ثقافة
أخر الأخبار

الجن في المعتقدات الشعبية اليمنية

الجن مركز الخرافة العربية

يتناول هذا المقال أبرز المعتقدات الخرافية في الموروث الشعبي اليمني بخصوص الجن، وأسمائهم، وأشكالهم، ومساكنهم، وبعض تأثيرات الاعتقاد بوجودهم على الطقوس الشعبية. ويتحدد نطاق هذا المقال في محافظة البيضاء وما حولها انطلاقا من خبرة الكاتب الحياتية التي عايش فيها الناس في تلك المناطق وما يجود به مخيالهم الشعبي من لغة وتصورات بخصوص الجن وآثارهم في عالمنا.

والمعروف أن للجن مكانة بارزة في التراث الشعبي والديني والأدبي العربي بصورة عامة، وقد خصص القرآن الكريم سورة للجن، ورويت أشعار عن الجن ومع الجن، وتناقلت كتب التراث الأدبي حكايات كثيرة عن الجن كتلك التي في ألف ليلة وليلة. ويرى عبدالله البردوني أن مدار الأسطورة اليونانية هو الآلهة وبطولاتها، أما الأسطورة أو الخرافة العربية، بمختلف تجلياتها في الشعر أو النثر، فترتكز على خوارق الجان.([1]) والملاحظ لمنطوقات الناس اليومية، لا سيما في الريف اليمني، فإنه سيجد أن عالم ماوراء الطبيعة يرتبط بعالم الطبيعة المشاهد بصورة دائمة يظهر فيها الإيمان الديني بوصفه وسيطا معرفيا ومانحا للغة التعبير عن هذه الظواهر الغيبية. ويؤازر هذا الوسيط الديني وسيط شعبي، ضارب في القدم، طورته خبرة الإنسان في تفسير بعض الظواهر؛ خاصة تلك التي تغيب فيها عنه العلاقة السببية بين عناصرها. وكلمة جن مأخوذة في اللغة من جنّ بمعنى ستر؛ وهذا يدل على أن عالم الجن هو عالم الخفاء والاستتار.

نماذج من المعتقدات الشعبية في الجن

وحتى لا يكون الكلام نظريا، فإننا نقدم هنا نماذج من المعتقدات الشعبية في الجن في محافظة البيضاء وما حولها كما أشرنا آنفا. ونأمل أن يكون من شأن ذلك حث باحثين آخرين على تناول هذه الظواهر في مناطق يمنية أخرى.

أولا: أسماء الجن

الجن أصناف مختلفة، فهم أصناف من حيث خلقتهم العامة، يختلف فيها كل صنف عن الآخر، وهم قبائل متعددة، وفيهم الذكور والإناث. وهم بعد ذلك مختلفون في الاعتقاد، ففيهم المؤمن والكافر، والصالح والطالح، وهم فرق وشيع مختلفة، إلى غير ذلك مما يتعلق بأصنافهم، ومن أسمائهم:

أمّ الصبيان (صياد): أم الصبيان في اللغة تعني أم الأولاد الذكور، وفي المعتقد الشعبي يطلق على جنية، ويرتبط اسم صياد بأم الصبيان، ففي بعض الحكايات تكون ابنة لها، وهناك من يقول إنها أختها الصغرى، ويرى آخرون أن صياد هو اسم آخر لأم الصبيان. وتشكّل صياد مع أمّ الصبيان ثنائيًّا مرعبًا في التراث الشعبي.

أمّ الصروم: في المعتقد الشعبي أن هذا الاسم من أسماء الجن، يقول الشاعر الشعبي:

زادت همومي ونفسي حايرة … والقلب محتار من كثر الهموم

إن سرت قابل لقيت الساحرة… وإن سرت باطن لقيت أمّ الصروم

المسرّفة: في المعتقد الشعبي أن هذا النوع من الجن يخطف الإنسان وينقله من مكان إلى آخر وهو في حالة من اللاوعي.

وكذلك من أسماء الجن شمروخ، والشوادي، وخلوق، وتُحكى هذه الحكايات لإثارة الخوف عند المتلقي، والخوف يؤدّي بدوره إلى تأكيد المعتقد، وفتح خيال المتلقي إلى أنّ هناك عالم آخر غيبي، إلى جانب عالمه الواقعي المعيش.

ثانيا: مساكن الجن

أماكن غير مرغوبة: يكثر الجن في المعتقد الشعبي في الأماكن الخالية، والمقابر، والآبار المهجورة، ومواضع النجاسات، والأماكن القذرة كالحمامات والمزابل، والأماكن الخربة.

الأشجار: وينسج الخيال الشعبي حول بعض الأشجار ــ العوسج  والأثب ــ كثيرًا من المعتقدات عن سكنى الجن لهذه الأشجار وظهورهم بالقرب منها، وقد ارتبطت شجرة (العوسج) في أذهان سكان بعض مناطق اليمن بالجن، فهم يعتقدون أنّ هذه الشجرة مسكونة بالجنّ؛ لذلك ينصحون بعدم قطعها، والاقتراب منها؛ ولعل ذلك راجع إلى أدبيات دينية في اليهودية والإسلام حول الحرب الأخيرة قبل قيام الساعة. وتُسمّى الأرض التي يسكنها الجن مجنّة، أي ذات جن، وقد تسمى المقبرة مجنة، وهنالك علاقة اشتقاقية بين الجن والمجنة وهما مأخوذان من الفعل جن بمعنى ستر، وينتشر الجن إذا جنّ الليل.

العمل الفني لرفيدا أحمد

الإنسان: وقد تسكن الإنسان فيدعى بالمجنون أو المقرون؛ أي أن لديه قرينا يسكنه؛ ومن هنا جاءت كلمة مسكون أيضا في لهجة أبناء تلك المناطق.

ثالثا: أشكال الجن

في المعتقد الشعبي أنّ الجنّ يخرجون على هيئات مختلفة وفي أماكن متعددة ــ خاصة في الليل ــ ومنها:

 هيئات بشر: يعتقد الناس أن الجن يأتي على هيئة بشر، إلا أن التحقق منه يتم عن طريق النظر إلى قدميه اللتين يكونان على هيئة حوافر الحمير.

هيئة حيوانات: وورد ذكرهم في الأدبيات العربية بأنهم يتصورون على شكل الحيوانات والبهائم فقد يكون على صور الحيات، أو على صور كلاب سود، ويتشاءم الناس من رؤية القط الأسود، فلا بدَّ من الحذر منه وتجنُّب إيذائه، فهو جنيٌّ في صورة قطٍّ. وقد يأتي الجني في صورة الثعبان. فهذه الحيوانات، في النظر الشعبي، قد تكون جنيًّا متحولًا إلى هذه الهيئة، ويعتقدون أن من يقتل الثعبان وبعض أنواع السحالي، فإن الجن تتلبسه. والجن في معتقدهم تفضل اللون الأسود؛ «لأن السواد أجمع للقوى الشيطانية من غيره، وفيه قوة الحرارة».([2]) وللجن علامات تميزهم عن الإنس، كالشعر الغزير، والأرجل التي تشبه أرجل الحمير، أو الأعين المختلفة عن أعين الناس.

الأعاصير: يسود في المعتقد الشعبي أن الجن تتعارك وتتقاتل فتثير عواصف الغبار، فيفسرون الزوابع الترابية بأنها بتأثير الجن أثناء عراكهم أو غيره.

والجن الذي يتشكّل بهذه الأشكال المختلفة عند ظهورهم يكتشفها الإنسان من خلال الظهور والاختفاء المفاجئ، أو عندما يدخلون في حيز النور أو الإضاءة.

رابعا: طقوس مرتبطة بالجن

طقوس الذبح عند تأسيس البيت، أو حفر البئر: لا تزال هذه الظّاهرة تمارس حتّى اليوم في كثير من المناطق فداءً وقربانا للجنّ والأرواح الشّريرة حسب معتقداتهم. وهذه العادة من العادات التي كانت معروفة عند العرب في الجاهلية، يقول الدكتور جواد علي: «ومن خرافاتهم أن أحدهم كان إذا اشترى دارا أو استخرج ماء عين أو بنى بنيانا وما أشبهه، ذبح ذبيحة للطيرة. وقد عرفت عندهم بـ “ذبائح الجن”. وكانوا يفعلون ذلك مخافة أن تصيبهم الجن وتؤذيهم. وقد نهي في الإسلام عن ذبائح الجن»([3]).

  طقس الزار: يعدّ هذ المعتقد من المعتقدات التي تساعد على فهم طبيعة المجتمع، وهو بحسب المعتقد الشعبي يطلق على الطقوس التي تمارس لإخراج الروح الشريرة التي تندمج في جسد الفرد سواء أكان ذكرًا أم أنثى، وتؤدي به إلى تصرفات خارجة عن المألوف، وقد يبلغ المصاب أحيانًا مرحلة الجنون.

ويعالج من قبل من يدّعي القدرة على ذلك، ويكون العلاج بحرق البخور، ورش العطور، وضرب الطبول والمزامير، وترقيص المصاب برقصة ذات إيقاع ساخن وسريع حتى يبلغ به الأمر أحيانًا إلى فقدان الوعي، فيردد كلامًا مفهومًا ومكررًا، أو يقوم بحركات منها ما هو عنيف وشاق ثم يقوم أحد المعنيين بعلاجه عن طريق أمر المريض بأن يطلب ما يحبّه، وأنهم على درجة استعداد كامل لتنفيذ طلبه مع أنه إذا ما طلب الأمر الصعب المنال أو الغالي الثمن والتكلفة عادوا به إلى المربع الأول ويقال: ميّحوه أي رقّصوه. ويبدأ أيضًا بالطلب، وقد ينفذ طلبه إذا كان ممكنًا، ويرتبط بهذا المعتقد أمور وتفاصيل كثيرة لا يسع المجال للإسهاب في ذكرها، والزار ليس مقتصرًا على اليمن بل يوجد في كثير من البلدان.

طقوس إخافة الجن وطردهم: في المعتقد الشعبي أن الجن يخافون من بعض الأشياء:

صوت الكلاب، والملح، والحديد، وشجرة الغزاب أو الوزاب (الأزاب). ويعتقد الناس أن لهذه النبتة الأزاب خاصية قوية في طرد الجن من جسم الإنسان، حيث يقومون بمسح جسد المريض بمحلول هذه العشبة الممزوج بالزيت، ظنًّا منهم أنّ الجن سيهربون من رائحتها. وللبخور مكانة متميّزة لدى أبناء المجتمع اليمني، وله صلة وثيقة بحياتهم اليوميّة وبطقوسهم وعاداتهم، فالبخور يُستعمل لإبطال مفعول السحر أو للوقاية منه، ولإبعاد الأرواح الشرّيرة، فللحماية من الجن يبخرون المنازل باللبان، والحلتيت، والمرّ، والصبر خاصة في مناسبات الزواج والولادة (النفاس).

العمل الفني لرفيدا أحمد

 خامسا: الشعر والجن 

الحليلة والهاجسلقد ارتبط ذكر حليلة الشعر والهاجس بالشعراء الشعبيين، والحليلة: هي قرينة من الجن امتلكها الشاعر، فأصبحت توحي إليه بالشعر، فهي التي تنشد الشعر على لسانه، وكثيرًا ما نسمع عن شياطين الشعر، ذلك أن الشعراء لا يقولون الشعر من تلقاء أنفسهم، بل هناك جني أو شيطان هو الذي يلهم الشاعر الشعر.

  ومن حكايات الشعراء مع الجنية التي توحي لهم بالشعر قصص عديدة لا تزال آثارها الى الآن في المعتقدات الشعبية، وقد ذكر الشاعر الشعبي أحمد غرامة الراشدي الحليلة والهاجس في قوله:

وش قال لك هاجسك ذي جاك يتكذّب  … لَيْ قول شوعة ولا أنا قول له لوّاب
وقلت ذا الجاه خذنا بينكم مطلب … يا هاجسي والحليلة ناقشت لحجاب

هو للزوامل وهي للصوت والمطرب … لا تدّوا ألّا قوافي هرجها صوّاب

وهذا المعتقد مستوحى من اعتقاد العرب قديمًا بأنّ لكلّ شاعر شيطانا، يقول الأعشى([4]):

وَمَا كُنتُ شاحِرْدًا وَلكِنْ حَسِبتُني … إذا مسحلٌ سدّى ليَ القولَ أنطقُ

شَرِيكَانِ فيما بَيْنَنا مِنْ هَوَادَةٍ … صفيّانِ جنِّيٌّ، وإنسٌ موفَّقُ

وقال حسان بن ثابت([5]):

ولي صاحبٌ من بني الشيصبانِ … فَطوْرًا أقُولُ، وطوْرًا هُوَهْ

    

المساجلة شعرية مع الجن وقد يدخل الشاعر الشعبي في سجال مع جني أو جنية. ومن هؤلاء الشاعر عبدالله امبوبك، وهو جد الشاعر المعروف قاسم محمد العوذلي، الذي دخل مع جنية في سجال شعري طويل، ومن قصيدته تلك:

بابدع بواحد وحده       ذي اسوى امطر في رعده       واسقى به الوديانِ

باخبرش في خصله        والقول عندش فصله          شي في امثمر ذا حصله؟

قالت كود النِبِل يتولى    يشل حمله يحتى            يشل للجيعانِ

العمل الفني لفيدا أحمد

إلى آخر القصيدة الطويلة التي يسأل فيها الشاعر الجنية العارفة وهي تجيبه عن مسائل تتعلق بالزراعة والأخلاق، ثم تطلب منه يسمح لها كي تذهب إلى قومها من الجن، وتحدد أماكنهم في بعض وديان المنطقة، ثم في آخر القصيدة يختم الشاعر بالصلاة على النبي محمد، وترد هي بالصلاة عليه لتثبت للشاعر وللمتلقي أنها من الجن المسلمين.

خاتمة

لا يعبر هذا المسح العام عن حصر لمظاهر حضور الجن في الثقافة الشعبية اليمنية، فنحن قد حددنا أنه مقيد في نطاق مناطق محددة، وأنه اجتهاد ينتظر جهودا جديدة من المختصين في الدراسات الأنثروبولوجية والاجتماعية واللغوية. ومع ذلك، فإنّ هذه الإطلالة قد تدفع القارئ للتأمل في تأثير الأفكار الخرافية على حياتنا وكثافة حضورها في مجتمعنا اليوم، رغم أن اليمن قد شهدت تطورات تتعلق بتمدد الحياة الحضرية وبارتباط فضائنا الثقافي بالمجال الكوني المعولم عن طريق وسائل التواصل الحديثة، إلى جانب شيوع الكتب والمقالات والبرامج المرئية والمسموعة المشجعة على التفكير العلمي السببي.

 


([1]) فنون الأدب الشعبي في اليمن، عبدالله البردوني، دار البارودي بيروت، الطبعة الخامسة، 1998م, ص36.

([2]) غرائب وعجائب الجن كما يصورها القرآن الكريم والسنة، بدر الدين شلبي، تحقيق إبراهيم محمد الجمل، مكتبة القرآن، القاهرة، ص37.

([3]) المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام, لدكتور جواد علي, دار الساقي, الطبعة الرابعة 1422هـ/ 2001م, 12/384.

([4]) ديوان الأعشى, شرح وتعليق الدكتور محمد حسين, مكتبة الآداب بالجماميز, 1437هــ, ص221.

([5]) ديوان حسان بن ثابت, شرحه وكتب هوامشه وقدم له: الأستاذ عبدأ مهنا, دار الكتب العلمية, ص252.

 

اظهر المزيد

Ahmed Hambaj

A lecturer in the College of Education in al-Baydha University. He has worked in linguistics and anthropology, focusing on folk heritage in al-Baydha governorate and other regions. His Masters’ thesis, which is currently being published as a book, is called ‘Terms Used in Social Life in al-Baydha Governorate: A Phonological and Semantic Perspective’. Currently, Ahmad is writing his doctorate dissertation at Sohag University in Egypt in the field of linguistics.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى