رأي
أخر الأخبار

علي صالح: سيرة سياسية للاعب بولينغ

في الرابع من شهر ديسمبر حلت الذكرى الرابعة لمقتل علي صالح (1942-2017) على يد الحوثيين بعد إعلانه التمرد عليهم قبل ذلك بيومين. في هذه المناسبة تُستجر في المجال العام كل الخرافات عن شخص صالح من قبل محبيه وكارهيه أيضًا، ويُعاد غرسها في الذاكرة الشعبية. لم يكن الأمر ليكون ذا أهمية لو أن المسألة بقيت في اعتقادات حول شخص توفى، ولكن المشكلة أنها اعتقادات حول شخص يُفسّر بها تاريخ اليمن الحديث وكل التحولات التي مرت على الشعب اليمني منذ نهاية السبعينيات وحتى اليوم. مفردة “اختزال الوطن في فرد” التي ابتذلتها بلاغة القوى المعارضة العربية يُحمّلها هذا السياق معنى عميقًا: هذا الاختزال يمنع العقل من التدخل لفهم قوى المجتمع التي تتصارع فيما بينها ومع الخارج فينتج عن صراعها ما نسميه لاحقًا التاريخ؛ أي أن اختزال البلدان في الأفراد هو عملٌ ضد التأريخ قبل أي شيء آخر.

دراسة شخص صالح باعتباره فردًا غير مهمة –على الأقل بالنسبة لكاتب المقال- ولكن فهمًا لتاريخ اليمن الحديث ونقدًا للثقافة السياسية يغدو نقاش شخص صالح مهمًا، ولكن ليس بالتنقيب في حياته الشخصية بل بإيضاح الحدود التي يضعها السياق التاريخي على الشخصي والخاص، والتمايز والارتباط بين الشخصي والسياسي داخل النظام؛ فالقول إن الشخصي لا يلعب دورًا في الاشتباك السياسي هو كلام يناقض التاريخ نفسه كما يناقضه ادعاء سيطرة الشخصي على العمومي تمامًا، وبطبيعة الحال لا يجوز أن نمسك العصا من الوسط ونقول إن  بين العاملَين تنافذية عالية وكل منهما يؤثر في الآخر ونكتفي بذلك؛ الأفضل أن نقترح، بأكبر قدر ممكن من الدقة، أين أثرت شخصية السياسي في النظام، وأين بالضبط كان النظام هو من يصوغ حدود الشخصية بحيث لا تخرج عنها.

أولًا: حكاية الصعود

هناك خرافة تأسيسيّة في سردية نظام صالح تقول إن صالحًا صعد إلى سدة الحكم بشجاعة انتحارية (حفر قبره وحاك كفنه كما كان يردد دائمًا) حين تهيبت جميع الرؤوس الكبيرة في الدولة تولي منصب الرئاسة الذي صار طريقًا إلى الموت المؤكد بعد مقتل الرئيسين الحمدي والغشمي على التوالي في غضون أقل من عام (أكتوبر1977-يونيو1978). هذه النظرة لصعود صالح إلى منصب الرئاسة ليست راسخة يمنيًا فحسب، بل وتُستخدم في تفسير تاريخ اليمن الحديث في مراجع أجنبية تصدر عن أشهر دور النشر الأكاديمية في العالم[1] (1).

هذه الدعاية التي تحولت إلى تفسير وتحليل للتاريخ تصور اليمن الشمالي (الجمهورية العربية اليمنية) باعتباره حقلًا مفرغًا من الصراعات الاجتماعية والقوى السياسية وتوترات النظام السياسي وصراعات العالم ومن كل شيء آخر باستثناء الأفراد وصفاتهم الشخصية، وهذا يسخّف إجابتها على أي سؤال يخص اليمن لا صعود صالح للرئاسة فحسب. هل كانت الشجاعة لوحدها هي ما ميّز صالح من الشخصيات العسكرية والحزبية التي شاركت في حروب وقادت ثورات مسلحة وصراعات سياسية طاحنة من قبل أن يُعرف اسم صالح أصلًا؟ هل كانت الإرادة، مجرد الإرادة، هي ما ستُمكن أي شخصية من الوصول إلى الرئاسة في 17 يوليو 1978؟ ألم يطمح فرد آخر للوصول إلى الرئاسة في كل اليمن الشمالي إلا علي صالح؟ ألم يكن ثمة فواعل أخرى لعبت دورًا في صعوده للرئاسة مثل شروط النظام وتوازنات الداخل وتدخلات الإقليم؟ هل كان اليمن الشمالي في بقعة قصية من العالم لا تصل إليه ولا تساهم في تشكيله الحرب الباردة والصراعات العربية والمصالح الإقليمية؟!

القول إن طموح صالح الشجاع هو ما أهله للوصول إلى المنصب لا يجيب عن الأسئلة أعلاه إجابة يمكن احترام حجتها، كما أنه يناقض مسار الوقائع كذلك، ولكي نحاول تقديم مقاربة أفضل لما حدث نحتاج للرجوع عشرين عامًا سابقة على تنصيب صالح رئيسًا لليمن الشمالي.

في عام 1958 انتسب صالح لقوات الجيش الملكي (جيش المملكة المتوكلية). كان آنذاك مراهقًا يافعًا دفعته ظروف حياته القاسية، كونه قادم من طبقة فلّاحية معدمة، إلى الجندية، وهذا كان شائعًا في المنطقة العربية منذ مرحلة ما بين الحربين العالميتين حين بدأ تشكيل جيوش وطنية وفُتح الباب أمام أبناء الفقراء والطبقة الوسطى الدنيا للدخول في العسكرية باعتبارها مدخلَ الفقراء والمحرومين البديلَ نحو الصعود الاجتماعي عوضًا عن التعليم، وقد حكى صالح في إحدى المقابلات معه أن منظر أخيه الأكبر محمد وبعض أفراد قريته الذين انتسبوا للجيش وكانوا يعودون في الإجازات بسلاحهم وملابسهم النظيفة_ كان دافعه للالتحاق بالجيش.

مع اندلاع ثورة سبتمبر 1962 دخل صالح في قواتها جنديًا، ثم انتسب لمدرسة المدرعات في منتصف الستينيات فأصبح أهم من جندي؛ أصبح قادرًا على تحريك آليات عسكرية في جيش جمهوري لم يزل في دور التخلق وسط حمم حرب أهلية زبون. إلى هنا يبدو مسار صالح عاديًا: جندي يتعلم ويترقى ببطء. ولكن أتى التحول الأكبر في حياة صالح مع حركة 13 يونيو 1974. شرح كاتب المقالة في مقالات سابقة دور نظام الحمدي في صعود صالح، وسنعيد هنا بعض الأفكار بإيجاز مع تركيز على جوانب إضافية لم تناقش في المقالة المذكورة. صعود العسكريين في 1974 لم ينتج نظامًا عسكريًا، لأن صعود الضباط لم يكن ناتج قوة الجيش بل بسبب تعدد وتضارب توازنات نظام 5 نوفمبر، أما الجيش فلم يكن محتكرًا للسلاح أولًا ولم يكن حقًا جيشًا موحدًا هرميًا ثانيًا؛ كان أقرب إلى الإقطاعيات. السياسات الإصلاحية للحمدي هي التي جعلت اليمن الشمالي يلحق بركب بقية الجمهوريات العربية آنذاك ودور مؤسسة الجيش في مجتمعاتها. فمشروع إصلاح الجيش الذي بدأ في 27 إبريل 1975 وحّد الجيش وحوّله إلى مؤسسة تخضع للتسلسل الهرمي، والأهم من ذلك أنه استكمل وظيفته الاجتماعية التي وعدت بها الجمهورية: مدخل الحراك الاجتماعي على أساس الكفاءة وليس المحتد الاجتماعي، كما أنه شد البيروقراطية ومتّنها فأضحت أقوى أجهزة التنظيم الاجتماعي والاقتصادي بلا شركاء. وهكذا أصبح علي صالح، القادم من أفقر الطبقات الفلاحية، قائدًا عسكريًا للواء تعز في عام 1975، أحد أهم مناطق البلاد وبرتبة رائد، مع التذكير بأن رأس النظام الذي رقّاه وصاحب أعلى رتبة عسكرية وهو إبراهيم الحمدي كان برتبة مقدّم.

هذا التحوّل يشير إلى أمرين مهمين في التحليل لاحقًا: الأول عام، وهو أن الجيش أصبح القوة الأعتى في المجال العمومي؛ لم يعد سهلًا بعد بناء جيش حديث في مجتمع غير حديث أو ليست فيه تنظيمات جماهيرية ضخمة_ أن تخرج السلطة من الجيش أو تستغني عن الاعتماد عليه. والثاني أن علي صالح أضحى في 1975 من أكبر ضباط الجيش رتبة وأقواهم موقعًا.

ثم جاء انقلاب أكتوبر 1977 على إبراهيم الحمدي، وكان عمليًا انقلابًا من جناح في النظام بقيادة صديقه ونائبه أحمد الغشمي على جناح الحمدي الذي تمت تصفيته بعنف غير مسبوق في تاريخ الجمهورية الوليدة. كان صالح أحد أركان الانقلاب، وتقول شهادات إنه شخصيًا من أطلق الرصاص على الحمدي في بيت الغشمي، ولكنها تبقى أقاويل، وحتى إن صحت فهي ذات قيمة هامشية؛ فليس مهمًا من الناحية التاريخية من ضغط الزناد على الحمدي، ولكن الأهم، والمثبت، هو مشاركة صالح في الانقلاب. ثم استكملت طوال عام لاحق (من أكتوبر 1977 إلى أكتوبر 1978) مهمة تصفيه النظام من جناح الحمدي وكل المتعاطفين مع أفكاره من اليساريين (الاشتراكيين والناصريين) تثبيتًا لحكم الغشمي، وشارك صالح كذلك في تلك المهمة فيما يعرف بأحداث الحجرية في ربيع 1978.

هكذا صار الضابط الكبير أحد أركان النظام وأوتاد خيمته. ثم إن هناك أمرًا شخصيًا هامًا له نصيب في ترقي صالح وهو الصداقة العميقة التي ربطته بالغشمي وتعود إلى زمالتهما في الكتيبة الأولى مدرع (الغشمي كان قائدها وصالح أركان حربها)، ثم توطدت أكثر حين ذهب الغشمي للعلاج إلى أسمرة في إريتريا وكان صالح مرافقه والساهر عليه. هذه الصداقة جعلت الغشمي يثق في صالح ويعتمد عليه في انقلابه وفي بناء نظامه. وتأكيدًا على هذه الثقة تقول بعض الشهادات إن الغشمي كان يضرب المثل بعلي صالح حين يريد إظهار خلوه من الرحمة تجاه من يريد إبعاده من السلطة قائلًا: قسمًا لو شممت رائحة مؤامرة ضدي لقسمت صاحبها نصفين، ولو كان علي صالح!

ثم قتل الغشمي بحقيبة حملها دبلوماسي رسالةً من رئيس اليمن الجنوبي سالم رُبيّع علي (سالمين)، في حادثة اغتيال فريدة من نوعها، حينها جيء بالقاضي العرشي رئيسًا انتقاليًا بحكم كونه رئيس مجلس الشعب التأسيسي، ورُقّي علي صالح إلى منصب رئيس أركان الجيش.

  • هنا يتوجب تلخيص الحقائق التالية:
  • -الجيش كان أقوى مؤسسة في الدولة بفعل إصلاحات الحمدي، والنظام نقي من المعارضين وكثير من الضّباط الأقوياء.
  • -ثمة رئيسان قتلا، الأول بانقلاب دموي شارك به صالح، والثاني كان مجرد اغتيال لا يحدث كثيرًا في العالم ولم يكن انقلابًا، وفي كلام آخر، كان المنصب خطيرًا، ولكنه، تحديدًا على علي صالح، لم يكن أكثر خطورة مما كان عليه في 74 أو 67.
  • -سلطة الغشمي كانت قد ترسخت، والدليل قدرتها على فرض نفسها لا بالانقلاب فحسب بل وبخلع جناح سلطة الحمدي دون أن تفشل أو تنهار.
  • -السعودية منذ اندلاع ثورة سبتمبر 1962 أضحت لاعبًا يجب أخذه بعين الاعتبار في سياسة اليمن الشمالي.
  • -صار المقدّم علي صالح ثاني رجل في الجيش بصعوده إلى رئاسة الأركان.
العمل الفني ل سعد الشهابي

باستخدام هذه الحقائق يمكننا الآن تحليل صعود صالح بشيء من الدقة. فلأن الجيش بعد إصلاحات الحمدي أصبح القوة الأولى في الدولة التي لا زالت تخطو خطوتها الأولى نحو التحديث، كان من الصعب تخيل  ملء منصب الرئاسة بشخصية خارج الجيش، وفي هذه الحالة لم يكن مرشحًا لهذا المنصب من العسكريين إلا القائد العام وزير الدفاع (علي الشيبة) أو رئيس الأركان (علي عبد الله صالح)؛ أي أن “المنافسة” و”خوف جميع الرؤوس من الجلوس على كرسي الرئاسة المميت” التي تذكرها السردية الشائعة عن صعود صالح كانت في واقع الحال محصورة بين عسكَريَّيْن فحسب. هذا الادعاء النظري يتأكد –أو يُستنتج- من الواقع التاريخي؛ فكثير من القوى السياسية والقبلية أسست بعد مقتل الغشمي ما يعرف بـ”اللقاء الوطني” منعًا لوصول ضابط إلى الرئاسة وإرجاعًا للسلطة إلى “قيادة مدنية”. بغض النظر الآن عن الرأي في هذه المسميات وما فيها من خلط غير بسيط، هذه كانت رؤية قوى اجتماعية وسياسية مختلفة، ولكنها مع ذلك عجزت عن فرضها؛ فلم تكن هذه القوى موحدة فعلًا، وكانت بينها اختلافات وطموحات للتحالف مع الرأس الجديدة للنظام ضد بقية الأطراف، كما لم تكوّن منظمة جماهيريّة بإمكانها الحشد الشعبي وتعويض غياب التحديث الاجتماعي بالثقل الجماهيري لموازنة ثقل الجيش في الدولة. بالإضافة إلى ذلك كان هناك العامل الإقليمي الذي لا تذكره خرافة “الشجاعة وحياكة الأكفان”؛ فقد أصرت السعودية على دعم علي صالح وضغطت بقوة على حلفائها اليمنيين[2]  للقبول به رئيسًا، وهكذا انفرط عقد اللقاء الوطني وصعد صالح إلى سدّة الحكم بسلاسة وهدوء.

إذن، أين دور الشخصي من هذا كله؟ في واقع الحال كان دورًا موجودًا، ولكنه ثانوي؛ كان صالح جريئًا وطموحًا للحكم وظل طوال المرحلة الانتقالية بعد مقتل الغشمي يتواصل مع ضباط الجيش ومشائخ القبائل والسياسيين والسعوديين لكي يفرض نفسه رئيسًا، ولكنه كان يفعل ذلك بمنافسة شخصية واحدة تؤهلها تركيبة النظام ودرجة تطور الهيئة الاجتماعية وهي القائد العام وزير الدفاع علي الشيبة، وهذا الضابط كبير الرتبة والمناصب لا يذكر له دور مهم في التاريخ السياسي ولم يكن يطمح للرئاسة بعد مقتل الغشمي؛ يبدو أنه كان ضابطًا محترفًا في حقبة تاريخية لا مكان فيها إلا للضباط ذوي الطموح السياسي. على الجانب الآخر، كان صالح هو موضع ثقة الغشمي وركن نظامه المهم مع كل ما يعنيه ذلك من علاقات وامتيازات، وهذا يعني أن صالح عمليًا لم يكن حينها ينافس في الجيش أحدًا على ذلك المنصب؛ فقد كان الأقوى في الجيش، والثاني في هرمه، وصاحب الطموح، وأي منافسين آخرين من خارج الجيش هم ضعفاء وأعجز من منافسته للأسباب المذكورة سابقًا، وفوق كل ذلك كان صالح من تحمّست له القوة الخارجية صاحبة التأثير الأهم في الشأن الداخلي اليمني ودعمته بكل ثقلها لكي يصعد لسدة الحكم.

تؤكد سلامة هذا التحليل أمران: الأول هو تصريح صالح في مقابلة في عام 2003 بأنه لم يتعرض مطلقًا لمحاولات اغتيال، والثاني أن هناك في تاريخ نظام صالح محاولة انقلابية وحيدة (في أكتوبر 1978)، وهذه من علامات استقرار الأنظمة. وحتى هذه المحاولة لم تكن دموية ولم تنتوي تصفية صالح أو أعوانه، رغم أن وصول المنقلبين لصالح لم يكن صعبًا إذا ما تذكرنا أن أحد من رتبوا للانقلاب وهو وزير الشؤون الاجتماعية والعمل عبد السلام مقبل كان برفقة صالح يوم الانقلاب. المنقلبون لم يفهموا التحولات التي حدثت للنظام في عهد الحمدي، وأنه كان لزامًا عليهم للانقلاب على صالح تصفيته وجناحه كما حصل مع نظام الحمدي، ودفعوا ثمن مناقبيتهم الأخلاقية غاليًا بأن أعدموا سريعًا، المدنيون منهم والعسكريون، ومُنع أهلهم حتى من معرفة مكان قبورهم.

كان الكرسي خطرًا على كل من سيحاول الاقتراب منه من خارج جناح الغشمي فقط.

ثانيًا: خرافات الاستمرار

إذا كانت خرافة “حياكة الكفن” تفسر صعود صالح للحكم وتصوّر تقلده الرئاسة، قبل أن يفعل أي منجز أو شيء للبلد التي سيحكمها، عملًا بطوليًا بحد ذاته يستوجب الشكر والعرفان الشعبي_ فإن خرافة “الدهاء” القائلة إن صالحًا صاحب ذكاء استثنائي بدليل حكمه الطويل لليمن_ كانت لها وظيفتان: الأولى “تفسير” استمرار صالح في الحكم، والثانية تأبيد هذا الحكم بتصوير اليمن بلدًا عجيبًا لا يصلح لأنظمة حكم أو مستبدين آخرين، ولا يقدر على حكمه إلا داهية خطير لا يتكرر.

إذا كانت خرافة الصعود معادية أولًا للعقل والتاريخ فإن الثانية معادية فوق ذلك للأخلاق وأزعم أنها لعبت دورًا في تسميم الثقافة الاجتماعية وقيم المجتمع؛ مضمون الدهاء المقصود في هذه الخرافة كما يشرحه ويدلل عليه المؤمنون به ليس فيه إثبات لأي ذكاء استثنائي أو رؤى سياسية خطيرة. يذكر مثلا إقصاؤه للحزب الاشتراكي، ولكن هذا الإقصاء كان مثلاً عبر اغتيال قرابة 150 كادرًا من كوادر الحزب الاشتراكي في فترة تحالفه مع الحزب بعد الوحدة (1990-1994)، ووقوفه مع العراق غادرًا بالكويت والخليج في عام 1990، واستخدامه الحوثيين للقضاء على قوة علي محسن في الحروب الست، هذا غير قصفه لجنة الوساطة في أثناء اشتباكات الحصبة عام 2011 وبينهم رجالاته والمخلصون له ومنهم من عمل معه منذ صعوده للسلطة_ فقط لكي يتخلص من أحد خصومه. تحالفه مع الحوثيين ومساعدتهم في غزو صنعاء انتقامًا من الناس والأحزاب وكل من وقف في ثورة 2011 ضده، وغيرها من المواقف والأحداث. إن معنى الدهاء هنا ليس الذكاء وإدراك اتجاه رياح السياسة مبكرًا بل القدرة على ممارسة الغدر والتحلل من أي قيم في التعامل مع الخصوم والحلفاء. مضمون بروباغندا الدهاء ساهم في تصوير السياسة الداخلية ميدان يتحلل اللاعب فيه من كل قيم أخلاقية مشتركة. هذه الخرافة سهّلت على كل سياسي لاحقًا (ونرى منهم الكثير الآن) اتباع أقذر الأساليب في العمل السياسي واستباحة كل الحدود باعتبار ذلك من علامات الدهاء السياسي الذي سيقبل به قطاعات شعبية تربت عقودًا على ثقافة الإعجاب بالانحطاط.

بعيدًا عن هذا المضمون “الفريد” لفكرة الذكاء السياسي في بروباغندا نظام صالح وقواعده الشعبية، فكرة دهاء صالح “النادر” بالمعنى التقليدي للكلمة تحتاج ذاتها إلى نقد موسّع. إذا اتفقنا أن الدهاء السياسي هو امتلاك معرفة دقيقة بتوازنات السلطة وإدارتها وتنفيذ الخطط والبرامج الخاصة وكسب التأييد الشعبي وإدراك أبعاد السياسات التي يتخذها السياسي والإدراك اللماح لتغير السياسيات الإقليمية والدولية، فلنتأمل أهم محطات ومخططات صالح في السياسة منذ صعوده للسلطة وحتى مقتله، ومعيار اختيار هذه المحطات هو دورها في تشكيل النظام، والاقتصاد، والسلم الأهلي:

  • حرب 1979 بين اليمنين الشمالي والجنوبي

شارك صالح بانقلاب الغشمي وبتصفية الجيش من كثير من الكوادر العسكرية واستفزاز المليشيات اليسارية التي كان الحمدي قد عقد معها تفاهمات لإيقاف نشاطها في المناطق الوسطى، هذا الأمر أفضى في نهاية الأمر إلى انخفاض كفاءة الجيش وقدرته. فعل الغشمي وصالح ذلك دون أخذ وجود المليشيات المذكورة والتوتر العسكري والسياسي مع نظام اليمن الجنوبي بعين الاعتبار. كاد صالح أن يدفع ثمن تلك السياسة الواضحة نتائجها لخبير سياسي فضلًا عن رجالات الدولة_ في حرب فبراير 1979 حين انهارت قوات الجيش في الشمال أمام الزحف من الجنوب، ولولا تدخل الجامعة العربية والاتحاد السوفيييتي فلربما كان نظام صالح الوليد قد انتهى ببنادق مقاتلي الجبهة الوطنية التي كانت تشق طريقها نحو صنعاء.

  • غزو العراق للكويت

رسميًا لم يؤيد اليمن غزو العراق للكويت مباشرة، ولكن مندوب اليمن في الأمم المتحدة –وكان اليمن حينها ممثل المجموعة العربية في مجلس الأمن- “عبد الله الأشطل” امتنع عن التصويت على قرار مجلس الأمن رقم 660 في الثاني من أغسطس عام 1990. أدان القرار الغزو العراقي للكويت وطالب العراق بالانسحاب غير المشروط من الكويت ودعم جهود حل الأزمة بين الكويت والعراق خاصة جهود الجامعة العربية، ولم ينص القرار على أي فعل عسكري تجاه العراق، ومع ذلك فإن اليمن امتنع اليمن عن التصويت على القرار، ما يعني دعمًا ضمنيًا للغزو العراقي، هذا علاوة على المظاهرات التي أخرجها النظام دعمًا للغزو العراقي. حاول صالح لاحقًا في لقاء مع جريدة الوطن الكويتية عام 1996 تحميل نائبه علي سالم البيض مسؤوليةَ الموقف اليمني في ذلك اليوم[3]. كان من المفترض أن يكون صالح منتبهًا لتغير السياسة الدولية في نهاية الثمانينيات أكثر من بقية الحكام العرب؛ فأكبر منجز سياسي سُجّل في عهده وهو الوحدة اليمنية التي قامت في 22 مايو 1990 كان إلى حد بعيد ناتج أفول الاتحاد السوفيييتي –قبل أن ينهار رسميًا في نهاية عام 1991- وكان جليًا لبعض القادة أن الزمن القادم هو زمن القطب الأمريكي الأوحد وحلفاؤه وعلى رأسهم الخليج العربي. رغم كل ذلك فشل صالح في إجراء حسابات سياسية صحيحة وأدى موقفه ذاك إلى إحداث كوارث اجتماعية واقتصادية علاوة على الجرح التاريخي مع المحيط الإقليمي الأهم لليمن استراتيجيًا وهي دول الخليج.

العمل الفني ل سعد الشهابي
  • تغيير تركيبة النظام بعد حرب 1994

بعد انتصار معسكره في حرب صيف 94، بدأ صالح بإجراء تغييرات كبرى في نظامه وسياساته الاجتماعية والاقتصادية ، خلاصة هذه التغييرات كان ركل التحالفات التي استقر عليها النظام منذ 1979، وضرب برنامج الإصلاح المالي والإداري الذي بدأ في عام 1995 قواعدَ النظام الشعبية. ظهرت باكورة نتائج هذا التحول في مظاهرات 2005 في صنعاء، فأجواء الانتخابات الرئاسية في عام 2006، ثم أعلنت عن نفسها بقوة في ثورة فبراير 2011: الرئيس الذي تحققت في عهده الوحدة بين الشطرين، أعظم أحلام الأمة اليمنية، لم يبقَ أحد إلى جانبه، بل واتحدت ضده كل القوى، وسارت الملايين في الشوارع مستعدة لمواجهة الرصاص والتضحية بنفسها لإزاحته من الحكم وتغيير نظامه!

كان صالح الذي لم يكن يفوت فرصة في مقابلة أو لقاء صحفي يدور حول سياسته أو أسلوب حكمه دون أن يتحدث عن حكمة التوازنات وضرورتها لاستقرار السلطة_ من قاد عملية تحطيم توازنات نظامه قبل ثورة فبراير بعشرة أعوام على الأقل.

  • التلاعب بالقوى الطائفية والدينية المقاتلة

وهذا أمر يذكر من ضمن ملامح “الدهاء” في صالح. في واقع الحال أسلوب صالح هذا لم يكن تلاعبًا سياسيًا مأمونًا بقوى مدنية كما تفعل القوى الديمقراطية والنُّظم الاستبدادية العاقلة على السواء، بل كان تفخيخًا للمجتمع نعيش انفجار ألغامه اليوم، وتلاعبًا بالدم والجريمة، وتفاخر محبي صالح بدهاء زعيمهم يؤكد ما قلناه سابقًا عن إفساد بروباغندا النظام لأخلاق التضامن الوطني والاحترام الأخلاقي بحدوده الدنيا لأرواح المواطنين. ولكن بغض النظر عن ذلك وبالحديث عن عقابيل هذه السياسة على النظام السياسي نذكر أولًا أن تحالفاته مع الجبهة الإسلامية (الإخوان المسلمون قبل 1990) فَلَحَت التربة الثقافية أمام بقية بذور التطرف الديني والطائفي (السني والزيدي)، وتحالفه مع الجهاديين الأفغان واستخدامهم في الصراع مع الاشتراكيين في حرب 94 كانت من نتائجه الهجوم على المدمرة يو إس إس كول الذي كلف النظام الكثير من المشاكل آنذاك. أما استخدامه الحوثيين لضرب اللواء علي محسن فنتج عنه في 2010 سيطرة مليشيا طائفية على رقعة من البلاد وتثبيت فشل النظام في أن يكون نظامًا كفئًا أمام اليمنيين والعالم بعد أن كان غداة حرب 1994 قد وصل إلى مرحلة سيادة كاملة على التراب الوطني. ثم لاحقًا كلّف هذا “التلاعب” بالحوثيين صالحًا حياته.

  • محاولة احتواء ثورة فبراير

حاول صالح في البداية استيعاب المظاهرات وهي لا تزال موجات صغيرة تتوالى –قبل أن تتحول إلى طوفان بعد إعلان تنحي الرئيس المصري حسني مبارك عن السلطة ثم بُعَيد جمعة الكرامة في مارس- ولكنه فشل في ذلك، والأسباب هي سياسات سابقة أشير إليها أعلاه: فالكذب الفاحش منذ 2006م والغدر الدائم بالأصدقاء وعدم الوفاء بالتعهدات وخرق الاتفاقات وغيرها مما عدتها بروباغندا النظام مستلزمات دهاء صالحي نادر_ ذلك كله محا احترام الناس والقوى السياسية لكلمة رأس النظام؛ فأضحت وعوده بلا قيمة وفقد شخصه المصداقية. هذا علاوة على ما ذكرناه عن دور التغييرات في تركيبة النظام وتوجهاته الاجتماعية بعد حرب 94 في توسيع ثورة فبراير وتصليبها أمام النظام الذي عُزل وحشر في الزاوية[4].

  • التحالف مع الحوثيين/مواجهة الحوثيين

بعد أن حاول قيادة ثورة مضادة مدعومة شعبيًا داخل صنعاء ولم يفلح، توصل صالح أخيرًا أنه يجب الاستعانة بالسلاح الحوثي قفّازًا يمسك به السلطة بمساعدتهم على غزو عمران فصنعاء. ربما كان ما حسم أمره نحو هذا القرار الخطير –وربما الأخطر في تاريخه الشخصي وتاريخ الجمهورية اليمنية- هو تمديد مجلس الحوار الوطني الفترةَ الانتقالية عامًا إضافيًا في يناير 2014، وبالتالي التمديد للرئيس هادي. فعل صالح ذلك وتحالف مع الحوثيين دون أخذ الاعتبارات التالية:

-أن تحالفه مع الحوثيين هو تحالف مع الوريث التاريخي للإمامة، وهو المدين بوجوده السياسي للجمهوريّة، والقلب الصلب لشرعية الدولة وإمكانية تبرير وجود النظام كلاهما يعيشان على الاجماع الجمهوري.

-أن الحوثيين يتحالفون موضوعيًا وذاتيًا مع إيران التي دخلت معها السعودية صراعًا محتدمًا في سوريّة وميادين أخرى، وكان ذلك يذاع ويناقش في وسائل الإعلام وليس سرًا.

-علي صالح بصفته رئيسًا سابقًا للجمهورية يدرك أن الشرط الجيوسياسي لليمن مختلف عن سوريّة، وأن دور الخليج في اليمن أقوى من دوره بالشام والعراق.

-سمح للحوثيين بإدخال قواتهم إلى صنعاء، المدينة التي لطالما رأى فيها قلعته الحصينة، وبنهب مخازن جيش الدولة انتقامًا من القوات التي انشقّت عن نظامه في ثورة فبراير. كل القوى التي تحالف معها صالح منذ صعوده للحكم (الإخوان، مشائخ القبائل، الحزب الاشتراكي في أولى سنين الوحدة) لم يَسمح لسلاحها بأن يزاحمه في صنعاء، وكان الحوثيون الاستثناءَ، وهم الذين خاض ضدهم ستة حروبٍ بكل ضغائنها.

-في عام 1994 خاض صالح الحرب باسم الشرعيّة، وهو يدرك أكثر من غيره قوّة هذا الاسم والإمكانيّات الذي يقدّمه، ربما لهذا كان صالح يصر يائسًا على أن هادي بلا شرعية، ويحل محلها شرعية “ثورة 21 سبتمبر“.

ولكن هذا لم يجدِ شيئًا؛ ظل صالح حتى آخر يوم من حياته متمردًا على الشرعية ومتعاونًا مع مليشيا طائفية سواءٌ في نظر قطاعات شعبية واسعة أم دوليًا.

بعض الاعتبارات لا يقال الآن بأثر رجعي ادّعاءً للحكمة؛ كثيرون كتبوا وتحدثوا عنه مطوّلًا منذ أن تحالف صالح مع الحوثيين.

ثم مع محاولته الفكاك من تحالفه مع الحوثيين ظهرت قدراته الحقيقية كسياسي وعسكري على المستوى الشخصي. الرجل الذي حكم البلاد لثلث قرن ويعرف دروب وأزقة البيروقراطية وتُجبى إليه معلومات أجهزة أمن عاتية، والذي ترأس نظامًا وأشرف على تشكيل جيوش وقاد عملية إعادة تشكيل النظام وتتالت عليه أجيال من الكوادر_ هذا الشخص نفسه لم يدرك أولًا اللحظة المناسبة للانقلاب على حليفه، ولم يستطع ثانيًا تقدير قوّة صفوفه وقوة خصمه، ولم يستطع تمييز وضعه آنذاك من وضعه رئيسًا للنظام؛ فقُضي عليه وعلى حزبه في سحابة يومين!

  • النجاح الكبير

من السرد أعلاه، يبدو أن سوء التقدير وغياب حكمة القرار هو القاعدة في نظام صالح على عكس ما هو شائع بل ومكرس كأنه عقيدة في المجال العام اليمني -وسنأتي لنقاش هذا لاحقًا- ولكن لديه بالطبع نجاحات وتكتيكات صائبة في شؤون أقل خطورة، مثل حل مشكلة جزيرتي حنيش بعد احتلالهما من إرتيريا. ولكن لكل قاعدة استثناء، وهذا الاستثناء كان حرب 1994. سلوك جناح صالح كان مدروسًا، من الاغتيالات ثم التحالف العملي مع الإصلاح ضربًا للحزب الاشتراكي فالحنث بالوعود ونكث اتفاقية العهد والاتفاق ودخول الحرب. الآن من منظور تاريخي يبدو ذلك النصر أكبر الكوارث في نظام صالح لأنه كان مفتتح التغييرات في النظام والاقتصاد السياسي التي ساقت بعد ذلك إلى اهتراء البنيان الاجتماعي ثم الثورة وبدء انقراض عهد صالح، ولكن بالحديث عن الحسابات الدقيقة وتقدير الموقف، في مرحلة الوحدة الأولى (1990-1994) أجرى جناح صالح في النظام الحسابات الصحيحة والمضبوطة، وحقق نجاحه الأكبر.

العمل الفني ل سعد الشهابي

خاتمة: استمرار الخرافات

  ما ذكر في المحاور أعلاه محاولة لتقديم أفكار نقدية حول أطول فصل في تاريخ اليمن الحديث عبر دحض التفسيرات والتحليلات الخاطئة (الأكثر شيوعًا). ولكن يبقى سؤال مهم عالقًا: كيف للخرافات حول شخص صالح أن تستمر وتعيش حتى يومنا هذا؟

في البداية علينا أن نفهم الشرط الذي يسمح لخرافات حول القادة السياسيين بأن تتنشر أولًا وأن تصبح في صلب الثقافة السياسية ثانيًا. هذا الشرط هو غياب فهم معنى النظام السياسي بدقّة؛ مصدر الخرافات هنا هو التعامل مع رأس نظام قوي باعتباره مجرّد لاعب ضمن لاعبين آخرين مثل الأحزاب والنقابات والقبائل والبرجوازية، وسبب هذا بدوره هو آثار عهد الإرياني والنصف الأول من عهد الحمدي القصير، حيث كانا قائدين لنظام حساس يحاول التوفيق بين إقطاعيات بيروقراطية وكانت إمكانياتهما الشخصية وقدراتهما على التواصل مع الأطراف المختلفة تلعب دورًا وازنًا في قدرتهما على إدارة نظام مفكك وخطير التوازنات. ولكن كما أُشير أعلاه حصل التحول في عهد الحمدي وأضحى النظام مذّاك قويًا له اليد العليا على بقية اللاعبين الذين صَغُرَت أحجامهم أمام عملاق الدولة. قدرة صالح على التلاعب بالقوى حدث ببساطة ليس لصفاته الشخصية، بل لأنه كان يحكم نظامًا، هذه الحقيقة هي ما جعلت التلاعب نفسه ممكنًا، ولم تكن تضره نتائج تلاعباته لأنه أيضًا كان يحكم نظامًا ولم يكن يلعب ضد أندّاء؛ لا قوة سياسية أو فرد ندٌ لنظام قوي. عدم فهم هذه النقطة يقف وراء خرافات الدهاء الجهنمي والقدرات الخاصة الخارقة لعلي صالح بوصفه فردًا، ويكمن وراء التشبيه سيء الذكر “الرقص على رؤوس الثعابين” الذي لم يستح أحد –ولا يستحيي حتى الآن- من تكراره على ما فيه من إهانة لليمنيين[5].

كان صالح يحب لعب الكرْدحة (البولينغ) والبلياردو، وهما لعبتان فرديتان لا تعرفان العمل الجماعي، وكان ذلك لائقًا بعلي صالح السياسي: كان لاعب بولينغ وحيدًا لم يقاسمه طرف الحكم منذ صعوده للسلطة وحتى ثورة فبراير إلا الحزب الاشتراكي في الأربع سنوات الأولى من عمر الوحدة اليمنية. كان صالح في الحكم يلعب السياسة مثل لعبه البولينغ بلا منافسين: يدحرج الكرة باتجاه أسطوانات الخشب الواقفة بانتظار ضربته بلا حراك، وذلك لأنه كان رأس النظام والجيش؛ لم يكن راقصًا من أي نوع، ولا كانت التوازنات التي توجب أخذها بعين الاعتبار تصل إلى خطورة الثعابين. وإن ضاعت الضربة أو خرجت الكرة عن المسار، فلن يغير هذا من نقاطه ومركزه في اللعب؛ لا ندّ، فعلًا، يلعب ضده، لأن النظام ذو رأس واحد.

ولهذا أيضًا، كل القرارات والسياسات الكبرى الخاطئة التي ذكرت في المحور الثاني لم يدفع صالح أبدًا ثمنها آنذاك بل اليمنيون واقتصادهم ومعاشهم وحرياتهم واحترامهم في العالم؛ أما صالح فكان في قمة الهرم، لا تصله مباشرة نتائج سياساته وقراراته، هذه ميزة أن تكون رأس نظامٍ متماسك، وعليه فليس صحيحًا القول الشائع إن صالحًا “نجا” بحنكته من قراراته وسياساته الخاطئة والمدمرة الكثيرة؛ هو –بوصفه فردًا- لم يكن معرضًا لخطرها أصلًا حتى ينجو منها. ولذلك أيضًا لم يبدأ صالح بدفع أثمان غياب الحكمة حين فقد قوته في الدولة، بل لمّا بدأ يفقد مكانه في النظام. تعنّت في وجه الثورة الشعبية رغم أن نظامه بدأ في التحلل منذ جمعة الكرامة في 18 من مارس عام 2011، وكان واضحًا أن الثورة فَلَقت النظام ولكن صالحًا أبى أن يجري الحسابات الصحيحة، بل وخطى خطوة هجومية فاصلة بفض اعتصام ساحة الحرية والمعروف بـ “محرقة تعز”. يبدو أن الجناح الذي بقي مع صالح ولم ينشق رسميًا ولكنه ارتأى أن على الرئيس الرحيل من السلطة حفاظًا على البلاد بل وعلى النظام نفسه_ فقد الأمل بعد تلك المذبحة في إمكانية إقناع صالح، ومعه جناح الاستماتة، بالتنحي. ولم تمر أربعة أيام على فض اعتصام ساحة الحرية بتعز حتى أصبح تصدع النظام مرئيًا في الثالث من يونيو 2011: محاولة اغتيال علي صالح في عقر داره (بالمعنى الحرفي) بمتفجرات زرعت –كما روى النظام- في جامع دار الرئاسة_ محاولة اغتيال خرج منها متفحّم الجسد يصارع الموت.

بعد أن خرج صالح من منصب رئيس الجمهورية بدأ يواجه عواقب كل سياسة يتخذها رغم أنه كان أقوى طرف بالسلاح والمال والتشكيل الحزبي في ساحة الصراع السياسي، ولكنه لم يعد الرئيس. فُرضت عليه وعلى أسرته العقوبات الدولية باعتباره معرقلًا للمرحلة الانتقالية، وضربت بيوته وقواته في الحرب التي فجّرها بالتحالف مع الحوثيين، ثم نكب آله ودمر حزبه ودفع حياته ثمنًا لسوء تقدير أخير؛ الشيء الذي لطالما وقع فيه دون أن يصيبه مكروه.

على الجانب الآخر، هناك رغبة دفينة في دخيلة الحزبي لجعل صالح سياسيًا خارقًا؛ فالمعارضون يمكنهم بذلك الجمع بين تفسير انتصاره عليهم وإنكار ضعفهم؛ فهم هزموا لا لأن تنظيماتهم اهترأت أو لأنهم لم يسبروا تركيبة وقوة النظام، ولكنهم هزموا لأن خصمهم فلتة في عالم الأفراد والرجال. لهذا كان المعارضون الحزبيون في مجالسهم الخاصة يتحدثون عن دهاء وخطورة صالح بتلذذ غريب لا يمكن فهمه خارج التحليل أعلاه إلا بعلوم النفس والسلوك. أما الموالون والمثقفون فالخرافات تعلل محبة بعضهم الحقيقية له، وتبرر للبعض الآخر انتهازيته ونفاقه للنظام ورئيسه.

العامل الثالث هو الآلة الدعائية للنظام وعلى رأسها شخص صالح نفسه. لا يمتلك صالح مقومات كاريزماتيّة تقليدية؛ كان قصير القامة ضئيلها، وغير مفوه ولا يتمتع بثقافة معقولة، ويبدو أن ما يعد “عيوبًا” في شخصيات القادة عادة أضحى خصالًا محمودة؛ فثقته الهائلة في نفسه والضرب عرضَ الحائط حقيقةَ أنه ليس خطيبًا بليغًا أو مؤثرًا جعلته يبدو شبيهًا بعموم الناس وبالتالي قريبًا منهم، هذا علاوة على منبته الشعبي الذي فتن الكثيرين في البداية –ومنهم عبد الله البردوني في كتابه “اليمن الجمهوري”- وصعّد صالح إلى مستوى تجسيد الوعد الاجتماعيّ الذي قطعته ثورة 26 سبتمبر، خلافًا للغشمي والحمدي والإرياني القادمين من طبقات اجتماعيّة مرموقة في العهد الملكي.

أما آلة النظام الدعائية فقد كانت جبّارة التأثير رغم كل النكات التي كان بعض المثقفين يطلقونها على مستواها الرديء؛ كان جهازًا ناجحًا في كثير من الأحيان واستطاع تغليب وتكريس نظرته لقضايا ورؤى كثيرة منها تضخيم دور شخص الرئيس في النظام، ودراسة هذا الجهاز وآلياته في اليمن يحتاج بدوره نقاشًا مفصلًا ليس هذا مكانه.

العامل الرابع هو تربّع صالح على عرش السلطة لفترة طويلة، هذه المدة تسمح بمرور قوافل من المثقفين والدبلوماسيين والسياسيين على هذه الشخصية التي يبهر مركزها الآخرين بدون وعي أحيانًا؛ فبعض الدبلوماسيين الأجانب أبدوا اعجابهم بشخصية صالح، وكثير من السياسيين اليمنيين يحكون عن ملكاته الشخصية مثل قوة الذاكرة وبراعته في القنص وحضور بديهته وأشياء من هذا القبيل_ وهذه صفات ومهارات جيدة قد لا تلفت أحدًا إلى صاحبها إن كان في موقع اجتماعي عادي، ولكن ارتباطها بشخص الرئيس يضاعف ألقها وقيمتها، وتخدم هذه الحكايات بدورها صورته مميزًا وخطيرًا و”حاكمًا بالفطرة” كما كُرّست لعقود عبر الصحف والتلفزيونات والمناهج الدراسية وجلسات المثقفين ومجالس الحزبيين.

تأثير المنصب يمكن رؤيته في علي صالح نفسه. قبل 2011 كان صالح حين يتحدث إلى القنوات التلفزيونية يحاول أن يتحدث بوصفه رئيسًا للدولة فيضبط ألفاظه وحركات جسده، ولكن حين اقترب الخطر من مقعده نسى كل هذا واستباح التحدث بألفاظ غير لائقة وإصدار حركات مثل الغمز عند الحديث وضحكات مدعي الذكاء وأشياء شبيهة كان يحكي بعض من عرف صالحًا عن قرب أنها فيه فعلاً في مجالسه الخاصة (وهي في الحيز الاجتماعي من علامات الجاذبية عند كثيرين على كل حال) ولكننا لم نرها إلا منذ 2011، حين كان صالح يستخدم طرقًا غير أخلاقية بدون تحفظ مثل غمزه ولمزه عن الاختلاط بين الجنسين في ساحة التغيير بصنعاء، أو طريقة حديثه عن السياسيين والأحزاب والرئيس هادي في مقابلاته التلفزيونية.

العامل الخامس والأخير هو أن اليمن، بوصفه بلدًا طرفيًا وهامشيًا في العالم، لا يحظى باهتمام بحثي كبير غربيًا باستثناء مواضيع القاعدة والإرهاب وما إلى ذلك. هذا أمر يسهل على باحثين متوسطي المستوى التخصص في تاريخ اليمن الحديث وكتابة الكتب عنه دون بحث حقيقي ومنهجي لتحليل النظام والاقتصاد السياسي والتأريخ لتحولات السلطة وتوازناتها. فبقي بعض الباحثين –السيئين منهم والجيدين- أسرى خرافات النظام عن رأسه باعتبارها أداة لتفسير تاريخ اليمن الحديث!

————————-

[1] مثلاً: Asher Orkaby, Yemen: what everyone needs to know, oxford university press 2021, p 68.

[2] مذكرات الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر: قضايا ومواقف، ط2 (صنعاء: دار الآفاق للطباعة والنشر، 2008) ص 233.

[3] ليس هذا جديدًا. فعلي صالح لم يعلن تحمل مسؤولية أية سياسات خاطئة أو كارثية اتخذها أو عمل بها نظامه رغم مدة عمله الطويلة بالسياسة حاكمًا ثم متحالفًا مع الحوثيين. ألقى بتهمة الموقف من غزو الكويت على البيض، وفي 2011 ألقى تهم الفساد على خصومه علي محسن وحميد الأحمر، وبعد ذلك ألقى بتهمة إدخال الحوثيين إلى صنعاء على هادي والسعودية. حتى حين ألقى خطابه في يوم 2 ديسمبر 2017 الذي أعلن فيه الحرب على الحوثيين ظل يهاجم هادي بألفاظ مستغربة من سياسي يعلن عن لحظة مصيرية في تاريخه الشخصي.

هذا كان أسلوبًا في النظر إلى الذات والدنيا ولم يكن مجرد هنّات أو ناتج ضعف مؤقت.

[4] ثمة شبيه لصالح في هذا الجانب وجوانب أخرى كثيرة وهو الرئيس المصري الراحل أنور السادات، هو أيضًا حالة اتحدت فيها خيارات نظامه مع صفاته الشخصية في تدمير شرعيته وإفقاد وعوده الاحترام بعد أن حقق إنجازًا وطنيًا (حرب أكتوبر)، وهو أيضًا التبست نزعة المغامرة والتهور وتسليط القوى ضد بعضها بالدهاء بسبب ضعف فهم بعض المحللين للنظام والكرسي اللذين ورثهما عن عبد الناصر. السادات كان يطلق الوعود بالرخاء الاقتصادي، ثم اتضح للناس بأنه كان يكذب، كما أن تهوره في استعداء القوى السياسية والاجتماعية الكبرى عزله تمامًا فأضحى وحيدًا مثل صالح في ثورة فبراير، وانتهى به الأمر قتيلًا دون أن تبدي قطاعات شعبية او نخبوية مصرية واسعة حزنًا يُذكر عليه.

[5] يصعب إحصاء المرات التي ذكر فيها صالح هذا التعبير بفخر في المقابلات والأحاديث، وهذا مفهوم لأنه تشبيه يمكنه من مدح نفسه وقدراته من جهة، وتصوير اليمن مستحيلة الحكم بدونه من جهة أخرى. كما أن صالح وصف اليمن في مقابلة مع قناة العربية في مارس 2011 بأنها قنبلة موقوتة.. هكذا وصف بلاده. ولكن الكتاب والمثقفين العرب وحتى الأجانب من رواد الصوابية السياسية مغرمون كذلك بهذا التشبيه –الذي يقال إنه يعود بالأصل إلى الإمام أحمد حميد الدين- حتى أن باحثة أجنبية عنونت به كتابها عن اليمن.

اظهر المزيد

أيمن نبيل

كاتب يمني مقيم في ألمانيا. يكتب في العديد من الصحف والمجلات اليمنية والعربية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى