي الذي نستطيع من خلاله و بلا أية قيود أو حدود معالجة  مشاعرنا؛ ظروفنا؛ أحلامنا؛ واقعنا؛ ومشكلات الإنسانية عامة مع القدرة على التملص من الدخول في الجدال المؤدلج  والمناكفات ذات الطابع الانتمائي الضيق والصدامات الفكرية والعقائدية.

هكذا حاولت تعريف الرواية، وأنا أحوّل الانشطار من ذاتي لأتدارس سبب افتتاني بهذا العالم ودخولي إلى مغاراته السحرية، حيث كانت الرواية دائما ملجأي للهروب من واقع يصبح مع الوقت أكثر تعقيدا بسبب تنوعاته وتشعباته الفكرية والنفسية والتي دائما تحددها التوجهات والمصالح المختلفة، الى ان تصبح غير مفهومة تماما، في حين كنت أرى الأمور ببساطه أكثر كبساطة الاكتفاء بمعرفة اننا جميعا متفقون أن الأحمر مجرد لون أحمر وأن علينا الاستمتاع برؤيته فقط طالما أمكننا ذلك!

العمل الفني ل شذى السلامي

من الفانتازيا الفردية إلى رؤى العالم المتلاطمة

 أكسبني الوقت بعدها الكثير بالطبع. انتقلت بين دول متنوعة بسبب ظروف عمل والدي والتحقت بمدارس مختلفة، وما بين الدراسة في المدارس التونسية والعراقية واليمنية والإماراتية والسعودية، واختلاطي بجنسيات متنوعة في المعاهد الفرنسية والألمانية والإنجليزية، عرفت أكثر كيف أن هذا العالم متنوع وخبرت وجهات النظر المتعددة والمتلاطمة كالأمواج في بحر الحياة. كلها رؤى صحيحة وكلها خطأ وفقا لقائلها ووفقا للمعترض عليها. ولأن الكاتب هو عصارة الفكر الجمعي، فقد وجدت نفسي عصارة هذا التنوع الذي عايشته. غير أن هذا لم يمنع تأثري أيضا وقتها بظروف الواقع القريب لمجتمعي اليمني غير المستقر سياسيا، وفكريا، واجتماعيا.

ومن التأثر بالفنتازيا وأدب المدرسة الغيبية، إلى التأثر لاحقا أكثر بأدب المدرسة الطبيعية، كالأدب الروسي الثوري المترجم، والأدب الفرنسي الاجتماعي وكذلك الأدب الحديث المصري المتميز والمنفرد بمواضيعه الشرقية، بطريقة   لا يبدو أنها ستتكرر منذ منتصف القرن المنصرم، فهو، في رأيي، أدب يلامس هموم المجتمع ومشاكله. وكانت لمكتبة أبي المنزلية للكتب الأثر الأكبر في توفر هذا النوع من الرواية لدى الطفلة التي كنتها.

الصيدلة وكيمياء الكلمات

أخذتني دراستي للصيدلة بعيدا عن عالمي المحبب مع الكتب والروايات والقصص والحكايات، لكنها وفرت لي جانبا آخر من الخبرة والمعرفة العلمية حيث تدخل العناصر في كيمياء من التناسبات على نحو شبيه بتلك المركبات اللغوية التي نولد منها كيمياء من المشاعر والإيحاءات والمعارف. أحسست بأن ذلك مدخل لثراء خيالي لاسيما في ما يخص الربط بين العلم والخيال في ما أكتبه. عند عودتي إلى الكتابة بعد انقطاع وجدتني بحاجة إلى إثراء القالب اللغوي الأدبي لدي من أجل أن أكون قادرة على إيصال الفكرة بصيغة أدبية فاتنة. حرصت على العودة إلى الأدب العربي  ووجدت أني دائما ما أقف في صف اللغة السلسلة التي لا ترهق القارئ، ولا تشعره بالدونية والتيه. فطالما أنني أحمل رسالة نبيلة وخيالا ممتعا لأشاركهما مع الآخرين، فعلي إذن اختيار الكلمات الأنسب والأبسط.

البداية مع ليلى

وهكذا كانت عودتي لاحقا بعد انقطاع طويل الى عالم الكتابة مع رواية “المتمردة” التي عالجت فيها مواضيع كالزواج المبكر وتعليم الفتيات، وهي، كما  قد تبدو للقارئ، مواضيع وهموم تخص المجتمع اليمني وتعالج بعض القضايا المرتبطة به وقد تبدو، بذلك، بعيدة عن هموم النخبة. تقرر ليلى، بطلة الرواية، الهروب من ذويها الذين يريدون إرغامها على الزواج، وإكمال تعليمها، فتنتقل من بساطة القرية الى تعقيدات المدينة، لتنجح في النهاية في الوصول إلى غاياتها، ولكنها بالطبع خسرت الكثير في طريقها نحو تحقيق حلمها. وقد أسعدني أنني حصلت بهذه الرواية على جائزه المبدع اليمني للعام  2013، وكان هذا دافعا لي على أن أستمر في النشر.

الروائي  من  وجهة نظري لابد  أن يكون حاملا لرسالة،   لهموم الإنسانية وهموم مجتمعه على حد سواء،  و لابد له أن يتميز بالقدرة أولا على مراقبة الواقع دون التورط في تفاصله، وعلى القدرة على التجرد من أي احكام عاطفية أو انتماءات  سواء كانت  عقائدية أو نوعية (ذكورية أو نسوية) أو عرقية. إن على الكاتب محاولة لفت انتباه المجتمع من  جميع أفراد الطبقات الاجتماعية إلى مشاكلهم التي غفلوا عنها اأناء تورطهم في  الصراعات  و تعقيدات الحياة، والتي يستطيع الروائي الانتباه إليها جيدا بتأملاته ومراقبته الصامتة طالما انه يستطيع  التجرد من كل التحيزات. ولابد أن يكون الروائي  مقتدرا على مزج و إخضاع  الفلسفات والرؤى المختلفة ووضعها ضمن إطار خيالي ممتع وشيق ، وذلك حتى يلامس هموم  ومشاغل قرائه المختلفين.

من هنا، كان لابد لي من إعادة تعريف الحياة بشكل أوسع وأشمل، حيث أدركت لاحقا، وبسبب الظروف غير المستقرة التي مرت بها المنطقة على وجه العموم واليمن على وجه الخصوص، أن الحياة أعقد بكثير من تلك البساطة التي ظننتها يوما ما، وأن معرفة ارتباط الحيثيات  بالمشاكل الظاهرة أهم من معالجة أثرها، كتلك التي تناولتها في روايتي المتمردة، وأن الأمور ستظل تتعقد أكثر طالما لم نعِ جذور مسبباتها الحقيقية. ومن المهم التوسع أكثر معرفيا سواء من الناحية العلمية أو الأدبية أو الإنسانية، ولابد من قراءة أوسع للتاريخ ومواكبة لهذا العصر التكنلوجي.

العمل الفني ل شذى السلامي

  أعطيت لنفسي الوقت الكافي قبل كتابة روايتي “رحلة روح”، الرواية الثانية، لمحاولة فكفكة الواقع ودراسة أسباب وصوله إلى هذه الحال، على الأقل لأتصالح معه، والذي لم أستطع تقبله، فكانت الرواية مرة أخرى هي السبيل الوحيد الذي من خلاله سأناجي نفسي والقارئ لنتدارس معا كل شيء لفهم واستكشاف الواقع؛ أي فهم طبيعة الصراعات الإنسانية وطبيعة النفس البشرية .

من خلال (رحلة روح) استطعت أن أجد السلام الذاتي الذي ساعدني وآمل أنه سيساعد القارئ على فهم مبدأ التقبل، تقبل حقيقة الواقع بوجهيه، المظلم والمشرق، الخير والشر.  بعبارة أخرى السعي إلى تفهم الصراعات وتفهم التنوع الإنساني. ومع أول حرف وحتى نهاية آخر سطر من السرد أجد نفسي استرسل في الأحداث بداخل الرواية، اراقب آدم المهموم وهو يلبي وصية جدة في البحث عن مجنون صنعاء والذي سيدله على كنز ثمين. أراقب الشخوص بحيادية وهي تحاكم نفسها وتتفاعل مع عواطفها، فاجد نفسي مرغمة، أستمع إليهم بحيادية.  ساعدتني “رحلة روح” على إيقاظ ذلك المجنون القابع في ذواتنا، والاستماع لذلك الحكيم الذي سينتشلنا من التيه، لقد حاولت من خلال تلك الشخصيات أن أداوي وأعالج الكثير من القضايا الاجتماعية والتاريخية الإنسانية مع حرصي الدائم  على عدم الإخلال بالمتعة المصاحبة التي  يمكن أن يعيشها القارئ من خلال العوالم الخيالية في النص السردي.

بسبب نشأتي على السفر والتنقل بين البلاد  المختلفة، أصبح السفر جزءا من تكويني،  بل من أهم أولوياتي ، والذي من خلاله أستطيع فتح  نوافذ اللوعي والخيال ، ولكن وبسبب  الحصار الخانق الذي تعاني منه اليمن من خلال تعقيد إجراءات السفر خلال فترة الحرب ، اخترت أن أعالج ذلك عبر الرواية  مرة أخرى؛ القبلة التي ألجأ إليها  بسبب  ظروف الواقع ،  فانتقلت زمانيا من خلال رحلة روح   من صنعاء إلى القاهرة ، ومن القاهرة إلى المستقبل. لقد تنقلت في شوارع القاهرة خلال عصرها  الذهبي القديم ،  عشت  أجواء القاهرة ولياليها، شممت رائحة  النيل  وراقبت النجوم  فوق الأهرامات. كل ذلك وأنا في مكاني في صنعاء ، في الحقيقة أدركت لاحقا أنها كانت رحلة من الذات وإلى الذات.

حرصت على إخضاع التاريخ أيضا داخل الرواية ،  والذي أراه مجرد أساطير أخرى في مسرح الكون يفسح لنا المجال لتأويله وتخيل أحوال الناس فيه وطرائق معاشهم.  روايتي القادمة أيضا ستكون في إطار الرواية التاريخية الاجتماعية ، ولكن هذه المرة سيكون السرد عن  تاريخ اليمن القديم والأسطوري  الذي لم نعطه حقه في الروايات اليمنية أو العربية .  التاريخ يحتاج فقط لمن يعيد ترتيب أحداثه وأوراقه في حدود الإطار والنمط الثابت والمتكرر له، وهذا الدور من وجهة نظري هو دور الرواية على وجه التحديد.

لأعيش الرواية وأتماها في تفاصيلها اضطر في أحيان كثيرة للانعزال عن المجتمع ومناسباته وتفاعلاته، ربما ان هذا هو الجانب السلبي من تجربة كتابة  الرواية ، ولكنه لا يخلو من الإيجابية أيضا، حيث يمكنني بذلك رصد التحولات والتغيرات التي تطال المجتمع. يساعدني ذلك  على تفسير الكثير وإدراك الحيثيات والنتائج  من أجل القدرة على كتابة أحداث متسلسلة بمنطقية لاحقا في رواياتي.

الرواية بالنسبة لي ليست مجرد حكاية وسفسطة، وإنما هي خليط من الشعور والفكر والفلسفة والتأمل. إنها   القدرة على الاستنتاج بطريقة خوارزمية، ولكن في قالب خيالي. هي قول الحقيقة ووضع الرسالة أحيانا؛  ولكن بطريقة مخادعة ومرغوبة جدا في صورة كذبة بيضاء كبيرة و مريحة للجميع.

اظهر المزيد

Shrouk Hussein

A writer and novelist who has published two novels, The Female Rebel and A Journey of the Soul. In addition, she has a diploma in graphics design and is an amateur photographer.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى