فن

الحب في زمن الحرب والجوع والكوليرا

This post is also available in: English (الإنجليزية)

يفصل الحب عن الحرب في اللغة العربية حرف واحد، غير أن بينهما في المعنى مسافة ترسم الفرق ما بين اللقاء والانفصال؛ وما بين الخير والشر؛ وما بين الحياة والموت. في زمن الحرب الظالمة التي عصفت باليمنيين منذ نهاية العام 2014  يقاوم مواطنون مسالمون  الموت بالحياة والحرب بالحب والشر بالخير والجشع بالتعاون والقطيعة بالتواصل والبخل بالعطاء والصمت بالكلام. ورغم أن التقارير تشير إلى أن ما يقارب عشرين مليون يمنيا معرضون للجوع و أن مئات الآلاف يموتون بسبب المرض و ضربات الطائرات والقنابل والرصاص، فإنّ الحب قد وجد له طريقا ساخنا إلى قلوب البسطاء المؤمنين بالحياة.

ويعلمنا التاريخ الإنساني في كل العالم أن الحب  وحده  يستطيع الانتصار على الدمار والخوف  والنزوح وحتى الجوع والمرض. في زمن الحرب والجوع والكوليرا يغدو الحب والشغف ملاذا لأرواح المستضعفين في الأرض و أجسادهم. و في زمن الحرب والجوع والكوليرا  يصبح الحب والشغف بلسما للجراح وماء باردا يخمدان نار القلق والخوف في نفوس مواطنين دمرت مساكنهم و حولت مسارات حيواتهم في اتجاهات عدة منها النزوح أو المرض أو الجوع.

 الصورة بإذن من عبدالرحمن جابر الصورة بإذن من عبدالرحمن جابر

الحب بعيدا عن أي قيود

لا يعترف الحب بالمكان ولا بالزمان و لا بالظروف؛ فحديث الأرواح لا يمكن لأحد أن يمنعه. والحب غريزة طبيعية راسخة في الإنسان. كان الحب قبل الحرب ومسلسل الصراع الإنساني السخيف وسيظل الحب ما بقي
.الإنسان وما بقي شغف الإنسان بالحياة والجمال

 وفي يمن الحرب التي شنها يمنيون ضد يمنيين تأتي قصص الحب في أوساط مواطنين عاديين رافضة الدمار و المو
.ومبشرة بزمن يحب فيه اليمنيون اليمنيين ويؤمنون بحق بعضهم في الحياة والسعادة

يقول محمد علي، وهو في نهاية العشرينيات من العمر، إن الحب لا يفترض  أن يقترن بزمن معين أو مكان محدد، بل
.من الواجب أن يكون قيمة نحاول نشرها حتى في ظل الحرب

وأضاف لـ”المدنية” “مع بداية الحرب تعرفت على فتاة وأحببتها كثيرا.. أصبحت أعيش الحب في أبهى صوره رغم الحرب والمأساة”. وتابع “لا عائق يقف أمام استمرار القلوب في حبها طالما أن قلوبنا تنبض بكل تفاصيله، ولا مأساة تقف سدا أمام تحقيق أحلام قلوبنا”. ومضى بالقول “صحيح أن اليمن تعيش ظروفا استثنائية جراء الحرب والمأساة؛
.”إلا أنه يفترض أن نكون صناعا لقيم الحب والتسامح كي نتخلص من هذه الملمة

وحول تجربته مع الحب في زمن الحرب قال علي “من حسن حظي أن الحب متبادل وليس من طرف واحد، لذا
.”سأحاول جاهدا أن أعيش مع من أحب، حتى ولو واجهت صعوبات في إتمام الزواج

وتحدث علي أن “هناك العديد من قصص الحب التي نشأت وترعرعت في ظل الحرب”، مشيرا “إلى أن هناك أصدقاء أحبوا في هذه الظروف واستطاعوا أن يعقدوا قرانهم في ظل هذه الأوضاع، وعاشوا مع الحب بدلا من الرصاص، وباتوا يستنشقون الورد بدلا من رائحة القذائف.

الحب رمز للخصب والحياة

يربط البعض الحب بالموت كمحيي الدين ابن عربي (ت.1240) فيلسوف الصوفية وشيخها الذي قال “الحب موت صغير”. وهو ربط ظاهري يشرح حالة غياب المحب عن الواقع وحضوره في حضرة المحبوب. لكن الحب في الحقيقة  تعبير عن ميلاد حياة جديدة. في نهاية ديسمبر/كانون الأول 2014 كان أول لقاء جمع عبدالجليل هائل بنصفه الآخر، حين رآها لأول مرة بالنظرة الشرعية التي تعد حقا للرجل والمرأة اللذين يرغبان في الزواج وفقا لتعاليم الدين الإسلامي الذي يدين به اليمنيون. كان ذلك بالنسبه له بمثابة ولادة جديدة.

 الصورة بإذن من عبدالرحمن جابر الصورة بإذن من عبدالرحمن جابر

يروي هائل قصته التي أسماها بـ”قصة العمر” لـ”المدنية” والسعادة تملأ قلبه، ويقول “عقب رؤيتي لخطيبتي ذهبت إلى العمل، وأنا أتذكر نظرتها، وجلوسنا معا وهي ترتدي فستانا بلون التركواز وعلى رأسها ربطة بنفس اللون، كان الأمر أشبه بالحلم”. ويردف “وفي يوم الجمعة 30 يناير/كانون الثاني/2015 كان يوم عقد القران الذي بدأت بعده حكايتي
.”معها ولقاءاتنا لمعرفة بعضنا البعض والتخطيط للحياة، والترتيب لأولويات الزفاف، وشراء أثاث البيت

 يردف هائل “في شهر أبريل/نيسان 2015 استأجرت شقة للسكن فيها، وقمت بتأثيثها، وحددت موعد الزفاف، واستكملت كل التجهيزات، لكن زادت مخاوفنا من الحرب، فلقد اشتعل فتيلها بضراوة، ونزحت زوجتي إلى قرية
.”أهلها ونزح قلبي معها، وكانت الاتصالات صعبة للغاية بسبب الحرب وهو ما سبب لنا وجعا كبيرا

واستطرد “وفي رمضان من أول سنة للحرب (2015) كان اللقاء المنتظر لنا، والتقينا وكأنها سنين فراق، وعادت زوجتي مع أسرتها إلى المدينة، لكنني وأسرتي نزحنا إلى قريتنا وعشنا هناك لمدة عام، وحين عدنا لم نصدق أننا التقينا ثانية، وكنا نظن أنه قد قُدر لنا بأن لا نلتقي، بكت حينها زوجتي كثيرا”.

واستدرك “لكننا لم نستسلم للحرب وويلاتها، واستأنفت عملي، وعدنا لترتيبات الزفاف الذي تأخر 15 شهرا، وحددنا
.”يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2016 وهنا عادت الابتسامة إلينا والأمل وعادت الحياة لقلوبنا

قصة هائل لم تنتهِ هنا فهو يتذكر جيدا تاريخ 1 أكتوبر/تشرين الأول 2016 حين سقطت قذيفة مدفعية هوزر بجانب منزلهم على بُعد 10 أمتار فقط، وبرغم صعوبة الظروف آنذاك خاصة أن بيتهم كان يبعد عن خط النار 500 مترا فقط، إلا أن كل ذلك لم يعكر فرحته وزاده إصرارا على إتمام الزواج.

دمعة حزن وفرح

في الحرب حين يحضر الحب يتسابق الحذر والتفاؤل ودمعة الفرح بحبيب أو زفاف أو الحزن على فقد أحد الأقارب أو الأحبة بسبب هذه الأزمة التي تعيشها اليمن منذ أكثر من عامين ونصف، ويذهب ضحيتها آلاف الأبرياء ممن لا ناقة لهم ولا جمل في الحرب ومعظمهم ينشدون الحب والسلام.

 الصورة بإذن من عبدالرحمن جابر الصورة بإذن من عبدالرحمن جابر

مروان علي (شاب في الثلاثين من العمر)، كانت ولادة حبه منتصف 2015 بعد اندلاع الحرب في اليمن ببضعة أشهر. يحكي “علي” لـ”المدنية” والابتسامة بادية على ملامحه، “حتى الآن لا أصدق أن كل ذلك قد حدث فهو كالحلم لجماله، فحين أحببت “سمية” كنا طالبين في جامعة صنعاء نقوم بتحضير أبحاث التخرج، وكانت دراستنا في ظل وضع صعب وغير مستقر مع الحرب التي تشهدها اليمن، لكن الحب فتح أمامي الكثير من الآفاق، وعملت مع “سمية” على التفكير بمستقبلنا لنعيش معا حياة مستقرة. تخرجنا وحاولنا الحصول على فرص عمل برغم صعوبتها. لم نكن نرى إلا الأشياء الجميلة في الحياة. وصادف أن توفيت والدتي بجلطة قلبية حالها  حال بعض من اليمنيين الذين لم يستطيعوا العيش في ظل هذه الضغوط. أحدث موت أعز الناس في قلبي جرحا غائرا. غير أن سمية  قد ساعدتني على تجاوز تلك المرحلة”.

وبعد قرابة سنة تزوج علي وسمية وهما يأملان أن يكون الحب مفتاحا لحل مشاكل اليمنيين فالحب قد يدفع الأطراف
.جميعها إلى العيش معا بسلام

صناعة الفرح

كان ملاحظا أن الأعراس في اليمن استمرت بشكل طبيعي خلال الحرب خلافا لكل التوقعات. فبرغم غلاء الأسعار بعد تردي الوضع الاقتصادي في البلاد، وارتفاع نسبة الفقر والبطالة إلى 85%، إلا أن الكثير من الزيجات تمت خلال هذه الفترة.

ولجأ بعض الشباب إلى إقامة أعراس جماعية، من أجل تقليل تكاليف الزواج، ليتمكنوا من دفع متطلباته ونفقاته
.(التي تجاوزت المليون ريال يمني (2450$ – الدولار الواحد = 410 ريال

محمد ناجي تحدث عن تجربته قائلا “شعرت أن هذا هو الوقت المناسب لزواجي، فنحن بحاجة لأن نفرح وتستمر الحياة، وقد كنت محظوظا؛ ففي فترة زواجي لم يكن في حارتنا أي حالة وفاة وهو ما جعل الجيران  يغنون  لي من منازلهم وفرحنا جميعا.

وأوضح لـ”المدينة” أن الظروف الاقتصادية صعبة للغاية؛ وهو ما جعل الكثير من الشباب  يحجمون عن الزواج أو التفكير في الحب. غير أن بعض الأسر تتعاون مع من يتقدم لخطبة إحدى بناتهم، وذلك لمعرفة طبيعة الحياة الآن. هذا الأمر يجعل البعض يقدمون على الزواج. ويرى ناجي  أن هذه الأوضاع  في اليمن تجعل الإنسان بحاجة إلى الحب ليتمكن من الخروج من المربع الموحش الذي يجعلنا نرى الحياة من منظور سوداوي. وأشار ناجي  إلى أن بعض الأسر تبالغ في طلباتها وترهق كاهل الشاب الذي يتقدم لخطبة ابنتهم. وقد لا يتمكن  الشاب من الوفاء بطلباتهم فيفقد حبه الذي كان ينتظر أن يُغير مجرى حياته.

بدورها ذكرت أشجان عبده قاسم، أنها احتفلت بزفافها في المنزل، برغم أن جميع أخواتها احتفلن قبل الحرب بأعراسهن في قاعات حفل خاصة. أضحى من الصعب الاحتفال خارج البيت بسبب الصراع والمواجهات. ترى أشجان، رغم ذلك، أن السعادة غير مرتبطة بالمكان أو حجم الاحتفال، بل بمن هم حولك وتعيش معهم

وروت لنا أن كثيرات من صديقاتها وجاراتها حضرن ذكرى حفل زواجها. وعن سؤالنا لها حول سبب الحضور الكثيف الملاحظ في الأعراس هذه الفترة، عللت ذلك بأن الفتيات أصبحن حبيسات المنازل خوفا من الرصاص والقذائف والأوضاع الأمنية المتردية، فأصبحت مثل هذه الحفلات متنفسا يستمتعن فيه بلقياء بعضهن البعض وقضاء أوقات مسلية.

وهو ما تؤكده شيماء أمين، التي بيَّنت أنها أصبحت تشارك جيرانها وصديقاتها حفلات خطوبتهن أو زواجهن، فهي فرصة للالتقاء بالجميع والاحتفال بعيدا عن الخوف أو انتظار سماع أصوات آلات الموت. و  قالت إن ذلك يجعلها تؤمن بقدرة الحب أيضا على تغيير الواقع وانتشالنا من  التفكير في الصراع والأزمات.

وأكدت شيماء لـ”المدنية” أن الكثير من الشباب والشابات في اليمن يرغبون  أن يعيشوا تجربة حب تضيف لهم تجربة إنسانية وتعلمهم العطاء المتبادل من أجل تأسيس أسر مبنية على الحب لا الكراهية التي مزقت المجتمع. والواقع أن كثيرا من الشباب والشابات في اليمن يفضلون عدم البحث عن الحب بل الوقوع فيه  بشكل قدري في اللحظة التي تأذن بها أرواحهم.

 الصورة بإذن من عبدالرحمن جابر الصورة بإذن من عبدالرحمن جابر

مظاهر جديدة

من الملاحظ أن الحرب قد أفرزت مظاهر سلبية جديدة للاحتفال بالأعراس في اليمن، كإطلاق الرصاص الحي، والاحتفال بمشاركة الدبابات أو المدرعات، إضافة إلى استخدام القنابل الصوتية. وقد أثارت تلك المظاهر انتقادات واسعة خاصة من قِبل المدنيين، الذين شكلت لديهم مخاوف خاصة بعد سقوط ضحايا بالرصاص، أو خوف بعض أفراد المجتمع من أصوات القنابل الصوتية. ويبرر بعض من قابلناهم ذلك بالقول “ما يهمنا هو أن نفرح وطالما تلك أن تلك الوسائل تحقق الابتهاج فلا يوجد ما يمنعنا من ممارستها”. وبرغم ذلك التبرير، فقد أدت الضغوط المجتمعية المستمرة إلى تراجع تلك الظاهرة إلى الوراء، خاصة مع حضور الدولة في بعض المناطق المُحررة.

هناك قصص بديعة عن الحب والعشق في ظل الصراع غير أن بعض أبطال وبطلات تلك الحكايات يتحفظون
.ويتحفظن عن ذكرها، خصوصا الفتيات، خوفا على السمعة في مجتمع محافظ

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى