أدب

مواقع التواصل الاجتماعي ومستقبل الكتابة..

This post is also available in: English (الإنجليزية)

عندما يحصل كاتب من الدرجات المتوسطة أو من الدرجات الأقل من المتوسطة على مديح ثري على كتاباته أو إصداراته من مواقع التواصل الاجتماعي، والذي جمهوره ليس على درجة من الثقافة الواسعة أو الاطلاع الكبير فإننا نكون أمام معضلة حقيقية.

يذهب الكاتب من أجل الاعتراف بكتاباته مباشرة إلى أوساط الجماهير الشعبية، وإلى مواقع التواصل الاجتماعي.

يبحث الكاتب عن الاعتراف الذي لن يلقاه لدى النقاد أو المثقفين أو النخبة أو واسعي الاطلاع، لكن هذا الاعتراف الضمني من الجمهور العام، والذي يبعث على الراحة، يحمل للأدب مستقبلا غامضا، أقله أنَّ الذائقة الشعبية، التي تحركها حسابات كثيرة منها الشهرة والعلاقات الشخصية، قد تطيح بالإبداع الحقيقي، وقد تعلي من شأن أنصاف الكتّاب والمثقفين وأنصاف الأعمال الإبداعية.

العمل الفني لرفيدا أحمد

قبل أكثر من مائة عام تنبأ نيتشه (توفي عام 1900) بتدهور مستقبل الكتابة، جراء الحركة الواسعة للنشر وسهولة أدوات التواصل، وكان يرى أن العصر الصناعي سيتيح الفرصة لدى الكثير من أنصاف الكتاب للنشر، وهذا سيعود على فن الكتابة بالتدهور.

بين جيلنا وبين نيتشه  أكثر من قرن من الزمان، وها هي النبوءة الغامضة قد أصبحت واقعا.

وبعد مائة عام رأى الروائي والفيلسوف الإيطالي إمبرتو إيكو(توفي عام 2016) ما تفعل مواقع التواصل الاجتماعي في كيفية جعل الإنتاج الرديء في أعالي المجتمع، وجعل المتميز في أسفله ليقول: إن أدوات مثل تويتر وفيسبوك تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممن يثرثرون في الحانات فقط، دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فوراً، أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل مَنْ يحملون جائزة نوبل. إنه غزو الحمقى.

بين وفاة نيتشه وإيكو أكثر من مائة عام، تنبأ الأول أما الثاني فعايش تلك الأحداث واقعا، ورأى كيف تعمل هذه المواقع والسوشال ميديا على خفض ذائقة الشعوب والتقليل من المستوى الفني للأدب والشعر والرواية والكتابة عموما.

ولذا يبدو أن هذا الزمن ليس عصر الشعبوية في السياسة فقط، بل هو عصر الشعبوية في الكثير من المستويات الثقافية والفكرية المصاحبة.

مواقع التواصل اليوم قادرة على فرض طريقتها في الكتابة لدى الكتّاب، تُملي على الكاتب ما تريد، وهي قادرة على إجبار الآخرين على العمل وفق شروطها، وأي كاتب يستطيع الكتابة بعيدا عن هذا التأثير هو كاتب حقيقي مخلص لعمله، اعتاد على دُربة طويلة من العمل بعيدا عن ضغوط البحث عن الأضواء.

العمل الفني لرفيدا أحمد

وسط هذا الجو غير الصحي ينسى الكاتب أن جمهوره من المعجبين هم من الناس الذين قد لا يملكون أدنى تمييز لمستوى جودة العمل، لكنه يتلقى المديح ويسير مطمئنا إلى أن عمله على مستوى عالٍ من الإبداع والإحكام. وفي حال أراد أحد المهتمين أن يقدم نقدا حقيقيا أو تشريحيا لهذه الكتابة، فإنه سيصطدم بنفسية هذا الكاتب المنتفخة؛ ذلك أنه يملك آلاف المعجبين دون تمييز بين مديح لا وزن له ونقدٍ حقيقي من شأنه أن يسهم في تطوير العمل الكتابي.

وبسبب سهولة النشر في هذه المواقع نسي الكتّاب رحلة المعاناة والجهد الطويلين اللتين كانت تقتضيهما عملية الكتابة والتحرير والتنقيح في سبيل حيازة رضا الناشر واهتمام القارئ خلال الزمن السابق لعصر التواصل الاجتماعي.

العمل الفني لرفيدا أحمد

بهذه الطريقة أفسر امتلاء دور النشر بالكثير من الروايات والكتب والإنتاجات الثقافية التي لا تلقى القراء، والسبب، في رأيي، يعود إلى القارئ  وتوقعاته، كما يعود إلى الكاتب.

لقد أخرجت مواقع التواصل آلاف الكتاب والروائيين، ولكن على المستوى الواقعي فإن السنوات الأخيرة لم تخرج كتابا كبارا مثلما حدث طيلة سنوات القرن العشرين التي  أخرجت من معطفها مئات الكتاب العالميين ومجموعة كبيرة من الأعمال الأدبية الخالدة.

نحن نتوقف عند ماركيز ويوسا وساراماغو وتولستوي وديستويفسكي وهيرمان هسة وفرجينيا وولف وبروست وأندريه جيد وهمنجواي وطه حسين والكثير من الأسماء الأوروبية والأمريكية والعربية، ولا يبدو أن عصر السوشال ميديا أو  مواقع التواصل الاجتماعي قادر على منحنا أسماء توازي عظمة تلك الأسماء وأدبا خالدا كذلك الأدب.

تدريجيا يفقد الأدب، أدب الرواية على وجه التحديد، قدرته على الكشف والتنبؤ والاستشراف وتشخيص الحياة بجوانبها المعقدة، ليتحول في هذا الفضاء إلى مادة إعلامية كأي مادة إعلامية أخرى تبحث عن رضا الجمهور السريع والطارئ وعن سيل من الإعجابات المدفوعة بحوافز مختلفة.

محمد العليمي: كاتب يمني، حاصل على ماجستير في الأدب. وهو عضو مؤسس في المنتدى العربي للدراسات والأبحاث، وعضو في مركز باب المندب للاستراتيجيات.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى